ذاكرة حانة:يا الله ألَخُّوتْ!!

الحانات، أو البارات، هي بالتأكيد فضاءات مدينية Civiques هامشية تنتعش داخل المدارات الحضرية المنسية وأمكنة للتداول والتعبير الحر والتلقائي بعيداً عن رقابة السُّلطة السياسية. زد على ذلك الممارسات والطقوس اليومية التي تشغلها والتي يساهم فيها على نحو دائم السكارى أنفسهم، إلى جانب “النشيطات المشتغلات” (بلغة الإحصاء) اللواتي يحضرن كل يوم ويضفين على المكان صبغة خاصة ويمنحنه مكانته الضرورية في الكثير من الأحيان، لأن “المكان الذي لا يؤنث، لا يُعَوَّل عليه”، كما في قول محي الدين بن عربي. وقد صارت هذه الطقوس والممارسات موروثاً ثقافيّاً يوثق لذاكرة هذه الأمكنة لدرجة أن إحدى الجمعيات الفرنسية المؤسَّسة مؤخراً بادرت بتقديم اقتراح لوزارة الثقافة يرُوم إدراج طقوس الحانات الفرنسية الصغيرة Bistrots ضمن لائحة التراث الثقافي غير المادي في البلد.

ولطالما شكلت هذه البارات المسمَّاة أيضاً بـ “المقاهي” فضاءات للفلاسفة والكتاب والمثقفين والفنانين الذين وجدوا فيها ذواتهم ونسجوا بداخلها تأمُّلاتهم وإلهامهم، أشهرها أوروبيّاً موجودة في فرنسا، بحي مونمارتر Montmartre المعروف بأزقته الضيِّقة التي تنبت في أعالي باريس والذي اشتهر باحتضان أهم الحركات الطليعية في الفن، إلى جانب التيارات الفوضوية في السياسة. ومن بين الفنانين الذين قطنوا به أو زاروه، يُوجد بابلو بيكاسو وفان كوخ وسالفادور دالي، بالإضافة إلى حي مونتبارناسMontparnasse ، أحد أشهر أحياء المدينة الذي ضمَّ تكتُّلاً لفنانين مرموقين، يتصدَّرهم مارك شاغال، أمادو موديغلياني، بابلو بيكاسو وفاسيللي كاندانسكي..

في أشهر هذه المقاهي صاغ عرَّاب السيريالية الشاعر أندريه بروتون بياناته (المانيفيستو). كما أن جان بول سارتر أنجز بها بعض كتاباته حول الوجودية بجانب رفيقته سيمون دي بوفوار التي ألفت كتابها الشهير “الجنس الآخر” Le deuxième sexe (1949)، مثلما خلَّدت هذه الفضاءات أعمالٌ إبداعية رائدة كثيرة من روائع أدبية متنوِّعة في الشعر والسرد وكذا لوحات كبار الفنانين الكلاسيكيين والواقعيين والانطباعيين والتعبيريين وغيرهم..  

اجتماعيّاً، وخلافاً لذلك، شكلت الحانات المنفلتة ملاذاً لفئات شعبية هاربة، متمرِّدة ومقاوِمة لكل أشكال الإحباط والحرمان من التعبير، حيث يُمارس أفرادها تقاليد الشرب والسكر بعيداً عن الرقابة، ما يجعل من هذه الفضاءات والأمكنة صورة مصغَّرة للمجتمع بما تنطوي عليه من دلالات سوسيولوجية متنوِّعة. لذلك، يقتضي الأمر الارتقاء بهذه الفضاءات وجعلها بالفعل جزءً حيويّاً داخل النسيج المعماري الحضري..

وقد جرت العادة عند اقتراب وقت انتهاء اشتغال المقاهي/الحانات والملاهي الليلية أن يتمَّ تنبيه زبناء ومرتادي هذه الفضاءات الرُّوحية (الخمارات) بهذا الأمر، حيث تُستعمل في ذلك أساليب متنوِّعة يلجأ إليها النُدل العاملون والحرَّاس Videurs المكلفون بتنظيم دخول وخروج الناس منها في أوقات متأخرة، منها التصفيق وإطفاء الإنارة بشكل متكرِّر كإشارة ضوئية دالة على انتهاء الوقت، ثمَّ استعمال تعبيرات تدلُّ على الغاية نفسها، والتي تختلف من فضاء إلى آخر وهي تعكس مستوى اللغة العامية المستعملة والموجهة لفئات متباينة من الزبناء، منها النماذج التالية بالدارجة المغربية:

– يًا الله ألَخُّوتْ، – يًا الله ألَخُّوتْ.. الله يرحم الوالدين، – يَا الله ألشباب، – يَا الله سَالِينَا، – يَا الله نَمْشِيوْ، – يَا الله أسْيَادْنَا، – يَا الله أدْيَالْنَا، – يَا الله أشَّرْفَا، – دْيَاوَلْنَا.. تْعَاونُو مْعَانَا نَمْشِيوْ، – يَا الله أليزامِي مشِينَا.. وغير هذه التعبيرات كثير..

غير أن أحد هذه الفضاءات التي تنبت في جوف مدينة مغربية كبرى بادر في خطوة غير مسبوقة ومتفرِّدة تمثلت في تعزيز المكان وتجهيزه بتسجيلات صوتية جاهزة يتمُّ تشغيلها بشكل متكرِّر على غرار النداءات والرسائل الصوتية التي اعتاد المسافرون على سماعها في المطارات ومحطات القطار والميترو وغيرها، وقد جاء فيها: “نعلن لزبنائنا الكرام أن المطعم سيغلق أبوابه بعد قليل.. وشكراً على تفهمكم”..

بهذا التفرُّد، يكون هذا الفضاء قد انخرط – من حيث لا يدري – في “الحداثة البَعْدِية” Post-modernisme وتوظيف التكنولوجيا الحديثة في التواصل مع الزبناء بأسلوب جديد غير مألوف وغير متداول محليّاً!!

في الحانات الحقيرة تختلط نشوة الشرب مع دخان السجائر ودخان القزازة “الشيشة” والروائح النتنة التي تنبعث من المراحيض ومن ثقوب الجسد لتمتزج مع مقاطع موسيقية شعبية هجينة ورديئة تزداد رداءة مع تصاعد الأصوات والهأهأة والقهقهات والإزعاج المتولد عن سلوكيات بعض السكارى العرابدة الذين دوَّخهم الشرب ورمى بهم نحو دائرة اللاوعي والتصرفات اللاإرادية غير المتحكم فيها، حيث يعجزون في الغالب عن ضبط تصرُّفاتهم التي تثير التقزُّز والقرف والاشمئزاز.. بسبب ذلك، يتمُّ طردهم وإجبارهم على إخلاء المكان عنوة، لكن مع ذلك نجدهم يفدون ويعودون خلال اليوم الموالي وهم في كامل “عافيتهم الذهنية والبدنية”، يشرعون في الكلام الهادئ وتوزيع الابتسامات قبل اندلاع “العاصفة الروتينية” التي يسببها الإفراط والعشوائية في الشرب. هرباً من ذلك، يفضل البعض الشرب بالبيت أو بالهواء الطلق (الغابات، الشواطىء..) بعيداً عن الضجيج والإزعاج وفي انفراد مع الذات، اقتداءً رمزيّاً بقول أحد الشعراء:

فلو رآها أبو النوَّاس إذا سكبت      

لما دعته إلـى الحانات أهـواء

وفي الحانات الحقيرة أيضاً لا وجود لنشويات ومقبلات غذائية خفيفة “قَطْعَة”، وأفضلها لا يُوفر للزبناء سوى القليل من الزيتون وعرانيس الدّرة البيضاء المملحة المعروفة بـ “الفوشار”، أو “البوشار” Le pop-corn.. هي ذي “التقاليد المطعمية” الشائعة داخل هذه الفضاءات المليئة بالبؤس والشح، وهم هكذا رواد المكان قنوعون بـ “اللِّي جَابْ الله” من أجل المرح والانشراح تيمُّناً بقول الشاعر شارل بودلير Ch. Baudelaire: “أسكروا، فلابُدَّ للمرء من أن ينتشي دائماً”، بخلاف المطاعم/الحانات المصنَّفة (في أوروبا مثلاً؟)، حيث ثقافة وتقاليد الشرب، فلا مجال للإزعاج والخدمات الغذائية منتظمة إلى حدٍّ مقنِع وتزداد انتظاماً مع توالي وارتفاع وتيرة الشرب والاستهلاك داخل نطاق الطلبات والأذواق المؤدَّى عنها. مشروبات لكل الأذواق، حتى الممتزج منها، كما هو الشأن بالنسبة لـ “موخيتو” Mojito، وأصل التسمية اللفظة الإسبانية موخادور التي تفيد الشيء الرطب. تمَّ اختراع هذا المشروب الخليط في هاڤانا منذ عام 1930، ويُعتبر الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي من أشهر الروائيين تناولاً لهذا المشروب الكوكتيل.

كما أن الموسيقى والنقاشات داخل هذا الصنف من الحانات تكون هادئة وقد تتعزَّز فترات المكوث بها بعروض ممتعة في الموسيقى والرقص، فلا مشكلة هنا ما دامت الأجساد الناعمة المنمَّقة تتراقص في لوحات كوريغرافية بهية وبديعة على إيقاع الشرب المنظم على نحو ما يبتغيه ويشتهيه الجميع، أرباب الحانات والزبناء معاً..

إنهم على هذا الحال كل يوم، رواد الحانات، يشربون ويدخنون.. يدخنون ويشربون داخل فضاءاتهم المفضلة التي يقضون بها كامل أوقاتهم للانتشاء وامتصاص القلق اليومي وشعارهم الدائم ما قاله الشاعر الجاهلي امرؤ القيس حين علم بمقتل أبيه وهو يشرب مع رفاقه: “اليوم خمرٌ وغداً أمر”..

“يَا الله أَلَخُّوتْ”.. هكذا اعتاد زبناء مقهى جنوبي شائع على تلقي هذا النداء كل يوم وقد صار مرادفاً للختام والانتهاء وتوقف الخدمة اليومية المرتبطة بوقت محدَّد تفرضه ظروف الشغل.. وهو هكذا دأب على إرسال هذا النداء بصوت مطروز بالحث والترغيب والتودُّد، لكنه ممزوج أيضاً بعلامات التعب والعياء المتراكم جرَّاء العمل والمداومة المتواصلة من أجل خدمة الزبناء في حدود الوسائل والإمكانيات المتاحة..

“يَا الله أَلَخُّوتْ”.. ذلكم التعبير الشعبي الذي في خاطر كثيرين والذي ينمُّ عن الارتباط الرمزي بالمكان.. وأيُّ مكان؟

الزبناء مرتكنون في أمكنتهم وزواياهم المفضلة، محاطون بقواريرهم وقنيناتهم وعلب السجائر.. فجأة يدخل صديق المكان الملقب بـ “تُو دُو سْوِيتْ” مرتديّاً وزرته البيضاء حاملاً سلته التي لا تفارقه، هي مصدر عيشه ورزقه، يُخرج منها البيض البلدي المسلوق والفول المرشوش بالملح والكامون تلبية لرغبات الزبناء الذوَّاقين.

– مَرْحْبَا..

– فرصة طيِّبة

– أنتا هْنا؟

– طبعاً..

– اعطينا شِي بركة..

– جَاتَكْ، “تُو دُو سْوِيتْ”..

– الله يحفظك…

لحظتها انطلقت إحداهن تبدو ضيفة طارئة على المكان، تتهادى في مشيتها مثل “ناقة تائهة” روَّعها الكلأ تبحث عن محتضن يؤنس جلستها ويغدق عليها ولو بقليل من الدخان والجعة، أو النبيذ أو حتى الويسكي.. لِمَ لا؟. أخيراً استجاب لها وافد جديد (نوڤو) بعد أن أغرته الأرداف والمؤخرة!! بقية القصة طويلة وذات مفاصل سردية كثيرة عصية على الحكي، لاسيما وأن وقت إطلاق العبارة الأثيرة “يَا الله أَلَخُّوتْ”.. قد حان، فلا مجال إذن للإطالة والتمديد!!

هو هكذا الوقت يمضي بسرعة فائقة داخل الحانات الحقيرة مثل قطارات صاروخية..

– ممكن نْزِيدُو شِي وْحَيدَة (لاديرنيير)؟

– الله يَاودِّي.. انتُومَا دْيَالْنَا..

في هذه الفضاءات تزن الدقائق الأخيرة ذهباً، وكأنك تلعب الأنفاس الأخيرة مهزوماً في مباراة لكرة القدم، عيناك على الساعة وأذناك على صفارة الحكم!!

“يَا الله أَلَخُّوتْ”.. أو بمعنى آخر، لا توجد فرصة لإضاعة الوقت، فليس هناك أشواط إضافية بالمكان، خصوصاً في ظلِّ حظر تجوال معمَّم لا ينفع معه سوى الانصراف الفوري والعودة للبيت، ليتمَّ غلق الأبواب نكاية بالمخمورين الحالمين بالمزيد وبقضاء ليلة مفتوحة بدون نهاية تمثل لهم زمناً واسعاً للبوح والسرد، لكنهم إزاء ذلك يعودون مجبرين من حيث أتوا وهم يجرُّون أجسادهم المتعبة ورغباتهم تتبدَّد وتتلاشى، ليظلَّ حلمهم معلقاً ومؤجلاً من أجل قضاء أطول وقت ممكن من الشرب واللهو لعل ذلك يُنسيهم خيبة الأيام!!

بقلم: إبراهيم الحَيْسن

Top