قبل الحديث عن الإصلاح الديني في الإسلام، تاريخا وممارسة ومجالا وصعوبات وتحديات، لا بد من أن نجيب على سؤال مهم يبنى عليه كل ما بعده، لم الحديث عن الإصلاح الديني، وهل نحن محتاجون حقا لهذا الإصلاح؟ لن أتردد في الجواب بنعم، وأن أقول بأن الأمر لا يحتمل التأخير، لعدة أسباب:
1
لأن الأديان كلها محكوم عليها بالانقراض وانتهاء زمن الصلاحية ما لم تتوفر على آليات الإصلاح وأدواته، فالاصطدام بين أي فكرة دينية وواقع إنساني ليس له نتيجة سوى انتهاء الفكرة مهما طال الزمن، ولا من حل سوى تطويرها وتكييفها إن أرادت ضمان الاستمرارية ودوام الحياة.
2
ولأن الدين ما هو إلا وسيلة من وسائل إصلاح الكون، فالإنسان قبل الدين، والأصل في الإنسان هو الصراع بين الإصلاح والإفساد، وأن الأديان ما ظهرت إلا لمساعدة الإنسان على هذا الإصلاح، ألم يقل الملائكة لربهم احتجاجا على مهمة الاستخلاف في الأرض التي وكلت للبشر، “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال: إني أعلم ما لا تعلمون”.
3
ولأنه إذا تقرر أن الأصل هو الإنسان، فإن الدين حين يتحول إلى مفسد لحياته، أو عائق أمام نيله لمزيد من الحقوق والامتيازات، فتلك نهايته والطبيعة ستتكلف بعملية تصفيته وإحالته على الأرشيف، فالإصلاح هو من جوهر الإنسان، ومن عمق صراعه الداخلي بين طبيعته وروحه واحتياجاته ومحيطه، من خلال كونه فردا ومن خلال انتمائه للجماعة، في علاقاته سواء ما كان منها عموديا بينه وبين الخالق، أو ما كان أفقيا في تفاعله مع الطبيعة والخلق والكون.
4
ولأن الإصلاح حاجة مجتمعية، ولا محيد عنها لتيسير العيش والتعامل مع الإشكاليات التي يجود بها علينا تطور الحياة، وتغير أنماط التفكير، مع تسارع وتيرة مخرجات المدنية والحداثة، وعجز الفقه التقليدي عن مسايرتها وتكييفها.
5
ولأن عالم اليوم ليس هو عالم الأمس، في أنظمته الاقتصادية والاجتماعية، وفي أشكاله السياسية، وفي تدبير علاقاته الدولية، وفي تصوراته نحو الإنسان والكون والطبيعة، فلا يمكن للدين إلا مسايرة هذه التغيرات، وملاحقتها بالتغيير والإصلاح.
6
ولأن ما تعرض له العالم الإسلامي من صدمة حضارية، حين اكتشف تأخره عن الغرب علميا وتكنولوجيا بقرون عديدة، وأنه لا يملك شيئا من أسباب الحضارة والمدنية والمعرفة ولا من أدواتها، فلا سبيل للحاق بالركب إلا بتكييف النص الديني بما يتوافق مع قيم الحداثة ومنجزاتها.
7
ولأن ما عرفه العالم من تلاشي سلطة الجماعة وهيمنة الفرد، ودخول مجتمعاتنا في هذه الدينامية رغما عنها، يجعلنا ملزمين بتطوير نموذج اجتماعي جديد، يراعي هذه المتغيرات الاجتماعية، وينتج فقها دينيا متخلصا من قيود الجماعة وسلطتها.
8
ولأن تحول مفهوم الحريات مع بداية القرن العشرين، والتركيز على أهمية الفرد، وضرورة تحرره من كل السيطرة، بما في ذلك تسلط الدولة والمجتمع، وأهمية كل ذلك في بناء دولة حديثة، اصطدم في مجتمعاتنا مع فقه تقليدي يغلب عليه التحكم، وتترجح فيه مصلحة الجماعة، ويقبر فيه الإبداع الفردي، فليس من مخرج سوى قراءة الدين بما يوسع هامش الحرية، ويستوعب كل هذه المتغيرات المعرفية والفلسفية.
9
ولأن ما عرفه العالم من صدام بين العلم والدين، وما كان بينهما من تنافس حول من يمتلك الحقيقة المطلقة، في ظل الاعتقاد العام بأن الحقيقة لها مسار واحد إما أن يقدمها العلم أو الدين، وفي ظل فقدان العقل الفقهي لسيطرته السياسية والمعرفية، مع تطور العلم واتساع هيمنته ومجالات تأثيره، وما كان فيه من قفزات كبيرة على مستوى التشخيص والعلاج، مما جعله واقعا مفروضا، ومرجعية عليا عند غالب الناس وحتى عند الدول والأنظمة، فانهزم الفقه أمام العلم، بين تشبث البعض بالأساطير ومحاولات التوفيق البئيسة، وإنكار الدين وتركه فيمن يراه مصادما للعلم وأبجدياته، فكان لا بد من خطاب يؤسس لمسافة واسعة بين العلم والدين، بعدم إقحام الدين في قضايا علمية محضة تضر به ولا تنفعه.
10
ولأن حقوق الإنسان عموما، والمرأة خصوصا، أضحت أساسا من أسس الحداثة، وليس من الممكن مواجهة كل ما نعيشه من أعطاب، دون أن تحتل هذه القضايا سلم الأولويات والاهتمامات، وأول خطوة في ذلك تحرير الثقافة والتشريع من سلطة النص الديني الذي كان مؤطرا لسياقات مختلفة وعصور منقضية.
11
ولأن حركة الإصلاح الديني انطلقت مبكرا في تاريخ الإسلام، فلم تكد تمر سنوات قليلة على إعلان اكتمال الدين وإتمام نعمته، حتى بدأ تغيير الأحكام والقوانين السابقة بأخرى أكثر انسجاما مع الواقع الجديد وحاجاته وإكراهاته، فكيف ونحن أمام خمسة عشر قرنا من حركة التاريخ وديناميته وتغيراته؟
لهذه الأسباب العشرة، الحديث عن الإصلاح الديني ضرورة ملحة، والمصير إليه قضية وقت لا أقل ولا أكثر.
بقلم: عبد الوهاب رفيقي