مفهوم الدين والتدين بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي

تحتل المسألة الدينية مكانة مركزية في حياة الشعوب والأمم قديما وحديثا، وتتأتى هذه الأهمية القصوى ليس فقط فيما تقدمه في ميدان المعتقدات حول علاقة الإنسان بالله والوجود والكون، وإنما كذلك في البدائل التي تطرحها في ميدان تشييد النظام الاجتماعي والثقافي والسياسي وفق مبادئ وقيم وتصورات محددة. من هنا، يتحتم علينا لامتلاك صورة واضحة عن نوعية العلاقة القائمة بين الدين والتدين بصفة عامة، وآليات تشكل الخطاب الديني بصفة خاصة، العمل على دراسة معمقة للمسألة الدينية في الفكر العربي الإسلامي والفكر الغربي قديما وحديثا على المستويات الفلسفية والتاريخية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية والنفسية، باعتبارهما يشكلان حقلين خصبين لملامسة الظاهرة الدينية من حيث سياقاتها التاريخية، وأشكال تطور خطاباتها، وتأثيراتها في الصيرورة الحضارية للمجتمعات التي تبنتها. ولهذا سنكتفي في إطار هذا البحث بالتركيز على استحضار المقاربات التاريخية والاجتماعية والأنثروبولوجية لإضاءة بعض الجوانب التي تتعلق بمواصفات الحقل الديني. ولإنجاز هذه المهمة سنحاول أولا التعرف على الدلالات اللغوية لمفردتي الدين والتدين في القواميس العربية والفرنسية. ثانيا، التعريف بشكل مختصر بالمسألة الدينية في الفكر الإسلامي والفكر الغربي وذلك بالتركيز في كل محور على إبراز المنظورات السائدة حول الدين ومراحل تطور ذلك الدين في المجتمعات التي اعتنقته والمظاهر الكبرى للتدين في تاريخها القديم والحديث.

-1 الدلالات اللغوية لمفهومي الدين والتدين

1-1) الدلالات اللغوية لمفهوم الدين:

للتعرف على المعاني اللغوية لكلمة الدين، سنستند من جهة على معجمين عربيين هما:
– لسان العرب لابن منظور الذي جمع تحت مادة دين مجموعة من الشواهد اللغوية سواء من الشعر أو القرآن الكريم أو أقوال شخصيات دينية.
– المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية.
ومن جهة ثانية، على معجمين فرنسيين هما:
-Dictionnaire encyclopédique
-Le Robert micro
فضلا عن الشروحات اللغوية التي أوردها أحد الباحثين حول نفس الكلمة.

1-1-1) لسان العرب لابن منظور:

من الدلالات الأساسية التي أوردها لسان العرب لكلمة الدين نجد ما يلي:
– الدين: الجزاء – المكافأة – الحساب: مالك يوم الدين، وكذلك مالك يوم الجزاء.
– الدين: الطاعة.
– يقال دان. بكذا ديانة، وتدين به فهو دين ومتدين.
– الدين: الإسلام وقد دنت به.
– محبة العلماء دين يدان به “علي بن أبي طالب”.
– الدين: العادة والشأن (مازال ذلك ديني وديدني).
– دان نفسه: أذلها واستعبدها وحاسبها.
– الدين لله: طاعته والتعبد له.
– الدين: الحالُ.
– الدين: السلطان.
– الدين: القهر.
– كان على دين قومه: على عاداتهم وأخلاقهم (1).

1-1-2) المعجم الوسيط:

تتمثل أهم المعاني التي ذكرها المعجم الوسيط حول كلمة الدين فيما يلي:
– دان دينا وديانة: خضع وذل وأطاع.
– دان بهذا: اتخذه دينا وتعبد به.
– الدين: الديانة – الملك – الإسلام – السيرة – العادة – الحال – الشأن – الورع – الحساب – السلطان – الحكم – القضاء – التدبير.
– الديّان: اسم من أسماء الله عز وجل (2).

1-1-3) معنى كلمة الدين حسب مسعود حايفي:

أورد هذا الباحث الدلالات التالية حول كلمة الدين: فـ “كلمة (الدين) تؤخذ – تارة – من فعل متعد بنفسه: (دانه يدينه)، وتارة من فعل متعد باللام: (دان له)، وتارة من فعل متعد بالباء: (دانه به)، وباختلاف الاشتقاق تختلف الصورة المعنوية التي تعطيها الصيغة.
فإذا قلنا: (دانه دينا) عنينا بذلك أنه ملكه، وحكمه، وساسه، وقهره، وحاسبه، وقضى في شأنه، وجازاه، وكافأه. والدين – في هذا الاستعمال – يدور على معنى الملك والتصرف بما هو من شأن الملوك من السياسة والحكم والقهر والمحاسبة والمجازاة، ومن ذلك قوله تعالى: “مالك يوم الدين”؛ أي حكمها، وضبطها، ومنه الدّيّان؛ أي الحكم والقاضي.
وإذا قلنا (دان له) أردنا أنه أطاعه، وخضع له. فالدين ـ هنا ـ هو الخضوع والطاعة، والعبادة، وعبارة: (الدين لله) يصح فيها معنيان: (الحكم لله)، أو (الخضوع لله).
وواضح أن هذا المعنى الثاني ملازم للأول، وتابع له، دانه، فدان له؛ أي قهره على الطاعة، فخضع، وأطاع.
وإذا قلنا: (دان بشيء) كان معناه أنه اتخذه دينا ومذهبا؛ أي اعتقده، أو اعتاده، أو تخلق به. والذٓين – على هذا – هو المذهب، أو هو الطريقة التي يسير عليها الإنسان نظرياًّ، أو عمليا.
ولا يخفى أنَّ هذا الاستعمال الثالث تابع- أيضا- للاستعمالين اللذين قبله؛ لأنَّ العادة أو العقيدة التي يدين المرء بها لها السلطان عليه، ما يجعله ينقاد لها، ويلتزم اتباعها.(3) ومن الناحية الاصطلاحية، يذكر نفس الكاتب أنه قد: “اشتهر عند علماء الإسلام تعريف للدين هو: (الدين وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال والفلاح في المال). ويمكن تلخيصه بالقول: إن الدين ـ في تصور المسلمين ـ وضع إلهي، يرشد إلى الحق في الاعتقادات إلى الخير في السلوك والمعاملات”(4).

1-1-4) معجم (5) Dictionnaire encyclopédique:

جاء في هذا المعجم أن الأصل اللاتيني لكلمة religion/ الدين هي religio من relegere التي تشير إلى الدلالات التالية: احترام وإجلال وتوقير الأشياء المقدسة، تجميع وتوحيد التصور حول معتقدات محددة. أما المعاني اللغوية الحديثة فهي تدل على:
– مجموعة من المعتقدات والعقائد التي تحدد علاقة الإنسان بالمقدس.
– مجموعة من الممارسات والطقوس الخاصة بكل واحدة من تلك المعتقدات.
– الانخراط في مذهب ديني.
وقد ورد في معجم le Robert micro (6)، أن الدين:
– اعتراف الكائن البشري بمبدأ أعلى يرتبط به مصيره وما يترتب عنه سلوك فكري وأخلاقي.
– نظام من المعتقدات والممارسات الخاصة بجماعة اجتماعية.

1-2) الدلالات اللغوية لمفهوم التدين:

التديّن مصدر خماسي للفعل المزيد تَدَيَّنَ. أصله الفعل المجرد دان بكذا: اتخذه دينا وتعبد به أي اعتنق واعتقد. وتديّن تفيد كذلك التشديد في أمر دينه وعقيدته – التمسك بالدين في القول والعمل. أما من حيث الدلالات الصرفية التي تشير إليها الصيغة الصرفية تَفَعَّلَ – تفَعُّل – تديَّن – تديُّن، فهي: المطاوعة – التكلف – الاتخاذ – التجنب – التكرار – الطلب – الصيرورة(7). ولعل الدلالات المناسبة لصيغة التدين التي تعنينا في هذا المقام هي: دلالات المطاوعة واتخاذ الصيرورة وأحيانا أخرى التكلف والتصنع حينما يصبح التدين مظهر من مظاهر التباهي وقضاء الحاجات بطرق ملتوية.
وحسب محمد مصطفى الزحيلي فـ “التديُّن مأخوذ من الدِّين، ومن معانيه اللغوية: الشرع والقانون والطريقة والمذهب والملة والعادة والتقليد، من دان به، أو دان بالشيء أي اتخذه ديناً ومذهباً، أي اعتقده، أو اعتاده، ودان بالإسلام ديناً أي تعبَّد به وتديَّن، فالتدين هو الطريقة أو المذهب الذي يسير عليه المرء نظرياً وعملياً، وهو المنهج الذي يتبعه في حياته، وفي علاقته من غيره، وفي عبادته لربه، وفي خضوعه لله تعالى.
والإسلام هو دين الله تعالى الذي يدعو إلى الاعتدال في جميع جوانب الحياة، أي الاعتدال في التدين عقيدة وشريعة، عبادة ونظاما، سلوكا وأخلاقا”(8).
أما عند صاحب كتاب “الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع” عبد الجواد ياسين فـ “النص الديني “الصحيح” يتضمن ما هو مطلق ثابت يمكن وصفه بأنه من “الدين في ذاته”، وما هو اجتماعي قابل للتغير لا يجوز إلحاقه بالدين في ذاته، أي لا يجوز القول بتأبيده، لأن طبيعته النسبية المتغيرة سوف تفرض ذاتها في أرض الواقع بقوة الاجتماع وقانون التطور. الأخلاق الكلّٓيّة وحدها في التشريع أو القانون المطلق في الدين. وحين يقوم النص بإنزالها تطبيقيا على الواقع متبنياّ خيارات اجتماعية فهو يعلن أن شقاّ من البنية الدينية اجتماعي، وبالتالي قابل للتطور. يمكن تسمية هذا الشق بـ “الاجتماع المنصوص “وإلحاقه مجازا بمفهوم التديّن، من حيث هو كحصيلة التديّن ناتج عن التفاعل بين الدين والاجتماع”(9).
وهكذا يتضح أن العلاقة وطيدة بين الدين والتدين، بحيث لا يمكن الفصل بينهما إلا منهجيا من أجل التمييز من ناحية بين الطابع المطلق والثابت والمقدس للنصوص الدينية المؤسسة لدين من الأديان. ومن ناحية أخرى، بين مختلف مظاهر التدين التي يتم إنتاجها وبلورتها في سياقات مختلفة وفقا لآليات التأويل والتفسير والفهم المتبعة وكذلك بناء على المستوى الثقافي والمعرفي والظروف الاجتماعية للأفراد والجماعات والمجتمعات.

-2 المسألة الدينية في الفكر العربي الإسلامي القديم

لسنا في حاجة إلى التأكيد أن التاريخ الديني للبشرية من منظور الإسلام هو تاريخ ينقسم إلى قسمين أساسيين: القسم الأول هو ما يصطلح عليه “بالجاهلية” التي تعني في هذا الإطار من جهة الديانات الوثنية التي كانت تضع وسائط بين الإنسان والله. ومن جهة أخرى، الممارسات التحريفية التي تعرضت للديانات السماوية السابقة مثل اليهودية والمسيحية أي ما اصطلح عليه بأهل الكتاب. القسم الثاني هو تاريخ الدين الإسلامي الذي ارتبط من جهة بنزول القرآن الكريم وبداية الدعوة المحمدية وما نجم عنهما من بناء دولة الإسلام وتشكيل المجتمعات الإسلامية ارتكازا على منظومة من العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق. ومن جهة أخرى، كاستمرار وخاتمة لمجموع الرسالات الإلهية المتتابعة التي أنزلها الله على رسله في شكل كتب سماوية تؤكد وحدة الدين ومصدرها الإلهي.
بناء على ما سبق، نتبين المكانة المركزية للقرآن الكريم والسنة النبوية في تشكيل وبناء مجتمعات إسلامية على جميع المستويات الثقافية والدينية والسياسية والاجتماعية والنفسية.
على المستوى الديني، اعتبار الإسلام هو الدين الأسمى في تنظيم حياة المجتمع في كافة المجالات مع الاعتراف بالأقليات الدينية التي يمثلها أهل الكتاب في إطار ما يسمى كذلك بأهل الذمة.
على المستوى الثقافي، إعادة بناء الوعي الجماعي استنادا على المرجعية القيمية للإسلام التي عملت ما يصطلح عليه سواء بالعلوم الدينية أو النقلية او الشرعية او الإسلامية على تفسير وتوضيح وشرح أبعادها ودلالاتها.
على المستوى السياسي، تحول الدولة الإسلامية من دولة محدودة في شبه الجزيرة العربية إلى دولة إمبراطورية ضمت في إطارها شعوبا مختلفة الأجناس والثقافات.
على المستوى الاجتماعي، بناء علاقات اجتماعية جديدة تضع قواعد جديدة في تنظيم العلاقات بين الرجال والنساء وبين الفئات الاجتماعية.
على المستوى الاقتصادي، بوضع قواعد اقتصادية جديدة في المعاملات التجارية والفلاحية. والواقع أن ما يجب الإشارة إليه في هذا المضمار، هو أنه بالرغم من سيادة الدين الإسلامي كصوت أسمى في المجتمعات الإسلامية، إلا أن مظاهر التدين فيها كانت متعددة ومتنوعة تتلون وتتجدد سماتها وفق التحولات والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي كانت تعرفها في مختلف المحطات.

2-1) مظاهر التدين في التراث العربي الإسلامي:

للتعرف على مظاهر التدين في التراث العربي الإسلامي الكلاسيكي سنعتمد على ثلاثة مؤلفات قادرة على رسم صورة واضحة عن مختلف الفرق والتيارات الدينية التي كانت تشكل الحقل الديني.
الكتاب الأول لعبد القاهر البغدادي “الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم”، ثم الكتاب الثاني “الملل والنحل” للشهرستاني وأخيرا كتاب “بنية العقل العربي” لمحمد عابد الجابري. للإشارة، فإن الكتابين الأوليين ينتميان إلى القرون الأولى الهجرية مما يسمحان لنا بتكوين نظرة واضحة عن نشأة الفرق الدينية وسياقات تطورها وأهم الأطروحات الفكرية والدينية التي كانت تتبناها، أما المرجع الثالث فهو كتاب لمؤلف معاصر عمل على دراسة وتحليل التراث العربي الإسلامي مركزا على ما يسميه بالتحليل الإستمولوجي الذي يتوخى استنباط البنيات والمنظومات المعرفية التي أطرت الفكر العربي الإسلامي.

أ- “الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية”:

يرتكز عبد القاهر البغدادي في بيان افتراق الأمة الإسلامية إلى فرق متباينة على الحديث النبوي المأثور الذي ورد في روايات متعددة وأسانيد كثيرة يذكر منها ثلاث روايات(10):
الرواية الأولى، عن أبي هريرة (ض) قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة”.
الرواية الثانية، عن عبد الله بن عمرو (ض) قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل (1 ب و٢ ا) تفرق بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة تزيد عليهم ملة. كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا يا رسول الله من الملة الواحدة التي تنقلب. قال: ما أنا عليه وأصحابي”.
الرواية الثالثة، عن أنس بن مالك (ض) عن النبي عليه السلام؛ قال: “إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة”.
إن المضامين الأساسية التي يمكن استنباطها من هذا الحديث النبوي في صيغه الثلاث نجملها في العبارات التالية:
– جميع الديانات السماوية عرفت تعدد التيارات الدينية.
– هذا التعدد هو نوع من التفرقة المخالف لوحدة الأمة.
– إن جميع الفرق في الإسلام ضالة باستثناء فرقة واحدة ناجية هي الجماعة؛ أي التي تضم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: “ما انا عليه وأصحابي”.
– أن الفرق الإسرائيلية والنصرانية كلها ضالة بطبيعة الحال وليس فيها فرقة ناجية مستثناة.
ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد، أن المقصود بالفرق الضالة أو الفرق المذمومة حسب البغدادي ليس فرق الفقهاء الذين اختلفوا في فروع الفقه مع اتفاقهم على أصول الدين؛ بل المقصود بذلك: “فرق أصحاب الأهواء الضالة الذين خالفوا الفرقة الناجية في أبواب العدل والتوحيد أو في الوعد والوعيد أو في بابي القدر والاستطاعة أو في تقدير الخير والشر أو في الهداية والضلالة أو في باب الإرادة والمشيئة أو في باب الروية والإدراك أو في باب صفات الله عز وجل وأسمائه وأوصافه أو في باب من أبواب التعديل والتجويز أو في باب من أبواب النبوة وشروطها ونحوها من الأبواب التي اتفق عليها أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث على أصل واحد خالفهم فيها أهل الأهواء الضالة من القدرية والخوارج والروافض والنجارية والجهمية والمجسمة والمشبهة”(11). أما فيما يخص الفرق الدينية المصنفة ضمن “الفرق الضالة”، فهي بالإضافة إلى الفرق السابقة نجد الحلولية والمرجئة.
وفيما يتعلق الاختلافات التي أدت إلى نشأة تلك الفرق الدينية، فيمكن اختزالها في الموضوعات الأساسية التالية خاصة التي تشمل الفترة الممتدة من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ أي فترة دولة الخلافة الراشدة:
– اختلافهم في موت النبي (ص).
– اختلافهم في دفنه؛ أي هل يجب دفنه في مكة أم المدينة أم في بيت المقدس.
– اختلافهم في الإمامة؛ أي من هو الأولى والأجدر بها بعد وفاة الرسول (ص).
– اختلافهم في مانعي وجوب الزكاة ومواجهة المرتدين عن أدائها.
– اختلفوا ” في أمر عثمان لأشياء نقموها منه حتى أقدم لأجلها ظالموه على قتله ثم اختلفوا بعد قتله في قاتله وخاذليه اختلافا باقيا إلى يومنا هذا”(12).
– اختلفوا في شأن علي وأصحاب الجمل، وفي شأن معاوية وأهل صفين، وفي حكم الحكمين أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص.
ثم يذكر المؤلف أهم الاختلافات التي حصلت بين الفرق الدينية في زمان المتأخرين من الصحابة سواء فيما بين بعضهم البعض أو فيما يخص كل فرقة على حدة.
ب- الملل والنحل للشهرستاني:

إذا كان كتاب عبد القاهر البغدادي أُلّف بين نهاية القرن الرابع الهجري وبداية القرن الخامس الهجري؛ فإن كتاب “الملل والنحل” للشهرستاني ألف في بداية القرن السادس الهجري(13). وهذا الترتيب الزمني يسمح لنا بإدراك التكامل الموجود بين الكتابين خاصة من حيث الموضوعات التي تم معالجتها. تلكم الموضوعات المتمثلة في التاريخ للتيارات الدينية في الفكر العربي الإسلامي ودراسة منطلقاتها الفكرية ومبادئها وأهدافها. والحق أن الكتابين يعدان بمثابة مصادر تاريخية لا غنى عنها للتعرف على الغنى الفكري والتنوع المذهبي الذي ساد وأطر الفكر العربي الإسلامي الكلاسيكي. لذا سنواصل عرض أهم المعطيات التي تبرز مظاهر التدين في الثقافة العربية الإسلامية كما ذكرها الشهرستاني وذلك بالتطرق إلى المسائل التالية:
– الهدف العام من تأليف الكتاب.
– المنطلق المعتمد في بيان تقسيم “الملل والنحل”.
– المسائل الخلافية.
– أهم الفرق الإسلامية.
يبرز الكاتب في مقدمة الكتاب أن الهدف الأساسي من تأليفه لكتاب “الملل والنحل” هو الوقوف على مصادر وموارد “مقالات أهل العالم من أرباب الديانات والملل وأهل الأهواء والنحل” وذلك في شكل “مختصر يحتوي جميع ما تدين به المتدينون وانتحله المنتحلون”. أما المنطلق الذي اعتمده في بيان تقسيم أهل العالم إلى “أهل الديانات والملل وأهل الأهواء والنحل”، فهو تقسيم بحسب الآراء والمذاهب. فالمقصود بأرباب الديانات مطلقا مثل المجوس، واليهود، والنصارى، والمسلمين. والمقصود بأهل الأهواء والآراء مثل الفلاسفة، والدهرية، والصابئة، وعبدة الكواكب، والأوثان، والبراهمة. للإشارة، فإن كل الديانات المشار إليها أعلاه افترقت إلى فرق متعددة:
– المجوس على سبعين فرقة.
– اليهود على إحدى وسبعين فرقة.
– النصارى على اثنتين وسبعين فرقة.
– المسلمون على ثلاث وسبعين فرقة.
ويشير الشهرستاني في نفس السياق إلى أنه “من المحال الحكم على المتخاصمين المتضادين في أصول المعقولات بأنهما محقان صادقان، وإذا كان الحق في كل مسألة عقلية واحدا فالحق في جميع المسائل يجب أن يكون مع فرقة واحدة، وإنما عرفنا هذا بالسمع، وعنه أخبر التنزيل في قوله عز وجل: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: 181] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: “ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة الناجية منها واحدة والباقون هلكى”. قيل: ومن الناجية؟ قال: “أهل السنة والجماعة”. قيل: وما السنة والجماعة؟ قال: “ما أنا عليه اليوم وأصحابي”. وقال: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة”. وقال عليه السلام: “لا تجتمع أمتي على ضلالة”(14).
وفيما يخص الموضوعات الأساسية التي كانت مناط الاختلافات التي حصلت بين الفرق الدينية، يمكن من جهة، رصد الأصول الخلافية الكبرى المتمثلة في أربع قواعد هي على التوالي:
القاعدة الأولى: الصفات والتوحيد فيها وهي تشتمل على مسائل الصفات الأزلية إثباتا عند جماعة ونفيا عند جماعة، وبيان صفات الذات وصفات الفعل وما يجب لله تعالى وما يجوز عليه وما يستحيل.
القاعدة الثانية: القدر والعدل وهي تشتمل على مسائل القضاء والقدر والجبر والكسب في إدارة الخير والشر والمقدور والمعلوم إثباتا عند جماعة ونفيا عند جماعة.
القاعدة الثالثة: للوعد والوعيد والأسماء والأحكام، وهي تشتمل على مسائل الإيمان والتوبة والوعيد والإرجاء والتكفير والتضليل إثباتا على وجه عند جماعة ونفيا عند جماعة.
القاعدة الرابعة: السمع والعقل والرسالة والأمانة، وهي تشتمل على مسائل التحسين والتقبيح والصلاح والأصلح واللطف والعصمة في النبوة وشرائط الإمامة نصا عند جماعة وإجماعا عند جماعة، وكيفية انتقالها على مذهب من قال بالنص وكيفية إثباتها على مذهب من قال بالإجماع.
ومن جهة أخرى، مجموعة من الاختلافات التي رافقت الدعوة المحمدية منذ البداية وعلى مدار الدعوة الإسلامية. نقدم في هذا الإطار أبرز الاختلافات التي حصلت بين المسلمين كما أوردها مؤلف “الملل والنحل”:
– اختلافات وقعت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
– اختلافات وقعت في حال مرضه.
– اختلافات وقعت في موته.
– اختلافات وقعت في موضع دفنه.
– اختلافات وقعت في الإمامة.
– اختلافات وقعت في توارث الأنبياء.
– اختلافات وقعت في قتال مانعي الزكاة.
– اختلافات وقعت في تنصيص أبي بكر على عمر بن الخطاب بالخلافة وقت الوفاة.
أما فيما يتعلق الفرق الإسلامية، فإن المؤلف يصنفها إلى أربع مجموعات كبيرة تضم بدورها مجموعات أصغر. تتمثل الأولى في القدرية، والثانية في الصفاتية، والثالثة في الخوارج والرابعة في الشيعة.
إن الميزة الأساسية للكتاب بالمقارنة مع كتاب البغدادي، هو تناوله لمختلف الديانات سواء السماوية أو غيرها بالإضافة إلى المتكلمين والفلاسفة المسلمين واليونانيين.
وتتمثل أهم الملاحظات التي يمكن استخلاصها من هذين الكتابين فيما يلي:
– أنه بالرغم من وحدة الدين، إلا أن مظاهر التدين كانت متنوعة ومتباينة على مرّ تاريخ الدعوة الإسلامية.
– أن شرعية الاختلاف بدأت تخبو وتتقلص مع مرور الوقت إلى أن اضحت مرفوضة.
– التأكيد على فرقة “ناجية” واحدة تتمثل في أهل السنة والجماعة.
– أن المصادر الأساسية للاختلافات هو تباين المدارك والمنطلقات الثقافية والمصالح الاجتماعية.
– يلاحظ أن الكتابين لم يتطرقا إلى ظاهرة التصوف بشكل مستقل. وبتعبير آخر، لم يتناولا بالتفصيل الأطروحات النظرية والفكرية للتصوف الإسلامي في مختلف صوره. وهذا لا ينفي وجود إشارات متنوعة حول بعض رواد التصوف الداعين إلى الحلولية والتصوف السني.

ج- بنية العقل العربي:

لصاحب كتاب “بنية العقل العربي” محمد عابد الجابري مكانة متميزة في حقل دراسة التراث العربي الإسلامي. فمنذ كتابه “نحن والتراث” ومؤلفاته الأربعة حول “تكوين العقل العربي”، و”بنية العقل العربي”، و”العقل السياسي العربي”، و”العقل الأخلاقي العربي” وصولا إلى “مدخل إلى القرآن الكريم”، نعثر باستمرار على ناظم منهجي يتمثل في تبني المنهج الإبستيمولوجي الذي يتوخى دراسة الجذور المعرفية للظواهر والقضايا التراثية أو الحديثة محاولا استنباط البنيات العميقة للأنظمة المعرفية التي شكلت الثقافة العربية الإسلامية وامتداداتها التاريخية.
في هذا السياق، يمكن القول بأن كتابه حول “بنية العقل العربي” الذي رام استكشاف المنظومات المعرفية التي أطرت الفكر العربي الإسلامي القديم يعد بمثابة نبراس لإضاءة الأصول التاريخية والمعرفية لأهم “الملل” و”الفرق” الدينية والمذهبية التي نشأة وتطورت في أحضانه. ومن زاوية أخرى، يعيننا على تتبع المسار التاريخي لتلك التيارات سواء التي اندثرت أو التي استمرت في حلل جديدة.
يشير الكاتب في مقدمة كتابه، أن دراسته وتحليله للثقافة العربية الإسلامية تسمح بالقول بوجود ثلاث منظومات معرفية: منظومة البيان، ومنظومة العرفان، ومنظومة البرهان. كل منظومة تتميز بآلياتها ومفاهيمها ورؤاها. تشكل في علاقة بعضها ببعض، البنية الداخلية للعقل العربي كما تَكوَّن في عصر التدوين، وكما استمر إلى حد اليوم. النظام البياني يشمل: الفقه والكلام والنحو والبلاغة التي كان محور دراساتها وأبحاثها ومناقشاتها النص الديني الأساسي المتمثل في القرآن الكريم. النظام البرهاني: يمثله الفلاسفة والمناطقة الذين كان مناط أبحاثهم التوفيق بين الشريعة والحكمة؛ أي الفلسفة اليونانية. النظام العرفاني: يمثله المتصوفة والباطنية والإشراقيين. فالعرفان حسب الكاتب هو: “طريق الإلهام والكشف”. نظام معرفي ومنهج في اكتساب المعرفة ورؤية العالم، وأيضا موقف منه، انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية من الثقافات التي كانت سائدة قبل الإسلام في الشرق الأدنى وبكيفية خاصة في مصر وسورية وفلسطين والعراق وهو كذلك “معرفة بالأسرار الإلهية”. نشير في هذا المضمار، إلى أن هذا النظام المعرفي سنعود إلى التعریف به نظرا للعلاقة الوطيدة التي تربطه بالتصوف سواء السني أو الشيعي أو الفلسفي.
هكذا يتبين أن الفكر العربي الإسلامي شهد بزوغ عدة اتجاهات دينية وإن كانت تنطلق من مرجعية واحدة. لقد استطاعت بعض تلك التيارات من أن تصبح بمثابة عقيدة رسمية للدولة كما هو الشأن بالنسبة للمعتزلة في فترات من العصر العباسي والجبرية التي كانت عقيدة للدولة الأموية. ناهيك عن تمكن ما يسمى بالروافض والمقصود بهم الشيعة من تأسيس دول تنتسب إليهم مثل الدولة الفاطمية. وتعتبر كل هذه الفرق شكلا من أشكال ممارسة التدين ليس فقط في المجال الديني والسياسي؛ بل وكذلك في مختلف الحقول الثقافية والاجتماعية. وما تجدر الإشارة إليه، هو أن العديد من تلك الفرق استطاعت الاستمرار في أشكال متجددة ومتكيفة مع ظروف العصر المتبدلة والمتغيرة مثل جميع الفرق التي اندمجت ضمن ما سمي بأهل السنة والجماعة وبنسبة متفاوتة ما سمي بأهل الشيعة. ومنها بطبيعة الحال من اندثرت مع مرور الزمن ولم تعد مجرد تراث يمكننا من التعرف على أنماط مختلفة من التفكير و الرؤية الدينية إلى العالم. سنعمل في المحور المتعلق برصد مظاهر التدين في الفكر العربي الإسلامي المعاصر الوقوف عند أهم التيارات الدينية التي امتدت في الزمان ولازال لها حضورا فعليا ولو في أثواب جديدة.

-3 مظاهر التدين في الفكر العربي الإسلامي الحديث

نقصد بالتدين في هذا الإطار، مجموع التيارات الدينية المنظمة الكبرى في العالم العربي الإسلامي التي عايشت وسايرت مختلف اللقاءات والاحتكاكات والاصطدامات التي وقعت بين البلدان العربية الإسلامية التي كانت تحت الخلافة العثمانية أو المستقلة عنها كما هو الشأن بالنسبة للمغرب وبين الحضارة الغربية الحديثة.
لقد شكلت حملة نابليون بونابرت على مصر سنه 1798 بداية ليس فقط انكشاف أزمة الدولة العثمانية التي بدأت تنعت في مرحلتها الأخيرة “بالرجل المريض” دلالة على وضعيتها المتردية على جميع الأصعدة، بل وبروز التراجع الحضاري العام للحضارة العربية الإسلامية أمام صعود الحضارة الغربية التي عرفت جملة من التطورات الهامة ابتدأت من عصر نهضتها بالقرن الخامس عشر مرورا بعصر أنوارها في القرن الثامن عشر ووصولا إلى الثورة الصناعية والتكنولوجية التي مكنتها من السيطرة شبه المطلقة على الكرة الأرضية. أمام هذه التحولات الحاسمة، بدأ المسلمون وفي طليعتهم المثقفون والسياسيون يطرحون بقوة سؤالا مركزيا صاغه شكيب أرسلان بعبارة دقيقة، لماذا تخلف المسلمون؟
يمكن القول، أن الإجابة على هذا الإشكال الأساسي تنوعت وتباينت بحسب المنطلقات والمرجعيات الفكرية والنظرية المعتمدة في مختلف أطوار اليقظة العربية الإسلامية أو ما يصطلح عليه بالنهضة العربية الإسلامية. ما نريد التركيز عليه في هذا المضمار، هو التعرف على أهم التيارات أو الاتجاهات الدينية التي شكلت ما نسميه بالتدين الحديث في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، والتي عملت على المساهمة سواء في بلورة تصورات نظرية وعملية من أجل تفسير أسباب انحطاط الحضارة العربية الإسلامية أو في البحث عن بدائل ومشاريع مجتمعية تمتح عناصر رؤيتها من المرجعية الإسلامية.
ثمة في نظرنا، أربع محطات ساهمت بقوة في بعث وإحياء الفكر الإسلامي الحديث:
المحطة الأولى، بدأت مع دعوة محمد بن عبد الوهاب بالحجاز إلى إحياء الدين الإسلامي.
المحطة الثانية، تمثلت في حركه السلفية الوطنية بقيادة جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده بمصر التي دعت إلى التوفيق والقول بالتوافق بين الإسلام والغرب خاصة على مستوى أهمية العلم والديمقراطية في تقدم أوروبا.
المحطة الثالثة، تجسدت في بداية حركة “الإسلام السياسي” بقيادة حسن البنا وسيد قطب المنظرين الأساسيين لضرورة ولوج الإسلاميين لمعترك العمل السياسي من أجل فرض الدولة الإسلامية.
المحطة الرابعة، الدور الهام الذي لعبته الثورة الإيرانية ذات المرجعية الشيعية في طموح مختلف الأحزاب الدينية إلى السلطة.
ومما تجدر الإشارة إليه ما يلي:
أولا؛ أن هذه المحطات الأربعة كانت لها تأثيرات وامتدادات في مختلف ربوع العالم العربي والإسلامي.
ثانيا؛ أن مظاهر التدين لم تقتصر فقط على هذه الحركات الدينية المستحدثة، بل على العكس من ذلك كانت ثمة أنماطا مختلفة من التدين سواء من التدين الشعبي العام أي القيام بالشعائر والواجبات الدينية وفقا للمذاهب الفقهية الأربعة (المذهب الحنفي، المذهب المالكي، المذهب الشافعي، المذهب الحنبلي) التي أضحت مذاهب رسمية حسب كل منطقة من مناطق العالم الإسلامي أو التدين الصوفي الذي كانت تمارسه الزوايا أو التكايا أو الخنقاهات أو الطوائف الصوفية في مختلف بلدان العالم الإسلامي.
ثالثا؛ أن التيارات الدينية والفرق الحديثة المشار إليها أعلاه، تقول بارتكازها على الإسلام في بلورة تصوراتها ونظراتها في جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
رابعا؛ رغم استنادها على نفس المرجعية إلا أن ثمة تباينات واختلافات عميقة في ما بينها.
خامسا؛ أن التحول الحضاري الغربي الذي أصبحت تواجهه الاتجاهات الدينية الحديثة ينطلق من موقع ضعف واضح للتيارات الدينية الإسلامية المعاصرة عكس ما جابهته الفرق الدينية الإسلامية الكلاسيكية التي تفاعلت مع الأنساق الثقافية للحضارات الأخرى سواء الفارسية أو البيزنطية أو اليونانية من موقع مد حضاري لا جدال فيه.

-4 الدين والتدين في المغرب

لامتلاك نظرة إجمالية عن مسألة الدين والتدين في المغرب سنشير في البداية وبشكل مختصر إلى أهم العناصر التي تساعدنا على فهم مجمل التاريخ الديني للمغرب سنعتمد في هذا الإطار على كتاب جورج دراك “مجمل تاريخ المغرب” الذي قدم فكرة مركزة عن تطور المسألة الدينية في المغرب. ثانيا، سنعرض أهم الفصول والمواد الواردة في الدستور المغربي لسنة 2011م التي تبين الطابع الديني للدولة المغربية. ثالثا، سنستحضر أهم الخلاصات التي استخلصها تقرير مركز الدراسات والأبحاث المعاصرة حول الحالة الدينية بالمغرب سنة 2015م.

أ) مجمل التاريخ الديني للمغرب:

يميز جورج دراك في التاريخ الديني للمغرب بين مرحلتين رئيسيتين:
– حقبة ما قبل الإسلام.
– وحقبة انتشار وتوطيد الإسلام في المغرب.
إن الفكرة المحورية التي نستخلصها من قراءتنا للمعطيات الدينية التي أوردها المؤلف حول الحقبة الأولى، هي وجود “تعدد ديني تجلى في انتشار عدة عبادات وثنية إلى جانب عبادة الآلهة القرطاجية واعتناق المسيحية بتلويناتها المذهبية واليهودية…”(15). يتبين من هذا القول، أن المعتقدات الدينية التي كانت سائدة هي الديانات الوثنية التي تتميز بتعدد الآلهة والتحكم الشديد لقوى الطبيعة في حياة الإنسان. بالإضافة إلى ذلك، ثمة إشارة واضحة إلى حضور المعتقدات المسيحية واليهودية التي رافقت التفاعل الحضاري بين مختلف حضارات البحر الأبيض المتوسط خاصة اتصال الشعوب الأمازيغية (البربرية) بالفنيقيين والقرطاجيين والرومان.

أما فيما يتعلق الحديث عن مرحلة انتشار وتوطيد الإسلام في المغرب، يشير الكاتب إلى المعطيات الآتية:
– التذكير بأهم الحملات التي قامت بها جيوش المسلمين لفتح وإخضاع شمال أفريقيا والمغرب منذ أول حملة لأفريقية (تونس) سنة 647م.
– إبراز أهم الأسباب التي أدت إلى انتصار الفاتحين المسلمين والمتمثلة في:
– الانقسام السياسي والديني الذي كان سائدا في المنطقة.
– روح الإسلام التي تميزت ببساطتها وعدم هرميتها وتعقدها.
– التشابه بين معيشة “البربر” والعرب الفاتحين.
– تعزيز انتشار الإسلام بعد فتح الأندلس.
– انتشار الحركات الخارجية في شمال أفريقيا نتيجة الصراعات السياسية الحادة في مركز الخلافة الإسلامية بحيث أصبحت هذه المنطقة الملجأ الآمن للحركات الدينية المتمردة خاصة الشيعية والخارجية (حركة الخوارج).
– ظهور الإمارة الادريسية ودورها الأساسي في بناء نواة الدولة المغربية المستقلة عن الخلافة الإسلامية.
– الأدوار الكبرى التي قامت بها توالي الأسر الحاكمة من المرابطين إلى العلويين في ترسيخ الإسلام عقيدة ونظاما اجتماعيا وثقافيا وسياسيا.
– الإشارة إلى دور الحركة الصوفية في نشر القيم الإسلامية.
– تبيان المكانة التي حظي بها المذهب المالكي في ترسيخ الإسلام السني بالمغرب.
– الإشارة إلى أن انتشار الإسلام في هذه الحقبة لم يكن سريعا وحاسما واقتصر على المناطق المجاورة للفاتحين، ناهيك عن استمرار الارتداد(16).

ب) الإسلام في الدستور المغربي 2011م:

سنكتفي في هذا الصدد بعرض أهم المواد والفصول الدستورية التي تطرقت إلى المكانة المركزية التي يحتلها الإسلام في تحديد النظام السياسي للدولة المغربية والمرتكزات المستند عليها.
وقد ورد في تصدير الدستور: “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، الغنية بروافدها الأفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية. كما أن الهوية المغربية تتميز بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وذلك في ظل تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الإنسانية جمعاء”(17).
الفصل1: “… تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابت جامعة، تتمثل في الدين الإسلامي السمح، والوحدة الوطنية متعددة الروافد، والملكية الدستورية والاختيار الديمقراطي …”(18).
الفصل3: “الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية.”(19).
الفصل4: “شعار المملكة: الله، الوطن، الملك.”(20).
الفصل7: “… لا يجوز أن تؤسس الأحزاب السياسية على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جهوي، وبصفة عامة، على أي أساس من التمييز أو المخالفة لحقوق الإنسان.
ولا يجوز أن يكون هدفها المساس بالدين الإسلامي، أو بالنظام الملكي، أو المبادئ الدستورية، أو الأسس الديمقراطية أو الوحدة الوطنية أو الترابية للمملكة.”(21).
الفصل41: “الملك، أمير المؤمنين وحامي الملة والدين، والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية. يرأس الملك، أمير المؤمنين، المجلس العلمي الأعلى، الذي يتولى دراسة القضايا التي يعرضها عليه.
ويعتبر المجلس الجهة الوحيدة المؤهلة لإصدار الفتوى التي تعتمد رسميا، في شأن المسائل المحالة إليه، استنادا إلى مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف ومقاصده السمحة… يمارس الملك الصلاحيات الدينية المتعلقة بإمارة المؤمنين، والمخولة له حصريا، بمقتضى هذا الفصل، بواسطة ظهائر.”(22).
الفصل175: “لا يمكن أن تتناول المراجعة الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي، وبالنظام الملكي للدولة، وباختيارها الديموقراطي للأمة، وبالمكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور.”(23).
تبرز هذه الفصول ركيزتين من ركائز النظام الديني والسياسي للمملكة المغربية. تتمثل الركيزة الأولى في تبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة المطلقة في الهوية المغربية، واعتباره دين الدولة. وتتجسد الركيزة الثانية، في إمارة المؤمنين التي يحظى بها الملك كوال وراع للشؤون الدينية والسياسية من خلال مجموعة من الأجهزة والآليات لتدبير وضبط الحقل الديني عبر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس العلمي الأعلى ورابطة علماء المغرب ومؤسسات ومعاهد أخرى تهتم كل واحدة منها بجانب أو قطاع من قطاعات الشأن الديني في المغرب(24).

ج) تقرير الحالة الدينية في المغرب 2013 – 2015 من إصدار المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة:

تناول هذا التقرير خمس محاور:
المحور الأول: حول الواقع الديني بالمغرب.
المحور الثاني: الفاعلون الدينيون: الفاعلون الرسميون والفاعلون المدنيون.
المحور الثالث: حول تحديات التدين بالمغرب.
المحور الرابع: تفاعلات الدين والاقتصاد والثقافة.
المحور الخامس: الحياة الدينية لليهود المغاربة.
سنقدم باختصار المعطيات الواردة في المحورين الأولين اللذين تطرقا بشكل مباشر إلى واقع الدين والتدين في المغرب خلال الفترة الزمنية المدروسة.
في المحور الأول، تناول التقرير في فصلين توجهات التدين وتجلياته في المجتمع المغربي. تتمثل توجهات التدين في: دور الدين ومكانة الهوية والقيم في المجتمع المغربي من خلال عدد من الدراسات الدولية والوطنية التي قامت بتحقيقات وأبحاث للتعرف على التوجهات السائدة لدى المغاربة حول قضايا متنوعة منها: علاقة الإسلام بالديموقراطية، موقع المرأة في المجتمعات الإسلامية، الدولة الدينية والدولة المدنية، الوحدة والتنوع، التطرف والاعتدال في الممارسة السياسية والدينية، التحديات الاقتصادية. أما تجليات التدين فيمكن رصدها في أشكال ومستويات تعاطي أفراد المجتمع مع: المساجد، وشهر رمضان، والحج، والإفتاء الرسمي، والتوجيه الديني، والعناية بالقرآن الكريم، والتعليم الديني، والوقف(25).
في المحور الثاني، تحدث التقرير عن الفاعلين الدينيين الرسميين والفاعلين الدينيين المدنيين.
الفاعلون الرسميون: 1- إمارة المؤمنين 2- وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 3- المجلس العلمي الأعلى 4- الرابط المحمدية للعلماء.
الفاعلون المدنيون: 1- العلماء والخطباء 2- الحركات الإسلامية منها: حركة التوحيد والإصلاح – جماعة العدل والإحسان – تيار السلفية التقليدية – تيار السلفية الإصلاحية – تيار السلفية الجهادية – جماعة الدعوة والتبليغ. 3- الزوايا والطرق الصوفية بالمغرب: تتبع مستوى حضورها في المشهد الديني كأحد أدوات ضبط الحقل الديني الذي أعلن عنه منذ 2004م وجزء من السياسات العمومية الدينية التي تروم ايجاد نموذج لتدين فردي “معتدل” و”مقبول” وغير مسيس. وهذا ما يتجلى في دعم الزوايا ماديا ومعنويا (ظهائر التوقير والاحترام – هبات – امتيازات – إبراز أعمالها ومواسمها)(26).

-5 مسألة الدين والتدين في الفكر الغربي

ثمة عدة اعتبارات تدفعنا إلى إيلاء أهمية خاصة لمسألة التعرف على إشكاليات الدين والتدين في الفكر الغربي عبر مختلف محطاته التاريخية نذكر من بين أهمها ما يلي:
– غنى وتميز المسار الفكري والفلسفي والفني والعلمي للبلدان الغربية عبر ثلاث محطات زمنية كبرى تتمثل في العصور القديمة (l’antiquité)، والعصر الوسيط (le Moyen âge)، والعصور الحديثة (les temps modernes) التي تبتدئ من مرحلة النهضة (la renaissance)، مرورا بمرحلة الأنوار إلى بدايات الثورة الصناعية والتكنولوجية وصولا إلى الثورة الإعلامية والمعلوماتية.
– الأدوار القوية التي لعبتها التصورات الأسطورية والمعتقدات الدينية في تطور المجتمعات الغربية نقصد بالضبط الانتقال من نظام تعدد الآلهة في العصر اليوناني والروماني إلى السيادة المطلقة لنظام الاله الواحد مع المسيحية ثم إلى إقصاء الكنيسة من التحكم المطلق في البلدان الأوروبية.
– الإشارة إلى التفاعلات الحضارية بين البلدان العربية والإسلامية والحضارة الغربية، تلكم التفاعلات التي تميزت من جهة، بالصراع المستمر على جميع المستويات السياسية والفكرية والعقائدية. ومن جهة أخرى، في علاقات التأثير والتأثر من أجل إثبات أو فرض الذات على الآخر.
وللتعرف بشكل مركز على تطور المعتقدات الدينية في الفكر الغربي، سنشير في البداية إلى نظام تواجدها في المرحلة اليونانية، بعد ذلك سنتوقف عند ظروف نشأة المسيحية وسيادتها في الفكر الغربي الوسيط ثم نختم هذه الملاحظات بالتطرق إلى مجموعة من المقاربات الفلسفية والسوسيولوجية والثقافية والأنثروبولوجيا التي حاولت تفسير إبعاد الكنيسة ومعتقداتها الفكرية والسياسية عن السيادة في مختلف حقول المجتمعات العربية.
5-1) المرحلة اليونانية: نظام تعدد الآلهة (polythéisme)

تشير مجموعة من الكتابات(27) التي تناولت بالدراسة والتحليل المعتقدات الدينية لليونان إلى أنها كانت تتميز بالسمات التالية:
– تعدد الآلهة وأبديتها. (polythéisme-immortel)
– تحكمها في مختلف قوى الطبيعة.
– تخيل الآلهة في صورة بشرية، فهي تتزاوج وتشكل أسرا تتصارع فيما بينها من أجل التحكم في بعضها البعض.
– وجود آلهة متعاطفة مع الإنسان ككائن يثير مخاوف الآلهة المسيطرة مثل أسطورة برومثيوس (Prométhée).

5-2) مرحلة السيادة المسيحية (monothéisme):

يمكن تناول الديانة المسيحية وتاريخها من منظورات ثلاثة مختلفة تمام الاختلاف فيما بينها:
– المنظور الأول، هو منظور رجال الدين المسيحيين بغض النظر عن التباينات الموجودة بينهم. منظور يعتبر المسيح (ابن الله) جاء برسالة إلهية لخلاص البشرية تعرض للصلب وتعرض اتباعه لشتى أشكال التعذيب بسبب المعتقدات الدينية التي نادوا إليها.
– المنظور الثاني، هو منظور القرآن الكريم الذي يقر بنبوة المسيح ورسالته التي هي امتداد لكافة الرسالات التي بعثها الله عبر رسله وأنبيائه من أجل هداية البشر ودعوتهم إلى الإسلام، فهم أهل الكتاب. لكن في نفس الوقت يؤكد (أي القرآن الكريم) إن رسالة عيسى عليه السلام تعرضت للتحريف من طرف أتباعه ويرفض معتقداتهم القائلة بتأليهه وبالتثليث أي (أن الله ذو ثلاثة أقانيم) الأب والابن وروح القدس ناهيك عن رفضه قولهم بصلبه جاء في القران الكريم ﴿ وقولهم: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم﴾، سورة النساء، الآية 157.
– المنظور الثالث، هو منظور عدد من الفلاسفة والمفكرين في إطار العلوم الإنسانية الحديثة التي ترفض جملة القراءات اللاهوتية لتاريخ المسيحية وتستعيض عن ذلك بأدوات التحليل التاريخي والاجتماعي والنفسي التي تسعى إلى دراسة الدين والتدين كظواهر اجتماعية تاريخية عبرت عن حاجات اجتماعية ونفسية بطريقتها الخاصة وفق النظام المعرفي العام الذي كان سائدا في تلك الأزمنة.
إن ما نود التركيز عليه في هذا الصدد، ليس هو تفصيل القول في تطور المعتقدات المسيحية؛ بل التذكير فقط بأهم المراحل التي مرت منها المسيحية منذ نشأتها إلى حدود إقصائها من التأثير المباشر في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، كل ذلك بغية امتلاك صورة عامة عن المكانة التاريخية الهامة التي احتلتها الديانة المسيحية في تاريخ الفكر الغربي مما سيساعدنا على إدراك مجموع التطورات والقطائع التي عرفتها وأحدثتها الأزمنة الحديثة الأوروبية في مواجهة الهيمنة المطلقة لتصورات الكنيسة المسيحية في مختلف الحقول الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ويمكن القول أن تاريخ المسيحية ينقسم إلى ثلاث مراحل(28):

– المرحلة الأولى:

تمتد من بداية دعوة عيسى عليه السلام وتعرضه للاضطهاد هو وأنصاره إلى حدود مطلع القرن الرابع ميلادي وبالضبط إلى سنه 313م حيث أصدر الإمبراطور الروماني قسطنطين مرسوم الاعتراف بالمسيحية واعتبارها الدين الرسمي للدولة. ومن مميزات هذه المرحلة:
– تحول النصرانية التي تعتبر من منظور الرؤية الإسلامية الدين السماوي الذي أنزل على عيسى عليه السلام إلى عقيدة التثليث الأب والابن والروح القدس التي صاغها بولس والتي ستتبناها الإمبراطورية الرومانية.
– صياغة الأناجيل الأربعة التي تعتبر في نظر المسيحية “إعلان لرسالة المسيح بفم وقلم كل من متى ومرقس ولوقا ويوحنا الذين دونوا كتبهم بوحي من روح الله”.
– ظهور شخص أريوس الذي رفض عقيدة التثليث والقول على عكس ذلك بأن “المسيح ليس إلها” والتأكيد على إنسانية المسيح والفصل بين الأب والابن وهي دعوة إلى التوحيد كما جاءت بها النصرانية في الأصل.

– المرحلة الثانية:

تمتد من القرن الرابع إلى حدود القرن الخامس عشر بداية عصر النهضة الأوروبية والإصلاح الديني، تميزت هذه المرحلة بـ:
– تحول المسيحية إلى ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية الشرقية والغربية.
– نشوء الكنيسة والبابوية كمؤسسة سياسية تتدخل بشكل مباشر في الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات الأوروبية.
– بروز أولى الانقسامات الكبرى في المسيحية وذلك بتمايز المسيحية الأرثودوكسية عن المسيحية الكاثوليكية. فالأولى انتشرت في الجزء الشرقي للإمبراطورية الرومانية التي أصبحت تعرف بالإمبراطورية البيزنطية، والجزء الغربي للإمبراطورية الرومانية التي ستشمل مجموعة من البلدان شكلت في العصر الوسيط مملكات مستقلة سياسيا لكنها موحدة دينيا في إطار الكنيسة الكاثوليكية.

– المرحلة الثالثة:

تشمل الفترة من القرن الخامس عشر إلى بداية القرن العشرين، حيث سيتم الفصل النهائي بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة، كما تم ذلك في قانون العلمنة سنة 1905م بفرنسا. وتعتبر هذه المرحلة الغنية بتحولاتها الفكرية والفلسفية والعلمية والدينية والاقتصادية، مرحلة حاسمة في تجريد وتفكيك السلطة الدينية والدنيوية للكنيسة والملكيات ذات الحكم المطلق المتحالفة معها. ويمكن إجمال تلك التطورات في النقاط التالية حسب jacob Burchhardt وAndré compt-sponuille:

– إعادة اكتشاف التراث الفلسفي والسياسي والفني الإغريقي والروماني.
– بروز النزعة الإنسانية (humanisme) والفردية (individualisme) باعتبارهما قيمتان فكريتان تعتبران أن الإنسان يمتلك قدرات عقلية تسمح له بالتفكير في تخطيط شؤون حياته بدون وصاية السلطة الدينية والسياسية للكنيسة والحكام الذين تسهر على تنصيبهم ودعمهم. وهو الاتجاه الفكري والفلسفي الذي أرسى أسسه مجموعة من الفلاسفة نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر picdelamirandole – René Descartes – Emanuel Kant … إلخ.
– الثورة العلمية التي أحدثتها نظريات “كوبرنيك وغاليلو” فيما يخص دحض النظرية السائدة التي تقول بمركزية الأرض في الكون.
– بزوغ حركة الإصلاح الديني البروتيستاني مع مارتن لوثر Martin Luther بألمانيا وZwiglili بسويسرا ثم Calvin بفرنسا. شكلت هذه الحركة الضربة القاصمة التي هزت أركان الكنيسة الكاثوليكية، وأدت إلى التراجع التدريجي لسلطتها. إن أهم المرتكزات التي استندت عليها هذه الحركة الدينية الجديدة هي: إدانة ابتعاد الكنيسة عن وظيفتها الروحية وانغماسها في الشؤون السياسية والحياة الدنيوية، ثم إدانة ما يسمى بـ “صكوك الغفران” التي ابتدعتها الكنيسة لجمع الأموال الطائلة مقابل حجز مقعد قبلي في “الجنة”. وقد اعتبرت هذه القضية بمثابة قمة استشراء الفساد والانحراف عن المثل الدينية المسيحية.
– آثار الكشوفات الجغرافية التي توجت باكتشاف القارة الأمريكية مع كريستوف كلومبس.
– بدايات جنوح بعض الملكيات نحو الاستقلال عن سلطة الكنيسة المركزية كما نجد ذلك في تجربة Henri 4 بإنجلترا مما سيمهد لظهور الأنجلكاتية كحركة دينية إصلاحية وسطية بين البروتستانتية والكاثوليكية.
– إرهاصات بروز نمط الإنتاج الرأسمالي في مجال العلاقات التجارية ثم تجمع الورشات الصناعية اليدوية التي ستتجه نحو الاستخدام التدريجي للتقنيات والآليات الصناعية الحديثة في الإنتاج والتوزيع والتسويق. مما سيؤدي إلى التراكم الرأسمالي كنمط جديد في التدبير الاقتصادي للمجتمعات الحديثة.

5-3) مرحلة تجريب بدائل جديدة:

تعتبر الأزمنة الحديثة مرحلة جديدة في تاريخ أوروبا. فهي إذ تخلصت من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية وما استتبع ذلك من رفض شامل لتدخل الدين في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية؛ فإن الشعوب الأوروبية ولجت مرحلة تجريب مجموعة من البدائل الإيديولوجية والثقافية للبحث عن حلول مستحدثة المختلف الإشكاليات المطروحة على كافة الأصعدة. وهذا ما جعل الحداثة مشروعا مفتوحا على كل الاحتمالات وسعيا متوترا لبلورة إجابات مؤقتة لا غير. ويمكن تبين هذه الملاحظة في تنوع واختلاف المقاربات في تحليل وتفسير المسألة الدينية كما سنوضحه من خلال عرض أهم التصورات التي بلورها المفكرون الغربيون حولها.

5-3-1) المقاربة الوضعية لأوغست كونت(29):

ترى هذه المقاربة أن التاريخ الفكري للبشرية مر بثلاث مراحل كبرى. المرحلة اللاهوتية، والمرحلة الميتافزيقية (ما وراء الطبيعة)، والمرحلة العلمية. تتشكل المرحلة الأولى، من ثلاث صيغ من صيغ الوعي الديني: الصيغة الفتيشية (الإحيائية). وهي صيغة تمنح للأجسام الخارجية عن الإنسان نفس الخصائص التي تميز حياته. وبعبارة أوضح، تعتبر العالم الطبيعي عالم على شاكلة عالم الإنسان، عالم يتكون من روح وجسم. وما يميزه بالدرجة الأولى هو جبروته على الإنسان نفسه.
– صيغة تعدد الآلهة (polythéisme): تتميز هذه الصيغة بتجاوز اعتبار الطبيعة كائنا روحيا، إلى تصور وجود كائنات روحية متعددة مستقلة عن الطبيعة تتحكم فيها (أي في الطبيعة).
– صيغة الإله الواحد (monothéisme): تتسم بتوحيد القوى الروحية إلى قوة واحدة تتحكم في الكون.
وتتسم المرحلة الثانية بتطور الفكر البشري نحو الرؤية الفلسفية التي تسعى إلى العقلانية في تفسير إشكالات الوجود.
أما المرحلة الثالثة فتتميز بالابتعاد التام عن البحث في الأسئلة والإشكالات الميتافيزيقية المتعلقة بأصل الوجود ومآلاته، إلى الاكتفاء بالبحث العلمي والعقلاني للحياة البشرية في إطارها التاريخي وفي علاقتها بالمحيط الطبيعي كوجود مستقل قابل للفهم والإدراك.

5-3-2) المقاربة الجدلية التاريخية لكارل ماركس وفريدريك إنجلس(30):

ترتكز المقاربة الماركسية في تفسيرها للمسالة الدينية على مستويين: المستوى الفلسفي والمستوى الاجتماعي. يتأسس الموقف الفلسفي على الانحياز المباشر للتصور المادي للكون الذي يقر بأن أصل العالم بجميع مكوناته بما فيها الإنسان هو المادة كمفهوم فلسفي نشأت وتطورت بشكل ذاتي ومستقل عن كل قوة خارجية عن إطارها. أما الموقف الاجتماعي الذي هو امتداد طبيعي للتصور الفلسفي، فهو يستند على آليتين منهجيتين في تحليل وتفسير الظواهر الاجتماعية والفكرية. الآلية المنهجية الأولى تعتبر أن الوجود الاجتماعي والتاريخي للإنسان هو الذي يحدد بالدرجة الأولى وعيه الاجتماعي دون إغفال علاقة التأثير والتأثر بينهما. وتندرج هذه الآلية بطبيعة الحال في إطار ما كانت تسميه المقاربة الماركسية بالعلاقة الجدلية بين البنية الفوقية التي هي عبارة عن البنية الفكرية في جميع تمظهراتها، والبنية التحتية التي تتمثل أساسا في البنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات. أما الآلية المنهجية الثانية، فهي تميز في الظاهرة الدينية بين جانبين أساسيين: الجانب المحافظ للدين، عندما يتحول إلى ” أفيون للشعوب ” كوسيلة تستخدمه الفئات المسيطرة لتخدير الوعي الإنساني بجعله يجهل الأسباب الحقيقية والمعطيات الموضوعية الكامنة وراء وجوده ووضعه الاجتماعي. والجانب الثوري، عندما يصبح أداة في يد الفئات المستضعفة للسعي نحو تحررها. وتستدل الماركسية في هذا الإطار بتاريخ المسيحية التي تقلبت عبر التاريخ بين أداة للتحرر وأداة لتأييد سيطرة طبقة اجتماعية على أخرى. لكن ما ينبغي الإشارة إليه، هو أن الموقف الاجتماعي المشار إليه أعلاه حول الظاهرة الدينية، يتعلق فقط بالمراحل التي سبقت المرحلة الشيوعية التي ستعرف اضمحلال مختلف البنيات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية السابقة عليها.

5-3-3) المقاربة السوسيولوجية لإميل دوركايم(31):

يمكن استقاء تصور دوركايم لمسألة الدين من ثلاث مؤلفات أساسية من إنتاجه الفكري العام: “قواعد المنهجية السوسيولوجية”، و”التربية الاخلاقية” و”الحياة الدينية في أستراليا”.
في الكتاب الأول، أدرج المعتقدات والممارسات الدينية ضمن الوقائع الاجتماعية والظواهر الشيئية الطبيعية، تتميز بنوع من الاستقلالية عن الأفراد رغم أنها نتاج تاريخي لوجودهم في سياقات مختلفة. فهي مفروضة بحكم التربية التي يتلقاها جيل عن جيل سابق. في المؤلف الثاني، تطرق دوركايم إلى الدين من زاوية علاقته بالأخلاق حيث يدعونا إلى التمييز بين القواعد الأخلاقية بصفة مستقلة، وبين القواعد الأخلاقية الدينية. فالأولى هي قواعد لازمة في كل مجتمع من المجتمعات بغض النظر عن الديانة المعتنقة فيه. أما القواعد الأخلاقية الدينية فهي مجرد القواعد التي تستمد قيمتها من دين من الديانات. إن حديث دوركايم يأتي في سياق محاولة بناء بديل أخلاقي للمجتمع الفرنسي الذي ثار على الكنيسة الكاثوليكية بسبب تحالفها مع السلطة الإقطاعية القائمة لكن في نفس الوقت وجد نفسه أمام فراغ كبير في تأسيس منظومة أخلاقية جديدة. وفي الكتاب الثالث، نلاحظ أن دوركايم سعى إلى دراسة المسألة الدينية في أستراليا بشكل مباشر وذلك باتخاذها كموضوع مركزي للتفكير النظري بناء على بحث تاريخي ميداني يتعلق بدراسة المعتقدات الدينية الأسترالية كما هي معاشة عند شعوب لازالت في مرحلتها البدائية.
إن المقومات الأساسية التي ميزت تصور دوركايم للدين هي:
– التأكيد على الأهمية الكبرى للدين في حياة الشعوب عبر مختلف المحطات البشرية.
– إبراز الحاجات العميقة التي تدفع الإنسان للتدين.
– التعرف على الجذور الاجتماعية والثقافية والنفسية العميقة للتصورات الدينية.
– الإلحاح على الأرضية المشتركة لجميع الديانات البدائية والمتطورة من حيث المرجعيات والمنطلقات في بناء التصورات الدينية.
– تفضيل البحث في الديانات البدائية لأنها تكشف علاقاتها المباشرة بالواقع الطبيعي والواقع الاجتماعي في تشكيل المعتقدات والممارسات الدينية. في حين يعتبر أن الديانات المتطورة رغم احتفاظها على نفس البنية التي عبرت عنها الديانات البدائية، إلا أنها اتخذت أشكالا فكرية معقدة لا يمكن رصدها بسهولة.

5-3-4) المقاربة الثقافية لماكس فيبر(32):

يعتبر كتاب ماكس فيبر ” الأخلاق البروتيستانتية وروح الرأسمالية ” أساس المقاربة الثقافية التي انتهجها في دراسة وتحليل العلاقات الموجودة بين الواقع الاقتصادي والاجتماعي والبنى الثقافية والدينية في التطور التاريخي للمجتمعات البشرية. فالتصور الجديد الذي تتبناه يتمثل في التركيز على إبراز القيمة الحاسمة للوعي الذاتي والجماعي للأفراد والجماعات في بناء مشاريع وعلاقات اجتماعية جديدة. فعلى عكس النظرية الماركسية التي اعتبرت العامل الاقتصادي هو العنصر الحاسم في آخر المطاف في تطور المجتمعات البشرية؛ وعلى عكس ذلك المقاربة الوضعية للعلوم الاجتماعية التي سعت إلى تحليل الظواهر الاجتماعية بنفس الصرامة المنهجية للعلوم الطبيعية لاستخلاص القوانين والأسباب الدقيقة التي تحركها؛ فإن مقاربة ماكس فيبر حاولت كشف الدور الرئيسي للعوامل غير الاقتصادية في التطور التاريخي للمجتمعات البشرية.
ولتوضيح المعالم الميدانية والمعالم النظرية لأطروحته الجديدة، قام ماكس فيبر بإتباع سبيلين منهجيين متكاملين: السبيل المنهجي الأول هو رصد مجموعة من المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية التي تبين الميولات الاجتماعية والاقتصادية للأسر والعائلات؛ بل وللمدن والمناطق التي يتواجد بها صنف من البروتيستانيين. والأمثلة الدالة على ذلك: ملاحظة الطابع البروتستاني لدى رؤساء المقاولات والفئات العليا من العمال، والنسبة الكبرى للبروتستانيين المتوفرين على أعلى الرساميل، والمناطق الاقتصادية الأكثر تطورا كانت مهيأة بشكل أفضل للانخراط في البروتيستانية، وأن تلاميذ الأسر البروتيستانية تتجه في التعليم الثانوي نحو الدراسات التقنية والصناعية والتجارية رغم أن نسبة الكاثوليكيين هي الأكثر وتتوفر على امتيازات أفضل. أما السبيل المنهجي الثاني، فقد تمثل في بلورة مجموعة من الخلاصات النظرية نذكر منها ما يلي:
– التركيز على الشروط الذاتية للأفراد والجماعات في تطور المجتمعات.
– اعتبار الإنسان كائن ثقافي باستطاعته التموقع بوعي في الحياة الاجتماعية والثقافية متى تمكن من فهم وإدراك الشروط الموضوعية التي يعيش في أحضانها.
– التأكيد على المكانة الحاسمة للعوامل الثقافية واللامادية في التطور الاجتماعي والاقتصادي؛ فالأفكار لها دور حيوي في التاريخ.
– حصول توافق تاريخي موضوعي بين تطور الرأسمالية الحديثة و البروتيستانتية.
– إبراز أن العصر الحديث لم ينشأ في الصراع ضد الدين بالمطلق ولكن ضد تأويل محدد له.

5-3-5) المقاربة الفلسفية و الأنثروبولوجية لـ Dany – robert Dufour) 33):

تعتبر هذه المقاربة الوعي الديني جزءًا أساسيا ومكونا جوهريا في حياة الإنسان. وتتجسد المرتكزات التي تستند عليها هذه المقاربة في مسألتين:
المسألة الأولى تتمثل في التأكيد على الهشاشة الجسدية الطبيعية للكائن البشري التي لا تسمح له بالحفاظ على نفسه ونوعه دون التطوير المستمر لقدراته العقلية والتقنية لاستكمال بنية تكوينه الناقصة أصلا، وذلك باستدماج واستيعاب البنيات الثقافية الموجودة كخطوة لا مناص منها لمواجهة الصعاب التي تعترضه في محيطه الطبيعي والاجتماعي. وفي هذا الإطار، لابد من الإشارة إلى الدور الحاسم الذي لعبته اللغة في تطوير مختلف الكفايات المعرفية والتواصلية والتقنية و الإبداعية للإنسان باعتباره كائنا عاقلا.
المسالة الثانية التي يرتكز عليها صاحب هذه المقاربة، هي التأكيد على الطبيعة الثلاثية للعملية التواصلية. فإذا كانت البنيوية اللسانية قد اكتفت بالحديث عن العلاقات التواصلية الموجودة بين المرسل والمرسل إليه كمكونين أساسين للعملية التواصلية، مهملة السياق الثقافي والتاريخي الذي تنتظم فيه؛ فإن الرؤية الجديدة تستلزم التوقف بشكل قوي عند الدور الأساسي الذي تلعبه البنيات الثقافية والدينية الموجودة كمكون ثالث في تلك العملية. فالعلاقة التواصلية بين متكلم ومخاطب مفرد أو جماعة تتكئ ضرورة على تصورات ثقافية بالمعنى الأنثروبولوجي للثقافة باعتبارها تشمل مختلف الأفكار والمعتقدات الدينية والفلسفية والأدبية والفنية والعادات والتقاليد والطقوس الاجتماعية. ولهذا، فالإنسان يخضع منذ نشأته إلى التصورات الفكرية والدينية السائدة في محيطه التي تطبع نمط نشأته وتربيته وسلوكه الاجتماعي والثقافي. صحيح أن هذه التصورات الفكرية والدينية تبدو ثابتة؛ بل وجامدة لا تتبدل ولا تتغير، إلا أن الوعي التاريخي والمقاربة العقلانية للأحداث وتاريخ الأفكار والمعتقدات تبرز وتكشف مختلف التحولات والتطورات التي تسري عليها كما تسري على جميع مكونات المحيط الطبيعي والاجتماعي.
وإذا كان الفكر الغربي قد خضع في مختلف محطاته التاريخية إلى منظومات دينية وإيديولوجية استطاع أن يستوعبها ويتجاوزها؛ فإن المنظومة الثقافية الجديدة التي تحولت إلى ديانة طبيعية لا خلاص منها هي “العقيدة الليبرالية الجديدة” التي تعد بمثابة غطاء ايديولوجي للرأسمالية الاقتصادية المعاصرة التي تسعى إلى تصفية الأسس الفلسفية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية للديموقراطيات الغربية الحديثة.
إن الأطروحة المركزية التي عمل دوفور على دحضها في مجموع كتاباته، هي رفض اعتبار “الليبرالية الجديدة” بمثابة المرحلة الأخيرة في التطور الفكري والاقتصادي والاجتماعي للمجتمعات البشرية كما زعم ذلك مجموعة من المفكرين الذين اعتبروها “نهاية التاريخ” كما هو الشأن عند فوکویاما.
ما هي الخلاصات الأساسية التي يمكن استنباطها من الدراسات أعلاه؟ يمكن بلورتها في النقاط التالية:
– التأكيد على المكانة الكبرى للدين في حياة مختلف الشعوب قديما وحديثا.
– إبراز التنوع الكبير للمعتقدات الدينية حسب البيئات التاريخية الثقافية والاجتماعية وما ينجم عنه من تعدد الديانات وتعدد الوعي الديني.
– الإشارة إلى أن طابعه المقدس لا يعني عدم القدرة على فهمه متى توفرت شروط الحرية والبحث العلمي.
– تبیان دوره التأثيري الكبير في الحياة الثقافية والاجتماعية وبلورة نظام القيم بصفة عامة.
– تنوع وتعدد المقاربات والتأويلات في فهم الظاهرة الدينية نتاج لتفاوت المنطلقات المعرفية والإيديولوجية و تفاوت المصالح.
– تأكيد التجربة الدينية الأوروبية على أن هزم الدولة الدينية واجتثاث جذورها الفكرية والاجتماعية والسياسية والثقافية، عملية تاريخية شاقة ومريرة، تحتاج إلى تضافر جملة من العوامل الموضوعية والذاتية لتحقيقها. من الناحية الثقافية والفكرية و الإيديولوجية، لابد من إبداع فلسفة جديدة لملء الفراغ الذي ستحدثه تجاوز الرؤية الدينية المهيمنة سابقا. من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، لا مناص من تشييد قاعدة مادية ملائمة لتشكيل الإنسان الجديد من أجل تلبية حاجياته المادية والمعنوية. من الناحية السياسية، لا مفر من إنجاز ثورة سياسية ديموقراطية. وهكذا، فبدون الإصلاحات الدينية البروتستانية التي بلورت تأويلا متقدما في الرؤية الدينية للإنسان والمجتمع، وبدون المساهمة المقدامة والحاسمة لرواد النهضة الأوربية وفلاسفة عصر أنوارها في خوض معركة ضارية تجاه الايديولوجية الدينية المسيطرة سواء من خلال مناقشة أسسها الفكرية والفلسفية أو من خلال اقتراح بدائل ملموسة، وبدون معركة سياسية طويلة النفس خاضها أنصار الفكر الجديد الرافض لسيطرة الدولة الدينية، ما كان للأزمة الحديثة أن ترى النور. وما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد، هو أن إلغاء الدولة الدينية لم يكن يعني بالضرورة القضاء على الرؤية الدينية مطلقا. غير أن تحرير المجتمع من أغلالها طرح من دون شك إعادة النظر بشكل جذري في مجموع المنظومة الفكرية السالفة. وهذا ما نجم عنه تحويل الرؤية الدينية إلى مسألة فردية تخص التأمل الذاتي للشخص لا غير. لقد تم اجتثاث الدولة الدينية وليس اجتثاث الفكرالديني. ولعل هذا ما يوضح استمرار ظلال التصورات المسيحية في الحياة الثقافية والاجتماعية بل وحتى السياسية لكن في احترام تام للدولة المدنية الديموقراطية. إن إلحاحنا على هذه المسألة الأخيرة، يتضمن إشارة إلى أن الالتقاءات الموضوعية التي حصلت بين القوى الديموقراطية وبعض التعبيرات السياسية الدينية في ايطاليا وفرنسا وأمريكا اللاتينية خلال مرحلة سيطرة الفاشية والنازية الأنظمة الاستبدادية فرضته ضرورة المعركة المشتركة من أجل الحفاظ على الدولة الديموقراطية التي أبرزنا دورها التاريخي في القضاء على الدولة الدينية.
– فيما يخص التجربة الدينية في البلدان العربية الإسلامية، نلاحظ أن بناء الدولة الديموقراطية لازال في حاجة إلى معارك حقيقية من لدن الطبقات والفئات والقوى التي لها مصلحة أكيدة في تشييدها، سنعود إلى الحديث عن أبعادها في دراسة أخرى خاصة فيما يتعلق إشكالية نوعية العلاقة بين القوى الديموقرطية واليسارية والقوى الدينية.

الإحالات:

-1 أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور: لسان العرب، المجلد 14، دار صادر بيروت.
-2 إبراهيم أنيس، عطية الصّو الحي، عبد الحليم منتصر ومحمد خلف الله أحمد: المعجم الوسيط، الجزء 1 و 2، صادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ط 2، 1972م.
-3 مسعود حايفي: مدخل إلى دراسة الأديان، دار الأوائل – دمشق، ط 1، 2010م، ص ص (18 – 19).
-4 المرجع نفسه، ص 21.
-5 B. Eveno et Claude Kannas: Dictionnaire encyclopédique, Larousse Bordas, 1998, p 1339.
6- Alain Rey, le Robert micro, Imprimer en Italie par L.E.G.O.s.p.A., 2009, p 1138.
-7 أحمد الحملاوي: شذرات العرف في فن الصرف، المكتبة العلمية – بيروت، ط 12، 1957م، ص 43.
-8 محمد مصطفى الزحيلي: الاعتدال في التدين فكرا وسلوكا ومنهجا، منشورات كلية الدعوة الإسلامية الجماهيرية – طرابلس، ط 2، 1992م، ص 5.
-9 عبد الجواد ياسين، الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع، المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء، ط 2، 2014م، ص ص (8 – 9).
-10 عبد القاهر البغدادي: الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم، منشورات دار الآفاق الجديدة – بيروت، ط 5، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة، 1982م، ص 5.
-11 المصدر نفسه، ص 6.
-12 المصدر نفسه، ص 14.
-13 أبي الفتح محمد عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني: الملل والنحل، تحقيق عبد العزيز محمد الوكيل، الجزء 1، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر، القاهرة، 1968م.
-14 المصدر نفسه، ص 11.
-15 جورج دراك: ” مجمل التاريخ الديني للمغرب “، المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، السنة 4، العدد 13/14 – 1991/1992، ص 82.
-16 المرجع نفسه، النقاط المذكورة خلاصة عامة لمضامين الكتاب. ص ص (79 – 144).
17- الدستور الجديد للمملكة المغربية، إعداد وتقديم امحمد لفروجي، ط 1، مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء، 2010م، ص 19.
-18 المصدر نفسه، ص 21.
-19 المصدر نفسه، ص 21.
-20 المصدر نفسه، ص 21.
-21 المصدر نفسه، ص 21.
-22 المصدر نفسه، ص 34.
-23 المصدر نفسه، ص 175.
-24 يمكن الرجوع إلى الموقع الإلكتروني لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للتعرف بشكل أدق على مختلف القطاعات الموجودة بالوزارة.
-25 امحمد الهلالي: الحالة الدينية في المغرب 2016 – 2017، المطبعة LINA، منشورات المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، العدد 5، 2018، ص ص (13 – 56).
-26 المرجع نفسه، ص ص (59 – 94).
-27 يونس لوليدي: الأسطورة بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية، مطبعة أنفو برانت فاس، ط 1، 1996، ص ص (7 – 40). ويمكن العودة إلى عدد مجلة عالم الفكر الذي يتضمن عدة دراسات حول مفهوم الأسطورة عند اليونان: المجلد 40 عدد 4 أبريل يونيو 2012، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب دولة الكويت.
-28 من المراجع التي اعتمدناها في كتابة هذه الفقرات نذكر:
– محمد عابد الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم الجزء 1 في التعريف بالقرآن، دار النشر المغربية – الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 2006م، ص ص (25 – 65).
– سالمة عبد الجبار: الدين والسياسة، مطبعة فضالة – المحمدية، المغرب، 1994م.
– مصطفى حلمي: الإسلام والأديان دراسة مقارنة، دار ابن الجوزي – القاهرة، مصر، ط 1، 2005م.
– نص الإنجيل: النشرة الرابعة، 1992م، ط 2، 2001م، جمعية الكتاب المقدس في لبنان، 2012م.
-29 August Compte: Discours sur l’esprit positif, imprimerie de la manutention a Mayenne – Septembre 1990, Edition classique.
-30 للتعرف على التصور الفلسفي الماركسي للمسألة الدينية يمكن العودة إلى كتاب فريدريك إنجلس لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، دار التقدم موسكو.
31- Emile durkeim: les règles de la méthode sociologique, flammarion, Paris, 2009.
– Emile durkeim: les formes élémentaires de la vie religieuse, quadrige 7ème édition, France, 2013.
32- Max Weber : l’éthique protestante et l’esprit du capitalisme, édité, traduit et présenté par Jean-Pierre Grossein, Editions Gallimard, France, 2003.
– Max Weber : sociologie des religions, édité, traduit et présenté par Jean-Pierreff Grossein, Editions Gallimard, France, 1996.
33- Dany – robert Dufour : L’art de réduire les têtes sur la nouvelle servitude de l’homme libéré à l’ère du capitalisme total, Editions Denoël, Paris, 2003.

بنبوعزة عبدالقادر

Related posts

Top