سبق لي في تسعينيات القرن الماضي، أن تساءلت، ضمن ركن “بأصوات متعددة”، في الملحق الثقافي لصحيفة “الاتحاد الاشتراكي” المغربية، حول ما إذا كنا نعيش “زمن السرد”، اعتبارا للنقلة النوعية والتراكمية التي ما فتئ يحققها السرد الأدبي، في المغرب وفي عديد من المشاهد الأدبية العربية، وخصوصا ما يتصل بإقبال مجموعة من الشعراء على كتابة الرواية تحديدا، قادمين إليها من الممارسة الشعرية، ومن غيرها من الاهتمامات الأخرى، ولو أن انعطافهم ذاك بقي في مجمله، جزئيا، بمعنى أن أولئك الشعراء، ممن انعطفوا نحو الرواية، في تلك المرحلة، ومن كتبوا الرواية بعدهم، لم يهجروا الشعر بصفة نهائية، وإن بدا أن الرواية لدى بعضهم، في العقود الأخيرة، قد استهوتهم بشكل لافت، فارتموا كليا في أحضانها المغرية، مع أن الإغراء، هنا، تبقى له، هو أيضا، دوافعه ومبرراته الإبداعية والسوسيو ثقافية المصاحبة، وغيرها…
واليوم، وقد جرت مياه كثيرة تحت الجسر، وظهرت أجيال جديدة من الروائيين العرب، بعد أن ضاق الشعر ببعضهم، بدت الرواية ربما هي الأكثر استيعابا لأسئلة المرحلة ولمتغيراتها المتسارعة، من غير أن يفقد الشعر بريقه وجذوته. ومن بين هؤلاء الشعراء الذين اكتووا بنار الشعر في البداية، وعلى مدى فترة زمنية مهمة من الكتابة والتجديد والتراكم، ولم يغادره، رغم انعطافه الجزئي نحو كتابة الرواية، نذكر الشاعر المغربي إدريس الملياني.
فهو الشاعر الذي يعتبر اليوم أحد أبرز الوجوه الشعرية بالمغرب والعالم العربي، ستيني البداية الشعرية الحقيقية، بقصائده العمودية والوجدانية المنشورة في منابر إعلامية وثقافية محلية، حيث كان للقصيدة العمودية آنذاك حضور قوي في المشهد الأدبي المغربي، كما يعتبر من صناع الحداثة الشعرية ببلادنا، فضلا عن كونه أحد الأعضاء البارزين المؤسسين لجمعية رواد القلم، وهي الجمعية التي سبق لها أن نظمت مع جمعية أصدقاء المعتمد مهرجانا شعريا بالدار البيضاء، في بداية سبعينيات القرن الماضي.
إلى جانب ذلك، يشهد للملياني بحضوره وانتمائه السياسي، وهو المجال الآخر الذي كان له فيه حضور وازن، بشهادة بعض أمناء الحزب الذي انتمى إليه شاعرنا وارتضاه بديلا سياسيا، فاستحق منهم تقديرا خاصا.. كما عرف شاعرنا بين أقرانه الشعراء المغاربة، بكونه أحد أهم من يجيد إلقاء الشعر ببلادنا، حيث تجتمع فيه ولديه القصيدة الجيدة، والنبرات الصوتية الشجية، والمشاعر والأحاسيس الصادقة، وهو ما يجعل قصائده تنفذ بسرعة إلى أحاسيس جمهوره ومشاعرهم، مما يزيد من محبة جمهور الشعر له، ومن إقبالهم اللافت على أماسيه الشعرية، للاستماع له والاستمتاع به.
هكذا، إذا، يبدو أن أهم فضاء إبداعي يفضل هذا الشاعر الانتساب إليه، بعد فضائه الإنساني، هو فضاء الشعر تحديدا، فضاء عمل الملياني على تشييده منذ ستينيات القرن الماضي، فتوالت دواوينه الشعرية تباعا، غير مكترث بالأضواء والشهرة المزيفة، كما ارتضاها بعض شعرائنا بديلا لقدراتهم الشعرية…
وفي هذا الإطار، صدرت للشاعر الملياني مجموعة من الدواوين الشعرية المجددة، فكان أول الغيث لَمة، أقصد بذلك أن أول ديوان شعر صدر له، كان بالاشتراك مع المسكيني الصغير وأحمد هناوي، وفي تجربة رائدة في المغرب، بعنوان “أشعار للناس الطيبين” عام 1967، ويكون الملياني بذلك قد أعلن مبكرا عن انتمائه لزمرة هؤلاء الناس الطيبين، وإلى اليوم.
وكان على شاعرنا أن ينتظر سبع سنوات، حتى يُصدر ديوانه الشخصي الأول، عام 1974، بعنوان “في مدار الشمس رغم النفي”، ديوان اعتبره الشاعر مشكلا للبداية الحقيقية لتجربته الشعرية، لكونه، أسوة بأساتذته الشعراء الرواد، لم يعمل على جمع نصوصه الشعرية العمودية ونشرها.
صدر للملياني، بعد ذلك بفترة طويلة، ديوان “في ضيافة الحريق” عام 1994، المهدى إلى الباحث الاقتصادي المغربي الراحل “عزيز بلال”، وهو ديوان يعتبر بمثابة سيرة ذاتية ليس فقط لجوانب من شخصية عزيز بلال، لكن وبالأساس لتجربة الشاعر نفسه، ففيه نجد عددا من الاحتراقات والحرائق: احتراق عزيز بلال ووفاته بأحد فنادق أمريكا، حريق السياسة واكتواؤه بنارها، حريق النضال الاجتماعي الوطني، حريق الاتحاد السوفياتي الذي شاهده الشاعر حين كان يدرس اللغة والأدب الروسي بموسكو، عدا الحريق الذي تولده لوعة الحب والشغف والإبداع…
وفي عام 1998، صدر لشاعرنا ديوان “زهرة الثلج”، وهو ثمرة إقامة الشاعر ودراسته بموسكو، ديوان اعتبره شاعرنا محاولة فريدة، يحلل فيها تجربته هو باستحضاره لنصوص غائبة، دفاعا منه عن دور الشاعر في إشاعة الوعي التربوي بالشعر، كما أنه بمثابة محاورة بين ثقافتين وذاكرتين ثقافيتين: الثقافة العربية والثقافة الروسية، انطلاقا من قيام ثنائية واضحة بين الهنا والهناك، بين المغرب وروسيا.
نشر الملياني، بعد ذلك، ديوان “حدادا علي” عام 2000، مفتتحا به الألفية الجديدة، ومودعا القرن الماضي ومستقبلا القرن الجديد، يستهله بقصيدة طويلة من عشرة مقاطع تلتقي مع “الوصايا العشر”، يوظف فيها الشاعر لغة الكتاب المقدس برؤية قريبة من الصوفية.
أما ديوانه “مغارة الريح” الصادر عام 2001، فهو بمثابة استعادة لذاكرة الطفولة أو الروح على تعبير الشاعر في مقدمته لديوانه، وعودة إلى مسقط رأسه، مدينة “تازة”، التي غادرها رضيعا وعاد إليها شاعرا.
يحتفي ديوان “مغارة الريح” بالمكان وبشخصيات ورموز كثيرة من تاريخ المنطقة والمغرب عموما، سواء من التراث المحلي أو العربي، وخصوصا من التراث الأمازيغي (كلدمان أو ملك الماء – تازة الأوربية أو الأعروبية – الحورية كلبسو ملكة سبتة التي أسرت أوديسيوس وأطلقت سراحه، وعاد إليها ليموت في المحيط الأطلسي، كما في القصيدة وفي بعض الروايات والأساطير – ملكة الخيام أو جدة الطوارق). وجدير بالإشارة، هنا، إلى أن الشاعر الملياني، يعتبر واحدا من الشعراء المغاربة القلائل الذين التفتوا إلى المرجعية الثقافية المحلية، في بعدها العربي والأمازيغي. لذلك، فقد فعل “المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية” خيرا، حين اقترح طبع ديوان للشاعر بعنوان “تانيرت: ألواح أمازيغية”، صدر عام 2004، ويضم جميع قصائد الشاعر التي تحضر فيها شخصيات ورموز من الثقافة الأمازيغية، وتمتد قصائد هذا الديوان زمنيا على مسافة تبدأ من الستينيات إلى بداية الألفية الثانية، بما “تنطوي عليه من وعي وطني أمازيغي مبكر”، وهو ديوان جدير بالاعتبار، لكونه أول ديوان شعر مغربي باللغة العربية يحتفي بالثقافة الأمازيغية، من غير أن ننسى الإشارة، هنا، إلى تجارب شعرية مغربية لافتة، استوحت مكونات من الثقافة الوطنية، ومنها الأمازيغية الموغلة في القدم والعتاقة، مثل تجربة الشاعر الرائد، الراحل محمد الخمار الكنوني، في ديوانه “رماد هسبريس”، رغم ما أثاره هذا الديوان من ردود فعل، سياسية في العمق أكثر منها فنية وثقافية، من أطراف أمازيغية، وسرعان ما دحضتها بعض الكتابات الأمازيغية غير المتعصبة، منبهة إلى أهمية المرجعية الثقافية الوطنية التي هي ملك مشاع للجميع.
ونستلذ في إصداره الشعري “بملء الصوت”، الصادر عام 2005، بمحاورات شعرية مع عدد كبير من الشخصيات والرموز، من عالم الإعلام والسياسة والفكر والشعر والتشكيل، من زمننا ومن الأزمنة الغابرة: علي يعتة، نذير يعتة، محمد زفزاف، أحمد المجاطي، محمد شكري، امرؤ القيس، المتنبي، محمد أنيق، وقصائد من اسطنبول، في احتفائها بشعراء وزعماء، من أبرزهم ناظم حكمت. كما نستمتع بمحاورات ممتعة مع الأمكنة والفضاءات التي زارها الشاعر واندمج فيها، محلية وأجنبية: عين أسردون، اسطنبول، اليابان، موسكو… إلا أن الصوت القوي الذي يحضر في هذا الديوان يبقى، أولا وأخيرا، هو صوت الشعر.
توالت بعد ذلك الإصدارات الشعرية للملياني، هو الذي لم يتوقف عن كتابة الشعر ونشره إلى اليوم، حيث صدر له عام 2022 ديوان جديد بعنوان “عروس إلاه المطر – تسليت أنزار”، بمثل ما عرف، أيضا، بتفاعله إبداعيا مع وباء كورونا، في مجموعة من دواوينه الشعرية، من قبيل: “كل شيء سيكون بخير” (2021) و”غمة الكمامة” (2022) …
ويمكن، في هذا الباب، الإشارة إلى بعض السمات الفنية والجمالية التي تسم تجربة الملياني الشعرية الغنية والمؤثرة، كما عمل على تشييدها على مدى عقود خلت، ويواصل اليوم تطويرها والإضافة إليها، من بينها على الخصوص: المشهدية، والحوارية، والسخرية المرة والسوداء، والجرأة، والبوح، والتأمل الروحي اللافت في سؤال الحياة والموت، والاهتمام بالتفاصيل البسيطة والهامشية، والاحتفاء بالذات وشجونها، وبالأمكنة والرموز والأقنعة، والمرجعية الدينية والأسطورية والتراثية، والتكثيف اللغوي، والخيال الخصب، والإيقاع الموسيقي الذي ظل صديقنا الشاعر الملياني وفيا له صداقة الخليل، والشعر التفعيلي، استمرارا وامتدادا لتجربة أساتذته وأصدقائه الشعراء الأحياء منهم والراحلين، من المؤسسين الذين دأب شاعرنا على الوفاء لذكراهم والسير على منوالهم، دون أن يغض الطرف عن معانقة التجريب، والانفتاح على المعطيات الفنية والجمالية التي يحفل بها الشعر الحديث، والاستفادة منها، محليا وعربيا وكونيا وإنسانيا…
وقد عرف الشاعر إدريس الملياني إلى جانب ذلك كله، بدوره الكبير في تطوير ثقافتنا الوطنية الحديثة، عبر مساهماته وكتاباته ومشاركاته المؤثرة في الحقل الثقافي والأدبي والإعلامي المغربي، إبان إشرافه ولفترة طويلة على الملحق الثقافي لجريدة حزبه “البيان” المغربية، فكان له دور كبير في تشجيع ثلة من المبدعين والكتاب المغاربة الشباب، ممن حرص الملياني على تحفيزهم على الكتابة والإبداع، ونشر لهم في صفحات الملحق الثقافي، أو عبر دفاعه المتواصل عن الشعر المغربي، وغيرته اللامحدودة عن الأفق الإبداعي المغربي، هو الذي يتبنى بصدق قولة الشاعر العربي سعدي يوسف: “مستقبل الشعر العربي يوجد في المغرب”، وظل يدافع عنها بكل استماتة، من موقع إلحاحه على إعادة الاعتبار للذاكرة والهوية الشعرية المغربية، تلك التي كان لها فضل كبير على الأجيال اللاحقة، وأيضا من منطلق إيمانه الراسخ بحرية الكتابة والإبداع واختيار الشكل المناسب للقصيدة، خارج أي تعصب أو انتصار مجحف لهذا الشكل الشعري أو ذاك…
وبمثل وفائه للبعد الثقافي الوطني، ظل شاعرنا الملياني عاشقا لمسقط رأسه “تازة”، والذي هو مسقط رأس القصيدة والطفولة، فاستحقت مغاراتها وأساطيرها ومتخيلها العام، ديوانا فريدا من نوعه، هو “مغارة الريح”، بمثل ما عرف شاعرنا بإنجازه لعديد من الترجمات الأدبية البديعة، وخصوصا من اللغة الروسية التي أعجب بها وأتقنها، إلى اللغة العربية، بمثل إعجابه بالشعراء والروائيين الروس، ممن ترجم لهم الملياني وأعاد لنصوصهم الاعتبار، بعد كل ما تعرضت لهم ترجمة الأدب الروسي إلى العربية من تشويه، وهو ما أبدى بشأنه الملياني ملاحظاته، وخصوصا على ترجمات سامي الدروبي في هذا الباب.
ويكفي أن نشير، هنا، إلى ترجمات كاتبنا الأنيقة والمبدعة لكل من سيرة الشاعر الروسي الكبير يفغين يفتوشنكو الذاتية، هذا الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، صدرت عام 2005 بعنوان “العمق الرمادي: سيرة ذاتية”، وله أيضا ترجمة لـ”تراجيديات صغيرة” لبوشكين، عدا ترجمته لمجموعة من روايات الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي، الذي أعجب به الملياني وبإبداعاته الروائية، من قبيل: “مذكرات من البيت الميت”، و”الليالي البيضاء“، و”نيتوتشكا نيزفانونا”، و”زوجة رجل آخر وزوج تحت السرير وتليها رواية في تسع رسائل“، و”قرية ستيبانتشيكوفو وسكانها“، فضلا عن ترجماته المتوالية لمختارات من الشعر العالمي، من بينها ترجمته لمختارات شعرية “توربينا: أشعار من مدونة حياتي” للشاعرة الروسية نيكا غريغورييفا توربينا، وغيرها من المساهمات الترجمية الرصينة من لغاتها الأصلية…
موازاة مع ذلك، عرف الشاعر الملياني بحضوره الثقافي والنقدي الموازي، دارسا للشعر وكاتبا عن قضايا الثقافة، ويكفي، هنا، أن نشير إلى بعض كتبه المضيئة، من قبيل “سنديانة الشعراء”، و”من ثمار براري النثر وبحار الشعر”، و“متى نخرج من مقدمة ابن خلدون؟“، وغيرها من الدراسات والنصوص التحليلية المفتوحة…
غير أنه رغم الصمود الذي أبداه الشاعر الملياني في وفائه للقصيدة، على مدى ما يزيد عن أربعين سنة خلت، حدث أن سقط بدوره في شرك إغراء الرواية، وترجمة مجموعة من نصوصها الأساسية العالمية، كما تمت الإشارة إلى بعضها، فارتمى في حضن الكتابة الروائية، فكان الموعد الروائي الأول مع روايته “ماتريوشكات (عرائس روسية)”، وهي سيرة روائية، تحكي عن جوانب من التجربة الاجتماعية والإبداعية للكاتب في موسكو، وبعدها رواية “كازانفا”، وفيها يكتب سيرة مدينة “كازانفا”، التي هي مدينة الدار البيضاء، محتفيا في روايته بالمدينة، ومستوحيا فيها اليهود المغاربة، في تعايشهم التاريخي مع أجناس أخرى، وحاكيا عن هجراتهم البعدية إلى إسرائيل، وعما تعرضوا له من اضطهاد واجتثاث… عدا كتابته في جنس المحكيات، في كتابه “فتاة الثلج”، وغيرها من النصوص السردية، التي جعلت كاتبنا، أمام تزايد تراكمها، يفسر ترحاله، كما يسميه، نحو الرواية، بتفسيرات متعددة، متراوحا بين تأكيد وفائه الثابت للشعر وضرورة التنويع، كما في قوله: “لاشك أن التجربة هي التي تختار شكلها الفني، وتفرض على كاتبها الزي الذي ستزف به إلى قارئها، في شكل شعري أو سردي أو أشكال أخرى فنية وجمالية”، ويضيف، في سياق آخر: “اتجاهي إلى كتابة الرواية، هو عشق وحب للإبداع بصفة عامة، وطبعا الرواية ليست ضرة للشعر، إنها عشق ويبقى الكاتب عاشقا للإبداع في أي سماء حلق أو على أي أرض حط”.
هكذا شكل هذا التراكم، في أبعاده الشعرية والسردية، وفي تنوعه وخصوبته وتطوره وتجدده، متنا خصبا للنقاد والدارسين والباحثين، وموضوعا لعديد من الأبحاث الجامعية، وبعض الأعمال المسرحية والتشكيلية والموسيقية، فيما عرفت أشعاره طريقها إلى الترجمة إلى مجموعة من لغات العالم. وهو ما يجعل هذا المسار الإنساني والإبداعي والثقافي الجميل والمضيء والمؤثر، مسارا نوعيا وكبيرا ومشرفا، يستحق أن ترفع له القبعة عن كل جدارة وتقدير واعتزاز…
د. عبد الرحيم العلام