تعيش بريطانيا على وقع أزمة غلاء بسبب ارتفاع أسعار المواد الأساسية، وأدت هذه الأزمة إلى بروز إضرابات في العديد من القطاعات، ما يؤشّر على عودة الحياة إلى النقابات.
وتحتدّ المشاكل في حانة سانت جيمس بمدينة برايتون الساحلية في جنوب إنجلترا؛ ففي الوقت الذي تثير فيه أزمة غلاء المعيشة في بريطانيا الاستياء من تدني الرواتب والأوضاع السيئة التي يعيشها العمال، اتخذ موظفو الحانة خطوة غير عادية للإضراب بقيادة المشرف عليهم، جيك مارفن، البالغ من العمر 25 عاما.
وقال مارفن، الذي انضم مع زملائه إلى نقابة أصوات العالم المتحدة، “لم أعتقد يوما أنني سأكون مشاركا بهذه الدرجة… لكن الحاجة فرضت ذلك على ما أعتقد”.
وقد أضرب مع زملائه لمدة يومين في يونيو ويوليو، لكنهم فشلوا حتى الآن في تحقيق مطالبهم. ثم تقرر تعليق عمل مارفن وآخرين، مما يسلط الضوء على التحديات التي يواجهها العمال ذوو الرواتب المنخفضة في القطاع الخاص، رغم تزايد الاهتمام بالنقابات.
وقال مستأجرو الحانة إن إيقاف الموظفين كان بسبب قضايا تأديبية مختلفة، مضيفين أنهم يحترمون حق الموظفين في الانضمام إلى نقابة.
وتجتاح بريطانيا موجة من الإضرابات التي أطلق عليها اسم “صيف الغضب”، حيث أدى ارتفاع أسعار الوقود والغذاء إلى تراجع القدرة الشرائية للعمال. لكن النقابات العمالية تأمل في أن يكون هناك جانب مضيء للضغط التضخمي من خلال مساعدتها على استعادة بعض نفوذها المفقود، بالإضافة إلى عدد أعضائها الذي انخفض إلى النصف تقريبا منذ “شتاء الغضب” في أواخر سبعينات القرن الماضي.
وقال إيدي ديمبسي، مساعد الأمين العام للنقابة الوطنية لعمال السكك الحديدية والبحرية والنقل، “يجب أن تكون هناك تسوية في هذا البلد للأجراء وسعي لحل جميع القضايا الأخرى التي تغذي أزمة تكلفة المعيشة هذه”.
ومن المقرر أن تنظم النقابة الوطنية لعمال السكك الحديدية والبحرية والنقل اليوم الأربعاء إضرابا آخر لمدة 24 ساعة من أجل حماية الرواتب والوظائف، بعد أن قادت خلال الشهر الماضي أكبر إضرابات للسكك الحديدية في بريطانيا منذ 30 سنة، عندما بلغ التضخم أعلى مستوى في 40 عاما عند 9.4 في المئة.
ونال ديمبسي البالغ من العمر 40 عاما الاستحسان لظهوره التلفزيوني من أجل الدفاع عن الحاجة إلى التحرّك، على الرغم من أن المنتقدين يشيرون إلى الضرر الاقتصادي والاضطراب الناجم عن الإضرابات. وقال لمؤسسة تومسون رويترز إن “الطلب بلطف لا ينجح في أفضل الأوقات، ولن ينجح في أصعب الأوقات”، مضيفا أن أكثر من 3 آلاف شخص انضموا إلى النقابة الوطنية لعمال السكك الحديدية والبحرية والنقل في الشهرين الماضيين.
النجاح يولّد النجاح
وقال كيفين روان رئيس النقابة الوطنية لعمال السكك الحديدية والبحرية، في مؤتمر اتحاد العمال البريطاني “خلال إضرابات السكك الحديدية في يونيو سُجّلت زيادة بمقدار ثمانية أضعاف في عدد الزيارات إلى أداة في الإنترنت تساعد العمال في العثور على نقابة”.
ويبدو أن اهتمام العمال بالمفاوضات الجماعية يتزايد في بلدان أخرى أيضا، حيث ازداد النشاط العمالي في الولايات المتحدة سنة 2021، وقرر بعض الموظفين في الشركات البارزة (مثل أمازون وستاربكس) تشكيل نقابات، وهو ما يعكس جزئيا تداعيات جائحة كوفيد – 19 ونقص العمالة.
كما انتشرت الخلافات المتعلقة بالرواتب في أوروبا. وتطالب أكبر نقابة في ألمانيا (الاتحاد الصناعي لعمال المعادن) برفع رواتب 3.8 مليون عامل، وفي حالة الرفض ستدعو إلى إضرابات واسعة النطاق في صناعة الطيران.
وقال هاري كاتز، مدير معهد شينمان لحل النزاعات بجامعة كورنيل، إن سوق العمل الضيقة وانخفاض معدلات البطالة والكثير من الوظائف الشاغرة… كلها عوامل تؤدي إلى المزيد من التحركات العمالية.
وتابع “يمكن أن يعثر العمال بسهولة أكبر على وظيفة بديلة. لذلك من المرجح أن ينجحوا أكثر إذا أضربوا عن العمل”، مضيفا أن التسريح المفاجئ للعمال والمشاكل الصحية أثناء الوباء أثارا غضب العديد منهم.
وقال روان إنه “إلى جانب مجرد تنظيم الإضرابات سيتعين على النقابات أن تظهر نتائج ملموسة في تحسين رواتب العمال وظروفهم لتأمين المصلحة الحالية في تكوين النقابات”. ويرى أن”النجاح يولّد النجاح، وهناك بالتأكيد جو من الثقة بين نقاباتنا العمالية”، مشيرا إلى انتصارات القطاع الخاص الأخيرة، مثل زيادة رواتب العاملين في شركة الشوكولاتة كادبوري بقيمة 17.5 في المئة على مدى سنتين.
وكان 12.8 في المئة فقط من الموظفين في القطاع الخاص البريطاني ينتمون إلى النقابات سنة 2021، مقارنة بـ50.1 في المئة في القطاع العام، مما يعني أن معظم العمال يفتقرون إلى القدرة على المساومة.
وظائف غير ثابتة
وتأسست نقابة أصوات العالم المتحدة التي تضم 5000 عضو فقط، بمن فيهم موظفو حانة سانت جيمس، عام 2014 استجابة للفجوة الملحوظة ضمن حركة العمال النقابية بين الحد الأدنى للرواتب من جهة والوظائف غير الآمنة من جهة أخرى. والكثير منهم من المهاجرين.
وقال الأمين العام لأصوات العالم المتحدة بيتروس إيليا، الذي تضم نقابته عمال النظافة وحراس الأمن وسائقي التوصيل وغيرهم ممن يعملون في وظائف محفوفة بالمخاطر، إن “العمال الذين هم في أمس الحاجة إلى النقابات حقا هم الأقل تمثيلا فيها. إن هؤلاء هم أشخاص أبقتهم الحركة النقابية غير مرئيين بطريقة ما. إنها مجموعة ضخمة من العمال ينبغي على الحركة النقابية أن تحاول التحدث إليها”.
وتختلف عضوية النقابات وعدد العمال المشمولين باتفاقيات المفاوضة الجماعية، أي أولئك المتأثرين بمفاوضات النقابات مع أصحاب العمل والتي يمكن أن تشمل الموظفين غير الأعضاء، اختلافا كبيرا في جميع أنحاء العالم؛ حيث يخضع أغلب العمال في بلدان مثل ألمانيا ودول الشمال لاتفاقيات مساومة بهدف تحسين رواتبهم. وقد ربطها الأكاديميون بمستويات أدنى من عدم المساواة الاقتصادية.
وفي الآن نفسه انخفضت قوة نقابة أصوات العالم المتحدة في بريطانيا والولايات المتحدة، وأشار البعض إلى تراجع الصناعات التقليدية مثل التعدين.
وقال توني دوبينز، أستاذ علاقات العمل والتوظيف في كلية إدارة الأعمال في برمنغهام، “كان من الصعب على النقابات أن تشق طريقها إلى قطاعات جديدة من الاقتصاد وقطاع الخدمات”.
وتواجه النقابات مشكلة أخرى وهي أن الأعضاء يتقدمون في السن، مما يمثل مشكلة حتى في البلدان ذات الحركات العمالية القوية.
ووفقا لاتحاد نقابات العمال الأوروبي، انخفضت نسبة الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 25 عاما والذين ينضمون إلى الاتحاد بشكل كبير، مما ساهم في انخفاض كثافة النقابات العمالية في معظم البلدان الأوروبية.
ويشير المحللون إلى أن الكثير من إمكانات النمو خارجة عن سيطرتهم في الأماكن ذات النقابات الضعيفة أو غير الموجودة؛ فللقوانين المحيطة بالنقابات تأثير كبير على القدرة على التنظيم.
ووفقا لمؤشر الحقوق العالمية للاتحاد الدولي لنقابات العمال، فإن أربعة من كل خمسة بلدان تعترض المفاوضة الجماعية، وتحرم أكثر من ثلاثة أرباع البلدان العمال من حق تأسيس النقابات والانضمام إليها.
وأصبحت قوانين بريطانيا التي تضمن هذه الحقوق أكثر صرامة. ووضعت الحكومة مؤخرا خططا للسماح للشركات بتوظيف عمال الوكالات مؤقتا أثناء الإضرابات.
وقال نيل تود، الخبير النقابي والشريك في شركة تومسون للمحاماة، “يتعين على النقابات الآن أن تقفز من خلال المزيد من الأطواق القانونية لتحقيق التغيير الذي تريده نيابة عن أعضائها”.
وأضاف في تصريحات عبر البريد الإلكتروني “يميل النظام بأكمله في الوقت الحالي نحو حماية أصحاب العمل أكثر من حماية العمال، وهذا يزداد سوءا للأسف”.
ويعني هذا أن الحديث عن إحياء النقابات بالكامل سابق لأوانه ما لم تكن هناك زيادات كبيرة في العضوية على المدى الطويل، كما يقول محللون.
ولكن في أعقاب مصاعب فايروس كورونا والارتفاع التضخمي يعتقد قادة النقابات أن الزخم في صالحهم. وقال ديمبسي “نأمل أن نكون قدوة وأن يأخذ الآخرون بزمام المبادرة. لا أستطيع إلا أن أرى هذا ينتشر”.