رغم الانتشار الواسع الّذي حقّقه الفنّ التّشكيليّ بالمغرب، منذ استقلاله إلى اليوم، وبالرّغم من تحرّره من عوائق التّقاليد الدّينيّة والعرفيّة الّتي حاصرته في مراحله الأولى، وجعلته مجالا محاربا تحت مبرّر حرمة التّصوير، فإن انعدام الثّقافة البصريّة لدى المغاربة، خاصّة بشأن هذا النّوع من الفنون، كان عائقا أمام تطوره.
ومع أنّ هذا الفنّ، تحديدا، احتضن أجيالا من الشّباب، الّذي أخذ على عاتقه مهمّة الدّفع بهذا النّوع من التّعبير عن الوظائف الفنّيّة الإبداعيّة، فإنّ ذلك لم يفض بتاتا إلى تربية جمهور عريض له في البلاد، كما لم يفلح في خلق عدد كاف من النّقاد والفنّانين، أو الرّقيّ بآليات الاشتغال نحو الاحترافيّة المطلوبة، رغم وفرة المعارض والمهرجانات التّشكيليّة، الّتي انتشرت بكثرة مؤخّرا، خاصّة على مستوى المدن المغربيّة الكبرى.
وفي الوقت الّذي تسلّط الأضواء على معارض الأقطاب السّياحيّة للمدن المغربيّة الكبرى، خاصّة تلك التّي تستقطب الكثير من الأجانب، كمرّاكش، الدّار البيضاء، الرّباط، أكادير، فاس وطنجة، فإنّ مدنا أخرى كتطوان ظلّت على هامش هذه الأضواء، وعلى هامش التّظاهرات الدّوليّة والوطنيّة، رغم ارتفاع عدد محترفي هذا الفنّ بها، ورغم أنّها تعتبر من أوائل المدن المغربيّة الّتي أُسّس فيها معهد الفنون الجميلة.
الفن التّشكيليّ بين النّشأة والامتداد
يعتبر الفنّان التّشكيليّ حميد العلوي، وهو من خرّيجي شعبة الفنون التّشكيليّة بمؤسّسة مولاي يوسف التّقنيّة بطنجة، والحاصل على شهادة في مجال الهندسة الدّاخليّة وتصميم الدّيكور بأحد معاهد باريس، أنّ الفنّ التّشكيليّ بالمغرب “هو زيت على قماش، مما يجعله وافدا جديدا ورثناه عن المستعمر”، مضيفا أنّ “بداية هذا الفنّ عرفت عددا محدودا من ممارسيه، حيث لم يكن يقتحم عالمه إلاّ جيل من الجرّيئين والمتمرّدين وعدد ممّن فشلوا في تحصيلهم الدّراسيّ وتوفّرت لديهم موهبة الرّسم، وكانوا كلّهم من الرّعيل الأوّل الّذي بصم اسمه في السّاحة الفنّيّة، نظرا إلى الفراغ الّذي كانت تعرفه آنذاك”.
بالمقابل، يرى حميد، الّذي يقيم متنقّلا بين تطوان وبرشلونة، في رحلة بحثه عن الفكرة الفنّيّة، منظّما معارض فرديّة وجماعيّة على الصّعيدين الوطنيّ والعالميّ، أنّ الحاضر جلب للسّاحة الفنّيّة تغييرات كبيرة، منها ارتفاع عدد الفنّانين الممارسين للفنّ التّشكيليّ، وتعدّد الملتقيات والمهرجانات التّشكيليّة بشكل لم يسبق له مثيل، “وهو ما يدفع إلى القول بأنّ هناك حركة قويّة دافعة لبداية حقيقيّة لهذا المجال الفنّيّ، الّذي يعتبر في تاريخ الفنون التّشكيليّة بالمغرب وافدا جديدا على ثقافتنا ومعتقداتنا، الّتي كانت تحرّم علينا كلّ تشخيص”، وفق تعبيره.
وقال المحافظ المتحفيّ، كما يحلو لعدد من مقرّبي العلوي أن ينادوه لطريقته الخاصّة في استحضار أزمنة غابرة في ضوء أسئلة وانشغالات التّاريخ المعاصر، إنّ “هناك اليوم حركة وتمرّدا واندفاعا نلاحظه من خلال عدد من الملتقيات، وعدد من الأشخاص المتعاطين للميدان، وأظنّ أنّ ذلك سيدفع نحو نوع من الانفجار، ستتولّد على أثره أسماء جديدة”، مضيفا أنّ تلك الأسماء “ستقول كلمتها في المستقبل، وستؤرّخ لصفحة أخرى من تاريخ الفنون التّشكيليّة بالمغرب، لأنّنا عند الحديث عن هذا التّاريخ نستحضر بدايته وليس نهايته”.
وأوضح المتحدّث ذاته أنّ توجّهه للقول بأنّ هذا الفنّ لا يزال في بداياته لم يكن عبثا، “فبلد يتجاوز عدد سكّانه الثّلاثين مليونا، ولا يتوفّر إلّا على عدد قليل من معاهد الفنون الجميلة، يؤشّر على عدم تجاوزنا البدايات في هذا المجال، رغم الارتفاع الكبير في عدد طلبات اجتياز مباريات ولوج تلك المعاهد، وهو ما يؤكّد أنّ المجتمع أصبح أكثر جرأة في تعاطيه مع المجال، وإن كان عدد كبير من أصحاب الطّلبات لا يتمكّنون من تحقيق رغبتهم”، يضيف العلوي.
من جانبه، قال الفنّان محمّد غزّولة، خرّيج المدرسة الوطنيّة للفنون الجميلة بتطوان سنة 1988، تخصّص فنّ النّحت التّركيبيّ، الّذي حاز فيه على جائزة النّحت في مهرجان مسرح الشّباب بالرّباط سنة 2004، إنّ الفرق الوحيد بين بداية هذا الفنّ وواقعه الحاليّ “هو التّميّز الّذي يطبع كلّ فنّان، فكلّ واحد له تقنية خاصّة به تميّزه عن الآخر”، موضّحا أبرز الفوارق بالقول: “بالأمس القريب كان التّركيز على التّفاصيل، عكس اليوم الّذي أصبح فيه العمل يعتمد على الإيحاءات”.
عوائق تقصم ظهر الإبداع
ويلخّص محمّد غزّولة أهمّ عوائق الإبداع في مجال اشتغاله على مستوى تطوان في افتقارها إلى قاعات خاصّة ومتميّزة للعروض، إلى جانب انعدام سوق لترويج الأعمال التّشكيليّة، “بالرّغم من أنّها كانت رائدة في هذا المجال الفنّيّ، وتتميّز بتوفّرها على مدرسة للفنون الجميلة، كانت من أوائل المدارس الفنّيّة بالمغرب، وتخرّج منها عدد كبير ممّن بصموا أسماءهم في المجال”. أما زميله يوسف الحدّاد، خرّيج المعهد ذاته بتطوان سنة 1988، تخصّص التّصوير/الصّباغة، فاستفاض في تعداد تلك العوائق، حيث أوضح أنّ سعي عدد من فنّاني المدينة إلى تشكيل ما وصفه بـ”لوبي فنّيّ” للسّيطرة على السّاحة الفنّية واحتوائها، “يعدّ من أكبر العوائق أمام تواصل إبداع معظم الفنّانين، خاصّة الشّباب منهم، وهو أمر يجب القطع معه، ولا بدّ من الاعتراف بهؤلاء وبأعمالهم، ولا داعي لوضع عراقيل في طريقهم، بل يجب أن يحظوا بالتّشجيع من طرف الفنّانين الكبار”.
الحدّاد، الفنّان الّذي جال بعدد من بلدان أوروبّا، ونهل من معين أبحاثها في مجال تخصّصه، وأيضا الموسيقيّ الباحث عن وسيلة لتحقيق الدّمج بين الصّوت والصّورة، من أجل تقريب شخصيّة الفنّان الموسيقيّ من شخصيّة الفنّان التّشكيليّ، عبر بحث لا يزال يجذبه نحو عوالم الفكر، سلّط الضّوء، على إشكال آخر يعيق تطوير مجال الفنّ التّشكيليّ بتطوان خصوصا، وبالمغرب عموما، هو شحّ عمليّة بيع اللّوحات، “فالأعمال الفنّيّة لا تباع، وهناك فئة قليلة من الفنّانين الّذين يستطيعون ترويج أعمالهم”، يقول الحداد، الذي ناشد الدّولة بضرورة التّدخّل لتُمكّن الفنّان من عيش كريم في ظلّ إبداع متواصل، مشيرا إلى أنّ من الإشكالات الأخرى الّتي تكبح جماح الإبداع الصّراعات الّتي تنشأ بين الفنية والأخرى بين الزّملاء الفنّانين، والّتي وصفها بـ”الصّراعات الوهميّة” .
الموقف ذاته سجّله الفنّان حميد العلوي، الّذي اعتبر أنّ أكبر مواطن الخلل في المجال يتمثل في “تلك الصّراعات الأحاديّة بين الفنّانين أنفسهم، وبين هؤلاء وأصحاب الأروقة من جهة، والمكلّفين بالشّأن العام من جهة أخرى، وهي صراعات مبنية على فراغ”، حسب تعبيره، مشيرا إلى قدرة تطوان على منافسة المدن العالميّة في المجال بالنظر إلى العدد الكبير للفنّانين الّذين تحتضنهم مقارنة بالنّسبة العامّة لعدد سكّانها، في حالة ما قطعت مع هذه الصّراعات.
العلوي بدوره أعاد الحديث عن محاولة البعض تطويق الميدان، “فلم يتقبّلوا دخول أيّ وافد جديد عليه، وسعوا إلى امتلاكه ومحاصرته، ورفضوا مشاركة أيّ كان فيه، بل سعوا إلى تسليم المشعل إلى من أرادوا”، يقول العلوي، مضيفا أنّ مردّ ذلك “ربّما يرجع إلى غياب مستوى ثقافي للعديد من تلك الأسماء، فكما قلت سابقا، الجيل الأوّل من الفنّانين الّذين تجرّؤوا على ولوج هذا المجال إمّا كانوا متمرّدين أو أنّهم فشلوا في تحصيلهم العلميّ”.
دور وزارة الثّقافة
ويعتقد الفنّان محمّد غزّولة أنّ وزارة الثّقافة تسقط في الانتقائيّة عند اختيار ملفّات الدّعم في هذا المجال، إذ يقول: “للأسف، التّشجيع منحصر على بعض الفنّانين دون آخرين”، مضيفا أنّ “تشجيع المجال يتمّ في بعض المدن المركزيّة دون غيرها”.
ودعا غزّولة إلى توفير كل الوسائل الّتي من شأنها المساهمة في ترويج أعمال الفنّانين، “خاصّة أّنّ تطوان تعتبر مدينة فنّيّة، ثقافيّة وسياحيّة بامتياز، ولها تاريخ فنّيّ عريق”، يقول المتحدّث ذاته.
وفي الموضوع ذاته، دعا زميله يوسف الحدّاد إلى فتح الأفق لمزيد من الفنّانين، مشدّدا على أهميّة المصداقيّة في التّعامل مع هذا الجانب، “سواء على مستوى اشتغال الفنّان، أو على مستوى استغلال الأروقة كذلك”، يضيف الحدّاد، الّذي أكّد على ضرورة دعم هذا المجال، سواء من طرف الدّولة أو الخواص.
وفي سياق متّصل، نفى حميد العلوي قدرة وزارة الثّقافة على فعل كلّ شيء، “فهذا دور الحكومة، والمنظومة ككلّ” يقول العلوي، الّذي شخّص أصل الدّاء في مستوى الوعي والثّقافة، قائلا: “الغربيّون على سبيل المثال، لديهم ثقافة اقتناء اللّوحة، واقتناء تذكرة معرض أو تذكرة سينما أو مسرح، وهذا نابع من مستواهم الاجتماعي. أمّا نحن، فتنعدم لدينا هذه الثّقافة، لوجود نقص في الحقوق الأساسيّة نفسها، دون الحديث عن الكماليّات، مما يجعل كلّ تفكير الشّخص ينصب على الادّخار للمستقبل، وهذا يصطلح عليه بالتّعايش وليس العيش”.
آفاق التّحديث وتطوير المجال
وأوضح يوسف الحدّاد أنّه في ظلّ الواقع الحاليّ للقطاع، فإنّ المقترح العمليّ الوحيد الّذي يسهل تفعيله، ويمكنه الإسهام في تطوير القطاع ودعمه، هو “أن تسعى المؤسّسات العموميّة والخاصّة إلى دعم الفنّان المغربيّ المشتغل باستمرار بالمجال، عبر تخصيص قيمة ولو ضئيلة من ميزانيّتها لاقتناء أعماله الفنّيّة، حتّى تُزيّن بها جدرانها، وهو أمر لن يكلّفها شيئا. في المقابل، سيشجّع الفنّان على مواصلة الإبداع والبحث في عوالم الألوان”.
بدوره، أكّد محمّد غزّولة على ضرورة توفير جميع الوسائل الّتي بإمكانها الدّفع نحو ترويج أعمال الفنّانين، عبر الانفتاح على كلّ الملتقيات والمنتديات الفنّيّة، بدعم من الوزارة الوصيّة، معتبرا أنّ لهذا الجانب مردوديّة ستمكّن من تطوير آليات اشتغال الفنّان.
من جهة أخرى، دعا حميد العلوي وزارة الثّقافة إلى السّعي لإصدار قوانين تسمح لها باقتناء عروض الفنّان، “باعتبار أنّ ما يقدّمه الأخير هو متعة بصريّة للمشاهد، وبالتّالي على وزارة الثّقافة أن تخصّص له نوعا من التّعويض من شأنه أن يشجّعه”، مضيفا أنّ “عليها أن تشجّع الفنّانين الشّباب كذلك، باقتناء لوحاتهم، لأنّه في غياب المادّيات لا يمكن الحديث عن الاستمراريّة، وهذا مجرّد رأي”.
> جمال سماحي