أكلت يوم أكل الثور الأبيض

مَثَلُ حال الأمة العربية كَمَثَلِ رجل باغثه في الفلاة خطر داهم ظل يلاحقه إلى أن ألقى بنفسه في بئر عميق ليتقي شره، فتعلقت رجلاه بأغصان شجرة بإحدى جوانب غياهب هذا الجب العميق.
وبعد أن استقرت حالته النفسية التفت حواليه فوجد بجانبه كوارة من العسل فذاقها واستلذ حلاوتها التي شغلته عن نفسه وأنسته كل شيء، ثم استمر في ازدراد العسل غير مبال بالجرذانين الأسود والأبيض اللذين يقضمان جذع الشجرة من أسفله باستمرار دونما توقف أو إحساس بالتعب أو الملل، وغير مكترث كذلك بالتنين العظيم الذي فتح فاه منتظرا بقاع البئر لحظة سقوط الرجل إليه ليلتهمه وتنتهي حياته وهو في غفلة من أمره. !
وإذا كان هذا حال الأمة العربية، فإن حال بعض قادتها مثل حال رجل يقدم لأخيه الذي هاجمه عدو غاشم الدواء والغذاء بعد أن شرد هذا الأخير أبناءه على مرأى ومنأى من الجميع، وبعد أن استباح نساءه، وجوع أهله، وقتل أتباعه، وأثخن جراحه، فظل أمام كل هذا يواسيه منتظرا لحظة الخلاص لتسريح البشرية من شره، ومن حين لآخر يتأسى عليه وعلى أبنائه وينصحه قائلا له: “أنت أخي حقا، ولا أنكر على نفسي ذلك، لكني أرجوك وأستعطفك بأن تضحي بنفسك وتهجر بيتك هذا وتتركه لهذا العدو كي يعيش أبناؤك في أمن وسلام«.
وهذه الحال تذكرنا – بالضبط -بقصة الثيران الثلاثة التي كانت تعيش آمنة سالمة في أجمة متكاثفة الأغصان مع أسد ذكي قرر التفرقة بينها ليتمكن من القضاء عليها جميعا، فانفرد بالثورين الأسود والأحمر في غياب الثور الأبيض وقال لهما: “إن الثور الأبيض يفضحنا في الغابة ليلا، في حين تظل ألواننا نحن الثلاثة متشابهة نسبيا فلا يهتدي إلينا الصيادون بعد إزاحته من الغابة. فدعوني أقض عليه. “فما كان منهما إلا أن وافقا على رأيه وسمحا له على التو بأكل أخيهم الثور الأبيض لضمان أمنهما وأمن سيدهما الأسد الذي لا تنتهي مطامعه عند هذا الحد، ولا يمكنه أن يقنع – بأي حال من الأحوال – بوجبة واحدة، خصوصا وأنه دائم الجوع بالفطرة، وأنه إذا شبع اليوم فسيجوع غدا ويطلب المزيد من التنازلات والتضحيات لإشباع نهمه !
وحين اشتد به الجوع ـ في يوم من الأيام ـ انفرد بالثور الأحمر وقال له: “إن أخاك الثور الأسود يفضحنا نهارا ويدل الصيادين علينا في هذه الغابة ويعرض بالتالي حياتنا للخطر فدعني أقض عليه لنعيش آمنين معا في هذه الأجمة”؛ فما كان من الثور الأحمر إلا أن وافقه على رأيه وانزوى بعيدا عن أخيه تاركا المجال لسيده الأسد كي يفترسه.
ولما خلا الجو للأسد ـ بعد نجاح خطته الرامية إلى فكرة (فرق تسد) – جاء أخيرا إلى الثور الأحمر وقال له: “إنك يا هذا تنافسني في هذه الغابة بلونك الأحمر الذي يضاهي لوني، ووجودك في هذه الغابة يوحي للصيادين ـ إن أبصروك ـ بكثرة وجود السباع في هذا المكان مما يشكل خطرا علي وعلى سلامتك، فدعني أقض عليك لأضمن أمني وسلامتي في هذه المنطقة.
وما كان للثور الأحمر إلا أن سلم نفسه فريسة للأسد المخادع وهو يقول ـ بعد أن انطلت الحيلة عليه هو الآخر: “نعم ، أُكِلْتُ يوم أُكِل الثور الأبيض”، وما كان لي أن أسمح لنفسي بأن أتواطأ معك على القضاء على أخي الثور الأسود الذي كان يؤازرني في حالة الشدة والخطر، وما كان لنا نحن – الإثنين الهالكين – أن نتآمر معك على قتل أخينا الثور الأبيض الذي كنا بمعيته نشكل قوة متكافئة تقهرك وتحد من أطماعك، أَمَا وقد أصبحت اليوم وحيدا فريدا من غير مجير ولا معين فافعل بي ما تريد. وعندها انقض الأسد على هذا الثور المشموت بعد أن وجده لقمة سهلة، سائغة… فافترسه عن آخره، وما يزال اليوم يتربص بمن في الغابة من الضعفاء والمتخاذلين من غير جنسه إلى أن يجد مقاومة عنيفة نابعة من روح أبية ترفض الخضوع والاستسلام، وتؤمن بأن في التضامن ووحدة الصفوف قوة لا تقهر، وبأن في التفرقة والخذلان ضعفا وانهزاما، وبأن “الحمية تغلب السبع”، وبأن الكائن الحي كثير بإخوانه قليل بمفرده، وقد صدق الشاعر حين قال في هذا الصدد:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا
وإذا تفرقن تكسرت آحادا.

< بقلم: ذ. امحمد الناوي

Related posts

Top