أقبل أيلول وأنا ما زلت أستمطر غيمة سمراء..
مازلت أبحَث عنك رغم أن البحثَ عمَلية مُضنية ومؤرِّقة تَدعو للشفَقة، وأعانق ساق سروتنا الهرمة وأبكي وأدعو اليمامة الكفيفة لتشاركني الحنين لذاك الواد ..
مازلتُ أبحث عنك بين أيامي الرَتيبة، بين خطواتِ الزمنِ السريعة.
أقبلَ أيلول وليته جلب معه عمري العتيق.. وليالي ذاك الصيف.. وصوت موسيقى الحي اليتيم ..
سأحتَسي قهوَتي ببطء كالثواني الراقِصةِ على حافة الزمَن، كالرَذاذِ وهو يتَوالى في الانهِمار، كالموسيقى الكلاسيكية وهي تَشُقُّ بَطنَ الصَمتِ بهدوء….
ها أنا أنبت من جديدٍ كزهرة عَنيدةٍ تَلطم الصخورَ بأوراقِها الناعِمة. أعاند القدَرَ كسِيجارةٍ تأبى أن تَنطَفِئ.
أفتح ذِراعَي للدنيا كشجَرةٍ تَستَقبِل أولَ أيامِ الرَبيع. ها أنذا أنتَفِض كطَيرٍ متَمَرد على قطَرات المطر، وأسمَح لمخَيلَتي بالتَدَفّقِ على كل أوراقِ هذا العالمِ الصغير…
أقبل أيلول وأنا مازلت أبحث عنك في ثَنايا روايةٍ جميلة، أو في رَشفةِ قهوةٍ لاذِعة. مازلت أسعى لالتِماسِ طَيفِكَ كالمجنونة، لكنني لا أجد سوى الصمتِ الطويلِ….
لأنك رجل بسيط بطريقة معقدة، تجيد دائما خلط مشاعري، تسير على حافة الأشياء التي تلفتني وتقدر الأوقات السيئة التي تمر باهتة من دربي، عليك أن تدرك أن قلبي لا ينبت الحب إلا على أرضك، مجرد شعور لكنه حياة ..
متوجسة لحظات الانطفاء والحيرة والمسافات الراكدة الطويلة، أسهو في تعب وأركض داخل مراتع التيه وأطفو على حواف مجاز فتلفظني سحابة بعيدة، متأهبة دائما لاستقبال أشياء جديدة، متشبتة بهذا القدر من اليقين بأن الحياة غير عادلة وأن الالتفات هكذا فجأة يكسر شيئا بداخلك، شيئا ليس من السهل إعادة ترميمه .
راوغتَ أمسيات الصيف لأني امرأة ذات طراز عتيق تحن إلى رائحة الماضي وتعود دائما حيث تتوحد روحها وتتقد مع القطع التي تشبهها. فكنتَ أنت قطعتي الفريدة في كل توليفة شاردة.. فمرحبا من وراء أجنحة الشمس، مرحبا في عالم لا يشبهني لكنني متورطة فيه، مرحبا في حياة تتسع للحب واللهو، حياة تقطف النجوم من سماء بعيدة.. مرحباً في ذاكرة لحن شارد وقلب عائد من مدن الحب، في بيت شعر يكسر رتابة قصيدة وفي غياهب تشيع الأوهام أحلاما أكيدة.. في دنيا تمنحنا فرصة المحاولة لأكثر من مرة داخل عواصم لا تتسع إلا لليل والأعين المفتوحة .
لم يكن وصولي إليك سهلا أبدا، لكن استمراري في البحث عنك قذفني إلى لحظة ميلاد جديدة .
أحمل أمنيات عالقة في جب الأمس وأوقظ أحلاما نامت طويلاً.. وأسألني…
كيفَ تختَبِئ الرسائل في رفوف الكِفاية عن ساعي البريد؟
كيفَ يهتَز الشوق من صوت الخوف ويتخبطه السكوت؟
كيفَ تُهدَم أحلام العاشقين أمام العادات والتقاليد؟
كيف يكون الحب أمنية في فم حلم يبسهُ الزمن؟
كيف ترهَق الأحلام باسم البحث عن الحياة؟
وكيفَ هانَ الأمل الذي يراق من الزمن؟..
أيعقل أن يكونَ هذا العالم أضيقَ من أحلامنا الواسِعة؟
يؤرِقني هاجِس عدمِ تحقق الأحلام، وأن تبقى مُجردَ أطياف قَميئة تَسبح في حَنايا الذاكِرة. نحن بطَبيعةِ الحال نقَدم أحلامنا كقرابين للواقِع المتَغَطرس، ونَنتَظر بكل ما أوتينا من صَبر. وليس أمامَنا سوى الانتظار.
فمرحبا بنا في اللحظات الأكثر قسوة حين تشعر أنك بحاجة لأحدهم فتجد نفسك محاصرا بين أروقة الوحشة والأسئلة الغريبة، حين يكون التقدم مجهدا والتّأني كفيفاً والرجوع مستحيلاً.
اربد أن أصطلي نشوة قلبي في رسائل تسافر إليك وتمضي حاملة صوتي، تعبي، مداركي وكل صكوك مشاعري، رغبتي، قوتي في اكتشاف مكامن روحك العميقة..
من بعيد كل شيء يبدو على ما يرام حتى رسائل الحب بيننا تبدو هادئة رغم أننا نعلم أنها تحتل مشاعر عظيمة، ما بيننا قطع ثلج ونار، إغراء وفتن وغيرة وذكريات كثيرة،
مابيننا شروق و غروب ونوبات شوق أنهكها العناد و المسافات البعيدة .
حين شاهدتك تطل على شرفة المغيب وتتكىء على جدار الليل وتسهب في ذكرياتنا الغريقة , وقتها لم تفهم نبرة صوتي حين أخبرتك أني بخير في حين كنت أزاحم وحدتي و أواسي تعبي ، كنت دائما في الجوار أراقب قلبك وهو يطرق الأبواب البعيدة ..
جبت فصولاً وبلدانا وشرودا فاخرا دفعني إلى ارتكاب حماقات كثيرة .
كل الأشياء في حياتي تبدأ وتنتهي.. مهما طالَ زمنها ستمضي دونَ رجعة.. ولا يبقى منها سوى ذكرياتي معك، وحدها ترسخ في الذاكرة للأبد.
بينما أنت هناك تركض في طريق طويل هاربا من كل شيء، لازلت هنا أكتبك في نصوص مألوفة، وكل المنافي دونك لا تبدد وحشتي. لتوصلُنا إلى زمن لن يعود.. حيث كل من كان معنا رحل.. وبقينا نحن نشاهد ذكرياتنا معا في شريط الزمن الذي يعاد أمامنا..
هنا كنا نلتقي.. هنا ضحكنا من قلوبنا ونحن نستعد لالتقاط صور معا..
هنا كانت لحظاتنا التي اغتالتها يد الزمن.. وأخذتها بعيداً إلى اللاشيء.. إلى رفوف صحرائك البعيدة.
بقلم: هند بومديان