سبق للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في أحد تصريحاته المثيرة للجدل، أن طالب المغرب بتقديم اعتذار للجزائر عن قرار إغلاق الحدود. وقد تساءل الجميع حينها عن أي اعتذار يتحدث ساكن قصر المرادية؟ ومن يجب أن يعتذر للآخر؟ المغرب أم النظام الجزائري؟ فعوض الإدلاء بهكذا تصريح، كان على تبون أن يبادر إلى مراجعة ملف تاريخ علاقات بلاده مع جاره الغربي ويبحث في ثناياه، وعمن تقع على عاتقه مسؤولية الاعتذار وما يترتب عنها من خطوات لإصلاح الأعطاب المتراكمة والتي زادت من حجمها قراراته المتسرعة.
فهل تناسى الرئيس الجزائري ومن سبقه أو تغافل، أو أدار ظهره، أو غض طرفه، أو تجاهل التاريخ أو حذفه بالمرة، إزاء تلك البقع السوداء التي لطخت تاريخ العلاقات المغربية الجزائرية. فإذا عاد إليها فسيجدها متعددة ومتنوعة مست الأرض والإنسان، والمجتمع، والوجدان، بشكل يسيء للماضي المشترك ويربك الحاضر ويهدد المستقبل، لأنه سيكون من الصعوبة بمكان على البلدين محاولة طي صورة الماضي الأليم، دون مراجعة صفحات الانتهاكات الجسيمة لنظامه، لاسيما تلك التي لها علاقة بالإنسان/ الشعوب، كالحق في العيش بأمن وأمان وسكينة، والحفاظ على النفس والعرض والأهل والمال والممتلكات وبقية الحقوق.
الحديث هنا ينطبق على المأساة الإنسانية التي لازالت تسود صفحات العلاقات، والتي تظل وصمة عار في جبين من كان وراءها من حكام الجزائر، وهم يتلذذون فرحين صباح يوم 8 دجنبر من سنة 1975، الذي صادف يوم عيد الأضحى المبارك، ليقوموا بطرد تعسفي في حق مئات الآلاف من المواطنين المغاربة المقيمين بصفة شرعية ودائمة ومستقرة بالتراب الجزائري، ليتم إجلاؤهم إلى الحدود المغربية، دون سابق إشعار أو تهمة، بل هناك من تعرضوا منهم للاختفاء القسري أو التصفية الجسدية دون أن يعلم أحد إلى اليوم بمصيرهم، حيث كانت جريرتهم الوحيدة أنهم مواطنون مغاربة.
دوافع الرئيس الجزائري آنذاك، هواري بومدين، في اقتراف نظامه لهذه الجريمة النكراء، أملتها ما أطلق عليه آنذاك “المسيرة الكحلة”، ردا على إعلان الراحل الحسن الثاني عن المسيرة الخضراء لاسترجاع الصحراء من الاحتلال الإسباني.
غير أن الفارق كبير بين المبادرة المغربية والفعلة الجزائرية. فإذا كانت غاية المغرب لم الشمل وصلة الرحم، كما قال في خطابه الشهير بمناسبة إعطاء الراحل الحسن الثاني إشارة انطلاق المسيرة: “ستلمسون رملا من رمالكم لتعانقوا إخوانكم في الصحراء وتصلوا الرحم….”، فإن حاكم الجزائر ذهب في الاتجاه المعاكس بفعلته “الكحلاء”، حين تجرأ على قطع الرحم بين المغاربة والجزائريين، تشريدا وتفريقا للأهل والأحباب بل والعائلة الواحدة الجزائرية المغربية، وكأن النظام الجزائري لم يجد سبيلا للتعبير عن ساديته إلا من خلال إحداث جرح غائر في علاقات الأخوة المغربية الجزائرية، الذي لم يكف عن النزيف حتى اليوم.
ما يبعث على الأسف، أن هذه الجريمة الإنسانية لم تنل في حينه نصيبها المستحق من الاهتمام والمتابعة والمعالجة، سواء على المستوى الوطني أو الدولي، لتظل الذاكرة منذ ذلك الوقت تنوب عن أي رد فعل للمساءلة والمحاسبة. قد يعتقد الجاني أن الزمن كفيل بمعالجة الجراح عبر النسيان، لكن في حالة المآسي الإنسانية التي ترتكب في حق البشر يصبح الزمن يحفرها ويعريها أكثر فأكثر. وكما قال الشاعر والفيلسوف، بوبليليوس سيروس: “جراح الضمير لا تلتئم أبدا”.
لم يذهب المغرب في حينه أبعد من التركيز على العناية وتقديم يد العون والمساعدة للمغاربة المطرودين، بالعمل على إعادة إدماجهم في أحضان الوطن الأم وفي الحياة العامة للمجتمع بتوفير فرص الشغل والدراسة والسكن، دون أن يلجأ إلى تصعيد الموقف تجاه حكام الجزائر، بل اكتفى بالتنديد والاستنكار. كان المغرب وقتها منشغلا بعميلة إعادة ترتيب الأوضاع بأقاليمه الجنوبية المسترجعة من الاحتلال الإسباني، ومواجهة الأطماع الجزائرية ومناوراتها العسكرية على ترابه الوطني.
إن صيانة الذاكرة من ثقوب النسيان، لاسيما لدى عموم الأجيال الصاعدة، رسالة تطوق أعناق الآباء والأجداد، تتجدد وتتوالى إلى حين الكشف عن الوقائع المحزنة لعام 1975 وإعادة الكرامة والاعتبار لضحاياها.
وتمثل أنشطة وتحركات التجمع الدولي لعائلات المغاربة المطرودين من الجزائر سنة 1975 مساهمة رائدة في اتجاه العناية بالذاكرة الوطنية والحفاظ على يقظتها، باعتبار أن التاريخ أعز ما نملك ومن الواجب الائتمان عليه وتنوير الأجيال بفصوله ومعانيه والتشبع بقيمه، للوقوف عند هذا الحدث الأليم في الوجدان المغربي الجزائري.
وإن من شأن المبادرات التي أطلقها التجمع الدولي لعائلات المطرودين المغاربة من الجزائر، بمناسبة مرور 46 سنة على هذا الحدث التاريخي البغيض، أن يوثق للذاكرة الوطنية ويحتفظ بتلك المأساة حية يقظة مشتعلة، للمساهمة في تدوين الوقائع وتنوير الرأي العام الوطني والجزائري والمغاربي والعربي والدولي، فما أحوج الجميع للتعرف على هذه الجريمة الإنسانية في حق المغاربة، بعيدا عن كل زيغ أو تحريف أو طمس لوقائع التاريخ.
رئيس الوزراء البريطاني الشهير، ونستون تشرشل، أحد رموز القرن العشرين، نطق بقولة مأثورة ظلت ترددها الأجيال: “التاريخ يكتبه المنتصرون”، اليوم يقف التجمع الدولي لعائلات المطرودين من الجزائر، عند هذه الذكرى الأليمة كمنتصر ليعيد كتابة التاريخ ويكشف حقائقه كمنتصر على تلك الانتهاكات الجسيمة وعلى من اقترفوها وعلى من لازال يدير ظهره عنها، والتي تدين حكام الجزائرعلى ما اقترفوه من أفعال شنيعة في حق مواطنين مغاربة أبرياء عزل، كانوا يعيشون مع أهلهم في انسجام ووئام منذ عشرات السنين، بل أن منهم وهم كثيرون، من حمل السلاح وقاوم إلى جانب إخوانهم الجزائريين ضد الاحتلال الفرنسي.
إن إحياء هذا التجمع الدولي، لذكرى المطرودين قسرا من الجزائر صبيحة يوم عيد الأضحى سنة 1975 وهي كما معروف مناسبة دينية مقدسة لدى كافة المسلمين، لكفيل بأن يفتح أعين الأجيال الصاعدة والناشئة واللاحقة في وطننا والفضاء المغاربي، على حقيقة حكام الجزائر وأخطائهم التاريخية في حق شعبهم والشعب المغربي بل والإنسانية برمتها، لتتمكن من الملامسة والتعرف عن قرب على ماضيها ويرسخ في عقولها ثقافة التمسك بالأمانة التاريخية، ومحاسبة من أساء لهذه الشعوب ومن حاول زرع بذور الفتنة بين ظهرانيها، وحرمها من تأمين مستقبل واعد مبني على أساس “السلام والعدالة والتضامن والاحترام المتبادل، وليس على أساس الكراهية والحقد” كما جاء في بلاغ التجمع الدولي لعائلات المطرودين المغاربة من الجزائر سنة 1975.
بقلم: محمد بنمبارك