> بقلم عبد الإله حبيبي
افتتحت جمعية الأنصار للثقافة بخنيفرة موسمها الثقافي، بتنظيمها للقاء فكري تحت شعار: «الفلسفة والإنسان حصانة فكرية ضد الاستلاب»، مؤخرا بالمركز الثقافي « أبو القاسم الزياني» بخنيفرة بمشاركة الأستاذين: عبد الإله حبيبي و جواد رضوان وتسيير الأستاذ عبد الله المتقي.
في مفتتح هذه الأمسية الفلسفية تمت قراءة الفاتحة على روح الأديب المغربي مصطفى المسناوي الذي وافته المنية بالديار المصرية، ثم انطلقت أشغال الأمسية، بكلمة رئيس جمعية الأنصار، جاء فيها أن «الفلسفة كانت وستبقى الرأسمال الرمزي الذي لابد منه من أجل خلق الفرد الحر والمجتمع الواعي، الذي ينبذ التنميط والعنف، ويؤمن بالاختلاف والتنوع، ويمارس الحوار والانفتاح والتسامح». تلتها مداخلتي الأستاذين: عبد الإله حبيبي تحت عنوان: « الاستلاب والحرية تدافع و نفي» وجواد رضوان وسمها بـ « الواقعي والأسطوري أو البديهي والسيمولاكر».
الفلسفة والاستلاب: تدافع ونفي
-لا يمكن النظر إلى هذا الموضوع إلا من زاوية كون الفلسفة هي دوما في مواجهة الاستلاب، أي نقض كل الخطابات التي تمارس تضليلا على العقل بهدف إعاقة وظيفته النقدية الطبيعية. من هنا بات إشكال المداخلة يتعلق بالبحث في كيفية ممارسة هذا النفي المستمر من لدن الفلسفة لآلية الاستلاب التي تمارس المكر والتحايل، لتسيطر على منابع التفكير السليم حتى تفسح المجال لأن تتحقق أهداف سلطة التقليد والجمود كمنظومة من الآراء والأفكار الجاهزة التي لا تخدم سوى الخضوع الطوعي لما هو سائد وتمجيد القائم من الرؤى والحقائق.
ظل الإنسان منذ البدء سجين معطيات المعيش، ومتطلبات البقاء على قيد الحياة لزمن طويل، بحيث لم يكن قادرا على إنتاج عوالم أخرى ممكنة خارج وجوده الحسي الذي كان ينظر إليه كحتمية لا مجال للإفلات من قبضتها سوى بالخضوع اللاعقلاني لقهرها وسلطتها. لكن ستكون لحظة بروز التفلسف في المدينة اليونانية حدثا نوعيا لا مثيل له في تاريخ البشرية، حدث سيؤسس لفعل التحرر من منطق المعيش لبدء العيش في الوجود.
إنها لحظة التعالي، مغامرة الانفصال عن معطيات الحس في أفق البحث عن معاني كلية للوجود الإنساني ضمن رؤية كونية للخلق ككل. في هذا الزمن اكتشف الإنسان الكائن المعقول الذي لا يطاله الفناء، ولا ينال منه الزمن، إنه عالم الأعداد، والأشكال الهندسية المجردة، والقيم التي تؤطر الكيان البشري في شكل مبادئ متعالية، فقط، العقل الكوني هو المؤهل لإدراك ماهيتها.
حدثت إذن طفرة نوعية على مستوى اشتغال العقل البشري الذي تمكن أخيرا من التحرر من ربقة الضرورة ليحلق في فضاء المعقولات، إنها بداية استقلال الإنسان عن الارتهان إلى معطيات الحس، قفزة رائعة ستكون بدون رجعة نحو مزيد من اختراق مجاهل الكون الفسيحة ، واستكشاف أيضا عمق الذات البشرية. بالفلسفة يكون الإنسان قد ابتكر لنفسه وسيلة عقلية لحماية نفسه إلى الأبد من كل قهر أو نصب على حقيقته وحريته التي هي أصل وجوده.
لكن آلة المنع لن تظل بمنأى عن هذا الإنجاز، سيساق سقراط إلى المحاكمة بدعوى إفساد ذوق الشباب وتحريضهم ضد الآلهة، وسيصدر في حقه حكم بالإعدام لأنه تجرأ على القول أن الحقيقة توجد في العقل البشري وليس في معابد الآلهة أو في طقوس القربان.
وفي دفاعه عن سقراط سيحاول “كزينوفان” أحد تلاميذه الدفاع عنه لتبرئة ذمته بالتركيز على ثلاثة خصال من سيرته اليومية، منها أولا السيطرة على الذات، أي أن سقراط كان سيد نفسه، مالكا لزمام أهوائه، غير مندفع في قراراته أو مواقفه، لا ينبهر، ولا ينجذب سوى لما يأتيه من تأمله الذاتي، أما الميزة الثانية التي يذكرها كزينوفان فهي القوة الجسدية لسقراط، أي أنه كان يحرص على تنمية جسده، تغذيته بطريقة معتدلة، ترويضه على المشاق والمتاعب، دون إفراط في ذلك، إضافة إلى الخصلة الثالثة التي تتجلي في الاكتفاء الذاتي، أي الامتناع عن مسايرة الرغبة التي تقودنا بشكل عبثي خارج حدود الحاجة. تلكم كانت القيم التربوية التي أخضع سقراط نفسه لها، وهي التي جرت عليه العداء وتهمة إفساد الشباب، إنها تهمة تصوغها سلطة لا ترغب في أن ترى الشباب فعلا يكتفي بذاته، يسيطر على جموحه، يستمع إلى عقله، أي أن لا يكون شبابا في خدمة أهداف غيره. ليست في الحقيقة تهمة بقدر ما هي تزكية لموقف الفلسفة من سلطة تريد أن تخضع الشباب لغاياتها”.
لقد أسست هذه الحادثة المأساوية لبداية مسار لن ينقطع من صراع الفلسفة ضد سلطة التقليد والأوهام التي تستفرد السلطة السياسية باحتكارها لتستعملها كآلية إيديولوجية من أجل نزع بذور التمرد من المحكومين وجعلهم يقبلون بمصائرهم كقدر لا فكاك منه.
موت سقراط هو انتصار لفكرة الحرية، وتشكيل لأولى ملامح الإنسان الجديد، الكائن الذي سيراهن على عقله لصياغة مصيره على الأرض من خلال التفكير العقلي في التحام مع معطيات الواقع التي ستصبح مادة للعلوم التجريبية كما وضع مبادئها أرسطو بعد سقراط.
بهذا المعنى ستصنف الفلسفة كخطاب يهدد دوما زيف الخطابات الجدلية السياسية واللاهوتية، خطاب ينحاز للعقل الذي هو الأداة الوحيدة التي بها يصبح النظر الموضوعي إلى الوجود ممكنا وواضحا.
حادث إعدام سقراط هو منطلق لفهم كل ما سيقع من حروب وصراعات بين من يمسكون بالتقليد للحفاظ على علاقة الاستعباد بين الناس، وبين المتنورين الذين يرفعون صوتهم عاليا لإدانة هذا الواقع المفروض غصبا على الإنسان، من خلال إنتاج نصوص ونظريات تمجد العدل والمساواة والحرية.
بهذا المعنى ستقترن الحرية بالتحرر من الاستلاب العقلي والروحي، وستكون الفلسفة هي الفضاء العقلي لبناء هذا التحرر نظريا والحجاج عليه برهانيا ومعرفيا، والالتزام بالانحياز إليه أخلاقيا في كل أشكال الممارسات السياسية، كما نجد ذلك مع فلاسفة معاصرين من أمثال فوكو وسارتر وكامو وكل أولائك الذين سيطلقون شرارة ثورة 1968 بفرنسا كثورة ثانية بعد ثورة التنوير خلال القرن الثامن عشر.
في ظل الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية سيحتدم الصراع جديا بين الفكر الفلسفي النقدي وخبراء الإعلان والتدجين، صراع سيجد مكانه في ساحات التعبير الإعلامي السمعي والبصري والمكتوب، حيث سينحاز التفكير الفلسفي إلى الرفع من قيمة العقل النقدي في مواجهة أساليب المكر والترويض التي تمارسها أجهزة الإخضاع المتمترسة خلف رؤوس أموال الشركات المتعددة الجنسيات.
إنه نفس المسار، ونفس الصراع، بين فكرة سقراط “اعرف نفسك بنفسك” التي تراهن على عقل الإنسان ليكتشف معنى وجوده من خلال استعمال عقله بشكل حر ودون وصاية من أية جهة، وفكرة السلطة التي تحيل الوجود الإنساني على محددات أخرى خارج إرادته، وبعيدة عن جوهره، بهدف جعله دوما تحت رحمة الوهم. بهذا المعنى يمكن فهم نداء كانط إلى الإنسان في خطابه حول معنى التنوير؛أي على الإنسان أن يتجرأ على استعمال عقله بشكل عمومي، أن يتحرر من الوصاية، ويكون قادرا على التفكير بحرية ليخلق بنفسه سلوكا مدنيا يكون فيه المبدأ الثابت هو الخضوع للواجب الذي يأتي من العقل وليس من أي إكراه خارج الذات.
بنفس القوة اتجهت الفلسفة الماركسية لتفضح آليات العمل في النظام الرأسمالي، حيث أيقظت وعيا سياسيا وفكريا تجسد في الكثير من المقولات التي لازال صداها يتردد في كل مناسبة يكون فيها النظام الرأسمالي موضوع مساءلة ونقد. في تحليله لظاهرة العمل في علاقتها بآلية الاستلاب يشير ماركس إلى أن العمل في ظل النظام الرأسمالي هو شيء غريب عن ذات العامل، لا يرتبط بجوهره، يمنعه من تحقيق ذاته، بل يفرض عليه بأن ينفي ذاته، لهذا يجد العامل نفسه في وضع غير مريح وهو يعمل، تعيس، لا يمارس جهدا جسديا وفكريا حرا، بل يغتال جسده، ويخرب روحه. وينتهي ماركس إلى النتيجة التالية: أن العامل لا يجد نفسه قريبا من نفسه إلا خارج أوقات العمل، حيث أن لحظات العمل تشعره بالغربة عن نفسه، لهذا فالعمل بهذا المعنى ليس نتاج إرادة، بل هو إكراه”. وحسب المفكرة السلافية فإن الرأسمالية قد وضعت إستراتيجية جد ذكية من أجل إخضاعنا وذلك عندما منحتنا حرية الاختيار بين عدة اختيارات، مثل الانتقال من قناة فضائية إلى أخرى دون التوقف لإنهاء مشاهدة برنامج بشكل كامل. حيث ترى أن الاختيار بات أهم شيء في حياتنا، لكن المشكلة أن هذه النظرية العقلانية التي تجد مصدرها في الاقتصاد لا تعني فقط أفعالنا الاستهلاكية، بل تفرض نفسها علينا حتى في شؤوننا الوجودية. لهذا فكل اختيار ينبغي أن يكون مبنيا على حساب، أي أن المسؤولية في الأخير ستعود للفرد الذي سيتحمل تبعات اختياره كان حسنا أو سيئا. ولعل هذا ما يؤسس لما تسميه هذه المفكرة بـ” ديكتاتورية الاختيار”.
انطلاقا من هذا الرأي يمكن فهم كيف يجدد النظام الرأسمالي آليات اشتغاله من أجل إحكام سيطرته على الإنسان، وترويضه حتى يظل في خدمة استراتيجياته الاستهلاكية ضمن مخطط، الهدف منه تحييد الرؤيا النقدية، والتحكم في كل منابع الاختيار لدى الأفراد. لهذا تنهي هذه المفكرة تحليلها بسؤال استنكاري مفاده: هل عندما يصبح كل شيء مباحا ينعدم كل اختيار؟
من ماركس إلى المفكرين المعاصرين تظل المعادلة هي نفسها، أي انه أحيانا تكون الأنظمة القائمة في حاجة لخلق قلق لدى مواطنيها، أي توريطهم في مشكلة نفسية حتى تسهل عملية ضبطهم، لكن على هؤلاء وكما تقول هذه المفكرة ممارسة النقد الذاتي، بدل نقد النظام؛ أي الاعتناء بالقدرات العقلية الشخصية التي وحدها كفيلة بتحرير وجودنا من كل هذه المخططات.
تحيلنا هذه الوضعية على محنة العقل في خضم صراعه من أجل أن يسود في عتمة الجبروت الدولتي الذي تسنده مؤسسات تمتح قوتها من استعمال ماكر للعلوم الإنسانية، ضمن أساليبها التجارية لتحويل كل شيء لصفقة بيع وشراء يكون العقل فيها مصابا بالعمى والعجز.
ها هنا نجد أنفسنا حيال مشكلة أخرى قد تكون هي العمق الذي يمسه هذا الاستنتاج، يتعلق الأمر بمشكلة الحرية، أي حرية الفرد في الاختيار، وفي حماية اختياره، و العيش وفقه.
إذا كانت الحرية هي الرغبة في الإفلات من كل سلطة، أي في أن تمارس الذات نفسها سلطة مضادة، فإلى أي حد يمكن لهذا الطموح أن يتحقق في ظل أنظمة اقتصادية كل همها هو السيطرة على كل منابع الاختيار، واستباق إمكانياته بطرح بدائل قد تطفئ لدى الفرد وهج البحث عن وجود متميز ومستقل؟
الأساسي في الحرية ليس هو أن نكون أحرارا، بل أن نشعر بالفعل أننا أحرار، ولعل هذا الشرط هو ما يدفعنا لكي نعيد النظر في مفهوم الحرية التي هي الفضاء المتميز الذي تفضل فيه الفلسفة ممارسة نزالها ضد الاستلاب.
هاهنا سيكون من الضروري العودة إلى الدرس السقراطي، أي التسلح برؤيا فلسفية تجعلنا قادرين على أن نقاوم ونرفض الاشتراط الذي يهدد ماهيتنا، أي الذي يختزلنا إلى كائنات حيوانية لا تصلح سوى للعيش بين المثير والاستجابة، والقدرة أيضا على التصدي إلى الشعور بالذنب الذي لا تتوانى آليات الأنظمة المعرفية السائدة عن استعماله من أجل تحييد كل مقاومة فينا، إنه الأسلوب الذي به يمكن إخضاع النفوس الهشة، القابلة للإيحاء، وجعلها تحت رحمة البحث عن الاعتراف والخلاص كما كانت تمارس الكنسية في العصور الوسطى لأزمنة طويلة، غرق فيها العقل في سبات رهيب، حتى جاءت حركة التنوير الفلسفي مع فلاسفة الأنوار التي ستوفر الشروط الفكرية لقيام الثورة الفرنسية التي ستعلن عن ميلاد حقوق الإنسان ونهاية الوصاية اللاهوتية عليه.
الحرية لدى سقراط هي معرفة وعلم بشروط الفعل، أي على الفرد، أولا، أن يكون عالما بمعنى الخير حتى يجعل سلوكه موافقا له وسائرا في اتجاهه، لهذا فالأخلاق هي علم وإلمام بمعاني القيم ودلالتها الكلية، ولعل هذا ما يجعل الفلسفة ضرورية في هذا المسعى، لأنها وحدها تمتلك هذا العلم ، وتجعله في خدمة الإنسان حتى يحمي نفسه من الوقوع في ما ليس خيرا. أي لا مجال للاستغناء عن الفلسفة في إدراك دلالة الخير، ومادامت الحرية هي من قيم الخير فهذا سيجعلها قيمة فكرية، أولا، أي تُطلب من داخل التفكير الفلسفي الحر حتى لا تلتبس بما هو سائد وعام بين الناس.
وفي كتابه “الاختيار الحر” يدعونا القديس أوغسطين إلى التعرف على الحرية في فعل الشر، أي أن الإنسان لا يكون حرا إلا عندما يمارس الشر، الذي سيصبح ذنبا وبالتالي خطيئة بها سيحاسبه الرب حتى لا يكون ظالما. إنها شبه قطيعة مع الرؤيا السقراطية، لكنها مفهومة بحكم انتمائها لنسق آخر له منطقه الخاص. وفي هذا الانتقال من الفلسفة إلى اللاهوت سينفصل الفعل الإنساني عن الإنسان ليصبح موضوعا لتقويم ميتافيزيقي سيلتقطه فيما بعد الجهاز الكنسي ليحوله إلى سلطة بها سينهي لزمن طويل مفهوم الحرية السقراطي. وهكذا سيلج الإنسان الغربي دهاليز الاستلاب الديني بنوع من العبودية الطوعية، سلّم فيها كل مفاتيح مصير إلى القساوسة والنبلاء وموزعي صكوك الغفران.
في العصور الحديثة سيعود مفهوم الحرية إلى الظهور والمساءلة من لدن فلاسفة التنوير، بحيث أن عودته ستكون إعلانا على عودة الإنسان إلى ذاته، واسترجاعه لقدراته وحريته بعد زمن من الغرق في الأوهام اللاهوتية التي كانت تسلبه إرادته لجعله مادة مطواعة في خدمة السلطة السياسية للعصر الوسيط.
هكذا سيحدد سبينوزا الحرية باعتبارها ليست مطلقة، وغير موجودة إلا في التمييز بين النظام الحسي للموجودات والنظام الغائي لها، فحين نكون في المستوى الأول يستحيل أن نكون أحرارا لأننا نتحرك ضمن نظام طبيعي نحن جزء منه، محكومين بقوانينه وغاياته، أي غير واعين بأننا نتحرك بفعل علل أخرى نجهلها لأنها قائمة فينا كطبيعة أولى، لكن في المستوى الثاني أي في النظام الغائي للموجودات يمكن لنا أن نمارس حريتنا وذلك بأن ننخرط في العلل التي تحركنا، وأن نفعل حسب ضرورة طبيعتنا، بعيدا عن التخلي عن كل مبادرة، ولعل هذا ما سيسمح لنا بالانتقال إلى امتلاك قدرتنا على الفعل.
بهذا المعنى سيصبح الإنسان قادرا على التحرر النسبي من كل حتمية تشرطه، بل سيكون بإمكانه حتى الإفلات من كل إشراط ثقافي، أو إيديولوجي يكون هو أصل تنشئته الأولى، وبالانخراط في صيرورة طبيعتنا الأصلية يمكن للحرية أن تصبح ممكنة الوجود في شكل إرادة بها سنتمكن من تغيير بوصلة حياتنا. إنها دعوة من سبينوزا لأن يمسك الإنسان بوجوده في خضم صراعه مع ما يكون وجوده ويشرط كينونته الأولى. وقد سبب هذا الموقف طردا لسبينوزا من مجمع اليهودية بهولندا خلال القرن السابع عشر الميلادي .”
لن يظل مفهوم الحرية خلال العصور الحديثة بمنأى عن كل مراجعة فلسفية نقدية، حيث سيأتي كانط من أجل أن يمنح لهذا المفهوم دلالة أخرى تتجلى في كون الحرية هي الخضوع للقانون الأخلاقي الذي نضعه لأنفسنا، وليس الذي يأتينا في شكل إكراهات من الخارج، أو من سلطات غيبية. لهذا فالإنسان عند كانط لا يصبح حرا وكريما إلا عندما يحرر نفسه من كل الحتميات التي ترهن وجوده بأهداف غير أهدافه هو. وفي هذا شبه قطيعة مع موقف سبينوزا الذي يكرس أولا نوعا من التبعية للعلل الطبيعية الكامنة فينا قبل أن يتدخل الوعي من أجل تحوير مسار هذه العلل.
يعارض كانط سبينوزا عندما يرى أن الحرية لن يكون لها معنى إلا عندما تحررنا من الطبيعة وليس كانخراط في الحتميات. بهذا المعنى يقول كانط لن يمكننا ممارسة الحرية إلا عندما نقول لا لغرائزنا ومصالحنا حتى نتجه مباشرة إلى معانقة الكوني فينا. تظهر الحرية عند كانط في شكل العمل وفق نداء الواجب، إنها تأخذ صورة مبدأ قطعي، أو أمر قطعي في الصيغة التالية: ” عليك أن تفعل..” وليس في صورة النمط الافتراضي : “إذا أردت هذا الشيء إذن ..”.
بهذا المعنى فالمحرك الفعلي للإرادة هو القانون الأخلاقي وليس الاحترام الخارجي لهذا القانون، ” أي عندما أسلك وفق احترام خارجي للقانون، فإنني أسلك بالحذر حتى أتفادي العقاب أو العتاب”.
يعلمنا الدرس الكانطي أن نكون مستقلين، أحرارا في استخدام عقولنا حتى لا نقع تحت نير الأفكار التي تفرض علينا في شكل سلط معرفية وقانونية مصدرها توافقات اجتماعية، أو مؤسسات لا تدخل في حسابها حرية الأفراد بقدر ما يهمها بسط سيطرتها لتحقيق غايات قد يكون الإنسان وسيلتها، وهذا ما سيمهد الطريق لأن يصبح العقل البشري مستلبا كلما تم استعماله لخدمة أغراض خارجة عن طبيعته.
مع سارتر تصل قيمة الحرية إلى درجتها القصوى عندما يجعل درسه الفلسفي طريقا مغايرا لمحو كل تبعية اجتماعية أو سياسية للتقاليد أو القوانين التي تسلب الفرد حلمه الشخصي بان يصير الذات التي يريد.
الحرية عند سارتر هي عندما نخلق أنفسنا بأنفسنا.
تبعا لرأي سارتر فنحن محكومون بأن نخلق أنفسنا بشكل كامل، أي أن نجعل وجودنا هو مشروع لماهيتنا في المستقبل، أن لا ندع أية قوة تملي علينا تحديدا لكينونتنا، وفي هذا الصراع ننتزع حريتنا من الآخرين، نحمي سيرنا في الوجود.
بهذا المعنى فالحرية عند سارتر ليست قدرة أو خاصية مرتبطة بجوهر الإنسان كالاختيار الحر، أو الولوج إلى القانون الأخلاقي، بل إنها تلك التي بواسطتها يأتي العدم إلى العالم. بدونها كما يقول سارتر يصبح العالم مملوء ، مكدسا، بدون خارج أو داخل، مملوء بالأشياء و الوجود التي هي بكل بساطة كما هي. مع الحرية يأتي العدم إلى العالم. أي يصبح العالم حرية”.
حين نستمر في قراءة سارتر نكتشف أن الحرية هي العدم الذي يجبر الواقع الإنساني على أن يفعل بدل أن يكون، بحيث لا شيء يأتيها من الخارج ولا من الداخل الذي ستقبله أو ترفضه. إنها متخلى عنها مطلقا، بدون أدنى مساعدة لأجل ضرورة الوجود حتى في أدق تفصيل.
هكذا سنستنتج أن الاستلاب هو الفعل الذي بمقتضاه تصبح الذات غير نفسها، أي عندما ترى نفسها فيما هو آخر دون روح. وبلغة ماركس يصبح الاستلاب هو الحالة التي يجد فيها الإنسان نفسه أمام منتوجات مجهوده وكأنها قوة أجنبية تسيطر عليه.
وفي زمننا المعاصر، نقرأ لفلاسفة آخرين تحدثوا عن التقنية كسلطة تمارس استلابا على الإنسان، لأن هذا الأخير لا يتورع عن تقديسها وكأنها كيان متعالي، محايد، حامل للحقيقة الموضوعية وذلك على حساب فكره النقدي، مما يدفعه إلى تبني سلوكات محافظة جدا. وهو الرأي الذي يعبر عنه الفيلسوف إلول، الذي يقول أنه إذا استمر الإنسان في عناده هذا، أي في اعتقاده بأن التقنية مملكة محايدة فهذا سيؤدي إلى تكريس النزعة المحافظة كنزعة شمولية لمجتمعات الغد”.
في نفس السياق نجد الفيلسوف الفرنسي المعاصر إنتهوفن، يتحدث عن ظاهرة إخضاع العقل البشري لبرمجة إعلامية خطيرة يطلق عليها اسم “les nudges “، أي تلك البرامج التي تصر على مطرقة عقول المشاهدين بنصائح حول الصحة والبيئة وفن المعيش، أي ما يجب فعله وما يجب تجنبه وكأنه في العمق تعطيل للعقل الكانطي الذي كان يحث الإنسان على ضرورة استعمال عقله بشكل عمومي وخارج كل وصاية أجنبية عليه.
مثل هذه البرامج التي تمررها وسائل الإعلام يكون هدفها الأسمى هو “تحويل الإنسان إلى كائن أليف” فاقد لكل إرادة أو تفكير، طيع، خنوع، مستسلم لجبروت الآلة الإعلامية التي تمتلكها مؤسسات الإعلانات التي تخدم أجندات الشركات الكبرى. وهنا قمة الاستلاب المعاصر الذي يستطيع وبكل مكر ماهر جعل الناس يقبلون بالحروب، بل ولا يتورعون عن تمويلها، وتحمل تكاليفها من خلال تخويفهم من أعداء مفترضين يهددون مصيره وسلامته وسعادته كما يقول تشومسكي، أي تعويده على وضع ثقته في سلطة متعالية، غامضة، تشبه قوة قاهرة، عالمة، عارفة بكل ما يصلح له وما لا يصلح له”.
وفي الختام يمكن الاستئناس بأفكار بعض الفلاسفة الذين حاولوا اقتراح بدائل لحماية الكينونة الإنسانية من كل هذه الأساليب المهددة لحريتها وإرادتها ك ” جورج باطاي” الذي يقترح علينا في كتابه ” أدب الشر” الاعتناء أكثر بنقد الأخلاق البورجوازية للعمل والتراكم والخوف من المستقبل، وهي الآليات التي يختصرها الشعور بالذنب كسقط متاع الزمن الكنسي البائد. كما يحثنا على الرفع من قيمة الفن الذي يفلت من مفهوم العمل النافع الذي يسلب الإنسان جوهره ويسوقه إلى محراب العبودية والخضوع.
وفي مقام آخر يؤكد باطاي على ممارسة اللعب رغم قواعده التي قد تبدو عبثية، إنه يشكل بديلا لمجتمع الجدية المبالغ فيها”.
بهذا المعنى ينبغي الحرص على الرفع من قيمة التأمل والاعتناء بحياتنا الروحية من خلال ممارسة الانشراح والتفكير والاختلاء والانفصال عن المؤثرات التي تفعل فينا بشكل لا شعوري.
لقد كان أرسطو يؤكد دوما على التأمل الذي في اعتقاده هو طريق السعادة التي لا يمكن بلوغها ونحن عبيد رغبات الآخرين، أو رهائن أحلامهم. أي الاهتمام بعشق المجرد، الذي سنلمس فيه ما هو غير فان أي ما هو ضروري وأبدي.