تغمرني سعادة عارمة، وأنا أشارك في هذا اللقاء الاحتفائي الجميل بمدينة المضيق البهية، بدعوة من جمعية قدماء تلاميذ “ثانوية الفقيه داود”، تكريما لأحد وجوه الثقافة والفن والسياسة والدبلوماسية ببلادنا، وأيضا لنحتفي، في حضوره الوارف، بتجربته الرائدة والمضيئة، في ميدان العمل الثقافي الوطني والدولي؛ يتعلق الأمر، هنا، بالصديق العزيز، الوزير الفنان محمد بن عيسى.
فحين تلَبَّس عشقُ “أصيلة” بالسي محمد بن عيسى، تماهت به الأحاسيس نحو المغامرة والحلم، لصنع المختلف والمتفرد والأفضل لمدينته، والسعي لانتشالها من قوقعة الصمت والنسيان. فمن العشق بدأت رحلة “موسم أصيلة الثقافي الدولي”، وبالتفاني سقيت مشاتلُ أصيلة الفنية، لتزهر تشكيلا، وموسيقى، وشعرا، ومسرحا، وفكرا، وإن اعترت الرحلة، في البداية، كثير من الصعوبات والإكراهات، لكن سرعان ما أفرزت كثيرا من الحبور والانتشاء والفرح، بكسبها لرهان المغامرة. وهي الرحلة التي قادها، بكل تفان ونكران ذات، الأستاذ محمد بن عيسى بمعية ساكنة أصيلة، وجميع ضيوف موسمها وزوارها، فكانوا جميعا حراسا أوفياء لـ “مدينة الفنون”، وصناع كينونتها الإنسانية والثقافية والفنية…
والمثير في هذه الرحلة الفريدة، كونها لم ترتبط عند محمد بن عيسى بموسم أصيلة الثقافي فقط، بل تجاذبتها أسفار أخرى عديدة، سياسية وثقافية وفنية ودبلوماسية وذاتية، أثمرت عديدا من التجارب، والأفكار، والخبرات، وامتدت في عدد من الجغرافيات والبلدان والقارات، فأنتجت ذاكرة مشعة وثرية، يبدو من الصعوبة اليوم لملمة خيوطها كلها، في هذه الشهادة المفتوحة على مزيد من الاغتناء والامتلاء والدروس والعبر.
فهو الفنان، والمثقف، وعمدة المدينة، والوزير، والسفير، والأمين، وكلها مهام ومناصب، مهما تسامت، تنصهر فيما بينها، لتشكل صورة إنسان، حكيم، وعاشق للفن والفكر والجمال، رجل مخلص لوطنه ولقضية بلده ولمدينته، وحارس أمين لكل قيم الحوار والتفاعل والتلاقح بين الشعوب والحضارات…
هكذا، يصعب الحديث في عجالة كهذه عن الأستاذ محمد بن عيسى، لاعتبارات عديدة ومتضافرة فيما بينها، منها تعدد صور الرجل، وتنوع حضوره في المشهد العام، وطنيا وعربيا ودوليا، وتعدد أوضاعه الاعتبارية، فضلا عن رحابة أفقه الإنساني والرمزي، ما يجعل منه شخصية مبدئيةنادرة، أمام ما يشهده عالم اليوم من اهتزاز في القيم والمعتقدات، وتبدل في المفاهيم والقناعات، وتشكيك في الهويات…
لذا، فأنا أشكر الظروف العامة التي أتاحت لي الاقتراب بشكل مباشر من الأستاذ محمد بن عيسى، ما مكنني من أن أكتشف في الرجل مدرسة عظيمة في الوطنية والأخلاق والنبل والصبر والوفاء، ودرسا عميقا في الحوار والإنصات والأناقة والسماحة والتواضع، وهو رأي قد لا يجادلني فيه أحد، فقد سبقني إلى التعبير عنه كبار رجالات الدولة والسياسة والفكر والأدب والفن وعامة الناس، من مختلف بقاع العالم…
يكفيك، على سبيل المثال، أن تمر بحي الحسين بالقاهرة، لتكتشف مدى محبة الناس للسي محمد بن عيسى، وقد تجاوزت سيرته الآفاق؛ هناك في أحد “محلات” بائعي الأقراص والأشرطة الموسيقية، حيث يحتفى ذلك الرجل المصري الطيب، “أبو حمزة”، صاحب البوتيك، بالأستاذ بن عيسى بطريقته الخاصة، عبر تعليقه لصورة بالألوان، من الحجم الكبير، تجمع بينهما، لازالت محفوظة إلى اليوم في إطار كبير، متزعمة صور الفنانين والفنانات من مختلف أنحاء المعمور، ربما شعورا من أبي حمزة بذلك الحس الفني الراقي الذي تختزنه شخصية محمد بن عيسى.
لا أخفيكم مدى الشعور الذي انتابني لحظتها، وأنا أعيد التقاط تلك الصورة المعلقة بعدسة هاتفي، سائلا صاحب البوتيك عن سر تعليقه لها، وعن سر تعلقه بالرجل، حيث يبدو أبو حمزة في تلك الصورة ملتصقا بـ “بن عيسى”، مزهوا باللحظة ومنتشيا بها، ربما خوفا من أن يقصيه زوم الكاميرا، أو أن تغفله عين المصور، فجاءت صورة طافحة بكثير من مشاعر الاعتزاز والإعجاب.
وهو الشعور نفسه الذي ينتابني اليوم، وأنا أشارك في هذا اللقاء التكريمي للأستاذ محمد بن عيسى في وطنه، وقد كرمه أصدقاؤه ومحبوه في عديد من المنتديات والجغرافيات، فكان أن استحق أهم جائزة ثقافية عربية تمنح لشخصية العام الثقافية؛ هي “جائزة الشيخ زايد للكتاب”، سنة 2008، تقديرا لدوره الرائد في تأسيس مهرجان “أصيلة” للفنون والثقافة والفكر، كمشروع ثقافي حضاري، استمر لأزيد من أربعة عقود، منذ عام 1978، وجعله ملتقى للمبدعين وللمفكرين العرب والأفارقة والغربيين، ومنارة تحولت في ضوئها قرية صغيرة وبسيطة إلى نموذج للقرية العالمية في العصر الحديث، وتثمينا لإسهاماته في إنعاش الحياة الثقافية المغربية ووصلها بالثقافة العربية والإنسانية، كما استحق “جائزة العويس للإنجاز الثقافي والعلمي”، سنة 2022، لكون مؤسسة منتدى أصيلة، تكتسي بعدا اجتماعيا وإنسانيا في أنشطتها، بمثل ما يعد موسم أصيلة الثقافي الدولي، من أهم أشكال الجذب السياحي للمدينة، في اهتمامه بجميع المجالات كالأدب والموسيقى وفنون الرسم والنحت…
فضلا عن ذلك، نال الأستاذ محمد بن عيسى شهادة دكتوراه فخرية أمريكية في القانون من جامعة مينسوتا عام 2007، تقديرا لإنجازاته في سلك الخدمة العامة، التي “شكلت إضافة مهمة إلى المعرفة وإلى تحسين المجتمع”، حيث إن كثيرا من إنجازات بن عيسى، حسب سي يوجين ألن، مسؤول الجامعة الذي ترأس لجنة الترشيح “يرتبط باهتمامه العميق بالمحافظة على تراث وثروة بلده الثقافيين والترويج لهما، وفي زيادة التفهم والتفاهم عبر الثقافات. إنه يملك ذلك النوع من الحس الثقافي الذي تتزايد ضرورة توفره لدى الزعماء العالميين…”.
من هنا، ارتأيت بدوري أن أتوقف في هذه الشهادة الصادقة عند لحظتين اثنتين فقط، استقيتهما من تجربتي المتواضعة مع موسم أصيلة الثقافي الدولي، ومن علاقتي المباشرة بمؤسسه وأمين عام منتداه، في امتدادها في الزمن والمكان، حددتهما في “لحظة واقعية” و”لحظة مرتجاة”، وإن كانتا معا تتقاطعان فيما بينهما.
أما اللحظة الواقعية، فيمكن أن أتحدث عنها من خلال تجربتي مع سي محمد بن عيسى، مساعدا له في إعداد الشق الثقافي العربي، من موسم أصيلة الثقافي الدولي، وإنجاز مجموعة من الكتب الجماعية التي أصدرتها مؤسسة منتدى أصيلةتباعا، تكريما من دورات موسمها المتعاقبة لبعض رموز الأدب والثقافة في المغرب وخارجه، واحتفاء بضيوف شرف دورة الموسم، من بلدان عربية، أذكر من بينها، كتبا عن: الأدب الكويتي الحديث، والأدب الإماراتي الحديث، وعبد الكريم غلاب، ومحمد العربي المساري، وحنا مينة، وسحر خليفة..، فيما يبقى أهم كتاب أعتز بإنجازه لفائدة موسم أصيلة، هو ذاك الذي يندرج في صنف “الكتب الجميلة”، بعنوان بـ “كتاب أصيلة”، صدر في صيف 2008، كتاب سأظل معتزا بإعداده، وممتنا للأستاذ بن عيسى على كل ما قدمه لي من دعم وتحفيز، إبان فترة إنجازي له، بحيث مكنتني هذه التجربة من أن أكتشف في أصيلة مدينة كونية حقيقية، وأكتشف في عرابها أفقا إنسانيا كونيا رحبا.
فطبيعة شخصية الأستاذ محمد بن عيسى السمحة والمنفتحة، لن تحفزك سوى على الانخراط في مثل هذه المبادرات الجميلة، بكل رغبة وتلقائية وحماس. ولا أخفيكم مدى شعوري بالاعتزاز والارتياح وأنا منكب على إعداد “كتاب أصيلة”، بحيث لم يحصل أن تدخل السي بن عيسى في توجيه محاور الكتاب أوفي تحديد طبيعة مادته، كما لم يحدث أن أعاق حريتي في التدوين والكتابة واختيار الصور وترتيبها، بل إن عنوان الكتاب نفسه “كتاب أصيلة”، كان من اقتراحي…
هكذا، إذن، مكنتني هذه اللحظة، التي سأظل معتزا بها، من الاقتراب أكثر من فهم شخصية محمد بن عيسى، بمثل ما مكنتني من الاستئناس بمجالسه وأحاديثه وحكاياته ورؤيته للأشياء، والاستمتاع بها كلها، ومنذ تلك اللحظة، لم يحصل أن فوتت أية فرصة تتاح لي لحضور مجلسه الممتع الذي أعتبره، هو أيضا، درسا آخر مفتوحا في معنى التواضع، وفي تعلم الإنصات والاقتراب أكثر من تجاربه الشخصية، في تنوعها واختلافها وتأثيرها، وهو المجلس الذي ساهم في انفتاح وعيي ومداركي، وفي شحن أفقي الجمالي وانفتاحه على عوالم جديدة ومبتكرة، بما وفرته لي مناسبات مجالسه الجميلة من فرص كبيرة للاحتكاك أكثر بمثقف كبير، وفنان مبدع، وصاحب نكتة من الطراز الرفيع، بمثل ما مكنتني من التعرف على بعض رجالات الدولة وكبار المفكرين والأدباء والفنانين والاحتكاك بهم وبعطائهم وأفكارهم، وكل هذاالزخم من الكرم وفيض المحبة، وغيره كثير، هو ما حفزني على أن أركب التحدي مع “كتاب أصيلة” وأكسب الرهان…
بدأت فقرات “كتاب أصيلة” وفصوله تتشكل وتكتمل أمامي، إلى أن استوت بالشكل الفاخر الذي صدر به الكتاب. ولا أخفيكم الإحساس الذي انتابني لحظتها، أنا القادم من “أزيلال” لأكتب عن “زَيلا”، كما ينطقها أهل الشمال، مساهما في تدوين محطات مضيئة من ذاكرة موسم مدينة الفنون والثقافة، على مدى ثلاثين سنة وقتئذ، من الحضور والعطاء والإشعاع الثقافي والأنشطة الفنية والفكرية والأدبية لموسم أصيلة الثقافي الدولي، في دوراته الثلاثين السابقة، وفي أبعادها المحلية والعربية والإفريقية والأوربية والدولية عموما… وقد زادت سعادتي، حينما كنت أشاهد الأستاذ بن عيسى، في إطار دورات الموسم، يوزع نسخا من “كتاب أصيلة”، على كبار ضيوف الموسم، من مختلف أرجاء المعمور، هدية لهم من أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، فراقني أن هذا الكتاب الذي يحمل اسمي على غلافه، سوف يعبر إلى جغرافيات أخرى، وسيستقر، آمنا مطمئنا، على رفوف مكتبات شخصية راقية…
أما اللحظة المرتجاة، فتكمن في تلك الرغبة المؤجلة في الكتابة عن مسار شخصية محمد بن عيسى الفذة، في رحلتها الاستثنائية الطويلة في الأمكنة والأزمنة والأحداث الوطنية والعالمية. فإذا كان أصدقاء محمد بن عيسى، وأنا أحدهم، مازلنا نلح عليه أن يكتب سيرته الذاتية، اعتبارا لأهميتها ولقيمتها وخصوصيتها، ولزخمها وتنوعها، وفي انتظار أن يتحقق هذا المطلب المنشود في يوم ما، فبإمكاننا نحن، من موقعنا كمتلقين مباشرين، أن نعمل على لملمة عناصر من هذه السيرة العطرة والمتشظية، في كونها، وبكل بساطة، هي سيرة وطن، وسيرة جيل، وسيرة تجربة حياة، وسيرة مواقف ووفاء، وسيرة رجل ومدينة، ملآى بالمغامرات، وطافحة بالعطاء والكفاح والعبر، لها بدايات عديدة، كما أن لها مداخل وتجليات متنوعة.
صحيح أن التاريخ يهتم غالبا بالناس الذين صنعوه، في أبعاده العسكرية والسياسية خاصة، إلا أن من يتتبع سيرة هذا الرجل، سيجد أن مساره الخاص والعام لا يخلو، هو أيضا، من طابع ملحمي، بما لعبه الرجل من أدوار ريادية وطلائعية في التاريخ السياسي والثقافي والدبلوماسي لبلده؛ مسار ربما خُطت أولى ملامحه، في ذلك اليوم الذي فطن فيه ذلك “الطفل محمد”، الذي كانه بن عيسى، إلى قدوم “يوسف وهبي وأمينة رزق” إلى مدينة طنجة، فتوجه إلى محطة القطار بأصيلة، ليظفر برؤية هذين الفنانين العظيمين، عبورا إلى طنجة، فحصل فجأة أن امتطى القطار بعد أن تلقى إشارة غير مفهومة من هذين الفنانين، فرافقهما إلى طنجة، وحظي بترحيبهما وبتتبع إحدى مسرحياتهما على مسرح سيرفانتس. هي، إذن، روح ذلك الفنان التي سكنت “محمدا” منذ الطفولة، فحتى طاقية رأسه، وهو طفل، كانت مزوقة ومختلفة عن طاقيات أقرانه من الأطفال.
هكذا، إذن، اقتفى ذلك الشاب طريق الرحالة الكبار، فغادر طنجة مثل جده ابن بطوطة، في اتجاه العالم. ولما عاد من رحلته، وبدل أن يعكف على تدوينها كما فعل ابن بطوطة، راح يخطط، بدل ذلك، لمستقبلها. من ثم، فالسير الناجحة عموما، هي تلك التي تبحث عن لحظات الانتصار والهزيمة لدى الأشخاص والشعوب، عن الأشياء المغيبة والخفية، بمثل البحث عن ظلال شخصية محمد بن عيسى التي لم يشاهدها الناس إلا وهي مبتسمة وناجحة. كما أتصورها سيرة عبارة عن محكيات نادرة، تستوحي عوالم الفن والجمال، وتحكي عن قدر مدينة ورجل. فالمدن الملحمية هي تلك التي يقدر لها أن تعيش من خلال أبنائها، هؤلاء الذين يرسمون لها قدرها ومستقبلها…
ستحكي السيرة، أيضا، عن مغامرات طافحة بالمتعة والتشويق والجاذبية، جذورها في أفريقيا، في أصيلة والعرائش وفاس وتطوان وطنجة والقاهرة والرباط، وفي غيرها من مدن جنوب الصحراء، وأغصانها تمتد إلى أمريكا وأروبا… كبرت الشجرة وأثمرت، فاستجاب الرجل لنداء حضن الطفولة، بعد مرور ما يقرب من عقدين من الزمن، قضاهما بن عيسى في اكتشاف العالم، وإدراك ألغازه ونجاحاته وإخفاقاته، بمثل ما استجاب لوفاء مشتهى، ظل يراوده بعد أن عاد من جولته العالمية، ورأى فيما يرى النائم حالة تلك البلدة الصغيرة المهجورة، في سبعينيات القرن الماضي، ملآنة بالقمامة والأوساخ، تعيش في ظلام، وتشكو العطش والبؤس. عاد “الشريف”، كما ينادونه في أصيلة، إلى بلدته، ليكتشف أن الحلم أكبر من الرغبة، وليصطدم بإكراهات السلطة ـ وبمضايقة بعض الأحزاب والصحف الصفراء وتجار الإسمنت الرخيص، وبمن يريد حجب شمس بحر أصيلة بالغربال، بمثل ما اصطدم بانعدام الإمكانيات، ليعلنها قولة شهيرة ومؤثرة: “أرض الذل تهجر”.
لكن بن عيسى لم يستسلم؛ إذ سرعان ما سيتجدد نداء الوفاء والضمير، لتبدأ مغامرة البناء، والإعلان عن شعار أصيلة الرائد: “الفن والثقافة من أجل التنمية”. كبر الحلم، وازدادت الرغائب، واتسعت الفكرة، ونهضت العنقاء من رمادها، فأضيئت البلدة وارتوت، وتلونت الجدران، وكبرت المدينة، وتعمق الإحساس لدى الناس فيها بأهمية الفن وقيمة الحياة.
ستشكل هذه اللحظة المنشودة مناسبة، أيضا، لاستعادة أجواء مغرب السبعينيات، وكيف تغلب البعد الثقافي في أصيلة على الاحتقان السياسي في البلد، فتمكنت أصيلة من تحرير سؤال الفن والثقافة، فجعلته سؤالا جريئا، حرا ومفتوحا على الوطن، وعلى العالم من حوله…
ستظل أصيلة فضاء مركزيا في تلك السيرة، في أصولها وذاكرتها وتطورها وانفتاحها، وفي فلسفتها للحياة، بما تمنحه المدينة لساكنتها وزوارها من قيم جميلة، وإحساس منعش بالمكان، في انفتاحها على فضاءات أخرى خارجية، شكلت بعض المدن المترسخة في ذاكرة محمد بن عيسى ووجدانه بؤرتها، وكلها فضاءات لعبت دورا أساسيا في تكون شخصية السيرة المحورية، وفي رسم مستقبلها، في القاهرة وفي مينسوتا تحديدا، وفي غيرها من الفضاءات والمدن والجغرافيات التي تلملم محطات مختلفة من سيرة هذا الرجل، في جاذبيتها السردية والنوستالجية والصوفية والوجدانية، وفي سفرها نحو اكتشاف الذات والبحث والتحصيل والصحافة والفن والوزارة والدبلوماسية والسياسة والثقافة…
أما باقي شخصيات هذه السيرة المفترضة، فكثيرة، وستتزاحم حتما داخل فضائها السردي، في انحدارها من أصول وهويات عديدة، ومن فئات اجتماعية مختلفة، وأيضا في انتمائها إلى مجالات سياسية وفنية وثقافية متنوعة، بعمقها الإنساني والروحي، وبمواقفها ومنظوراتها المختلفة، وحتما ستتبدى، بينها، السيدة “ليلى”، بكامل شموخها وكرمها ورقيها.
في حين ستمتد أزمنة السيرة بعيدا إلى الطفولة، هناك في أزقة أصيلة، وفي كُتابها، وفي مدرستها الابتدائية الإسبانية- المغربية، وفي العرائش وتطوان وفاس، قبل أن يكبر العالم في عيني ذلك الطفل الذي كانه محمد بن عيسى، ليرحل إلى القاهرة… ولازالت تلك الجريدة المصرية تحفظ اسم ذاك الشاب محمد، الذي نال شهادة الباكلوريا برتبة مشرفة من إحدى ثانويات القاهرة، ستأسر القاهرة خياله وتقوي طموحه، وستفتح له أذرعها، لتحتضنه صديقا لها ولفنانيها وأدبائها ومثقفيها، هو الذي تمكن في فترة وجيزة قضاها بالقاهرة، بتلقائيته ووسامته، من أن ينسج علاقات إنسانية وعاطفية، أوصلته إلى اختراق بيت الموسيقار الراحل فريد الأطرش، ليجد نفسه في لحظة اندهاش أمام عشرات الأحذية المركونة في بيت نوم ذلك الموسيقار الكبير…
وتشكل محطة “مينسوتا”، بؤرة متحولة ومؤثرة في حياة الشاب محمد، وفي مسار رحلته الدراسية، هناك حيث تفتق ذهنه على مشاهد جديدة، وعلى طرائق أخرى للتكوين في مدرسة الحياة، وعلى نظام قيم جديد، مرورا بأزمنة تاريخية واجتماعية وسياسية ونفسية، عاشها السي محمد في وطنه، فكان مساهما ومنخرطا فيها، وشاهدا على تكونها وصيرورتها.
فشكرا جزيلا لك الصديق الأستاذ محمد بن عيسى، لأنك ما فتئت تعلمنا معنى الحياة، وتحرضنا باستمرار على صداقة الفن والجمال…
بقلم: د. عبد الرحيم العلام