بتاريخ 20 مارس 2024 ، أصدرت المحكمة الابتدائية ببني ملال حكمها في قضيّة تتعلّق بالتحريض على التمييز والكراهية، وذلك بعد متابعة مستشار جماعي على خلفية تصريحات أدلى بها في جلسة عمومية لمجلس البلدية اتّهم فيها الباعة المتجولين المنحدرين من أقاليم مجاورة بإثارة الفوضى داخل المدينة.
وتكمن أهمية هذا الحكم الذي تنشره “المفكرة القانونية” في أنه يعتبر من بين التطبيقات القضائية النادرة لقضايا التحريض على التمييز والكراهية في القانون المغربي، كما أن المحكمة وأمام سكوت النص القانوني لجأت إلى تكوين قناعتها وبناء حيثيات حكمها إلى تطبيق “اختبار تفادي تقييد حرية التعبير” المستمد من المعايير الدولية ولا سيما اجتهادات المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان.
كما أن الحكم من جهة ثانية يكرس دور المنظمات غير الحكومية في التقاضي رغم التضييقات التي باتت تتعرض لها في الآونة الأخيرة بسبب فرض بعض القيود الإجرائية من قبيل التوفر على شرط المنفعة العامة أو ضرورة الحصول على الوصل النهائي.
ملخص القضية
تعود فصول القضية الى تاريخ 10 أكتوبر 2023 حينما تقدم رئيس جمعيّة بشكاية أمام النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية ببني ملال يعرض فيها بأن الجمعية اطّلعت على تصريحات مستشار جماعي خلال الجمع العام المنعقد في مقرّ البلدية تدعو الى التمييز والعنصرية والكراهية تجاه الباعة المتجوّلين والقادمين من أقاليم أخرى، حيث يتّهمهم بنشر الفوضى داخل المدينة. وأضافت الشكاية أنّ العبارات التي استعملها المُشتكى به سبّبت للحقوقيين ضررا معنويا، وأن هذا السلوك الذي أتاه يعتبر ميزة عنصرية في حقّ الإنسانية وضربا في المواثيق الدوليّة التي صادق عليها المغرب، ومسّا بحرية التنقّل والتجوال اللتين يضمنهما الدستور . وعليه، التمست الجمعيّة فتح بحث قضائيّ في مضمون هذه التصريحات الموثّقة في شريطٍ صوتيّ تمّ الإدلاء به.
وعند الاستماع الى المشتكى به، أفاد أنه بصفته عضوا مستشارا بالمجلس الجماعي ببني ملال وخلال دورة أكتوبر التي انعقدت، تناول الكلمة وأدلى بعرض في إطار الدفاع عن مصالح المدينة وساكنتها. وتطرّق إلى وجوب التدخّل لتنظيم ظاهرة الباعة المتجوّلين لأن بعض الشوارع في هذه المدينة أصبحت مكتظّة بهم إذ يستعملون عربات مدفوعة أو مجرورة على جانبي الطريق متسبّبين بذلك في عرقله حركة السير، مضيفا أن خطابه ذلك كان موجّها لرئيس البلدية والأعضاء الحاضرين وممثل السلطة المحلية، وأن إشارته إلى تفشّي ظاهرة الباعة المتجوّلين الذين يقدمون من المدن المجاورة كقلعة السراغنة والرحامنة الذي أكد أنه قد تلفظ بهما كانت على سبيل المثال وليس الحصر، وأن نيته لم تكن تتّجه إلى الإساءة إلى المدينتين المذكورتين أو لساكنتهما أوالتنقيص منهما، كما إن خطابه لا يدعو إلى الكراهية ولا العنصرية ولا الميز العنصري، كما جاء على لسان المشتكي في تصريحاته وشكايته، وإنما كانت تصريحاته مؤسسة على معرفته العميقة بساكنة المدينة ونسيجها المتنوّع باعتباره رجل سياسة وله دراية بالموضوع، وهدفه هو التصدّي للظاهرة التي تشكّل عرقلة للسير ممّا يستوجب وضع حلّ لها.
انعدام عناصر جنحة التحريض على التمييز طبقا للقانون ولاتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز
اعتبرت المحكمة أن الأركان التكوينية لجنحة التحريض على التمييز غير قائمة لأن:
-التمييز بحسب المادة الأولى من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري التي صادق عليها المغرب هو “استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الاثني ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحريات الأساسية أو التمتع بها أو ممارستها، على قدم المساواة، في الميدان السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو في أي ميدان آخر من ميادين الحياة العامة”.
-المشرع المغربي وإعمالا للاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، حصر صور هذه الجريمة في أفعال الامتناع عن تقديم منفعة أو عن أداء خدمة، أو عرقلة الممارسة العادية لأي نشاط اقتصادي، أو رفض تشغيل شخص أو معاقبته أو فصله من العمل، أو ربط تقديم منفعة أو أداء خدمة أو عرض عمل بشرط مبني على أحد العناصر الواردة في الفصل 1-431 أعلاه؛
-يتبين بتمحيص المحكمة لتصريحات المتهم بالدورة العلنية لجلسة البلدية، عدم اقترانها بفعل عرقلة نشاط اقتصادي، لكون الباعة المتجولون موضوع مداخلته، يزاولون نشاطا غير مهيكل، كما أن تصريحاته، لم تهدف إلى رفض تشغيل شخص معين أو معاقبته أو فصله عن عمله ما دام الأمر يقتضي أولا أن ينصب الفعل على عمل مشروع، ثم لم تنصرف إلى امتناعه عن تقديم منفعة أو أداء خدمة.
انعدام عناصر التحريض على الكراهية طبقا لاختبارحرية التعبير وفقا للمعايير الدولية
أمام غياب تعريف لجريمة التحريض على الكراهية في القانون المغربي وكذا في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي اكتفى في مادته 20 بالنص على أنه “تحظر بالقانون أي دعوة الى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف”، لجأت المحكمة الى المعايير الواردة في وثائق أخرى، والتي تعرف عبارة الكراهية والعداء بأنها تلك “المشاعر الحادّة وغير المنطقية التي تعبر عن التحقير والازدراء والعداوة تجاه المجموعة المستهدفة”، كما تعرف عبارة “الدعوة” بأنها تفيد “نية تشجيع الكراهية علناً تجاه المجموعة المستهدفة”، بينما تعرف مصطلح “التحريض” بأنه “خطاب يتعلّق بجماعات قوميّة أو عرقيّة أو دينيّة يجلب خطراً وشيكاً بحدوث تمييز أو عداء أو عنف ضد أشخاص ينتمون إلى هذه الجماعات”.
في نفس السياق، لجأت المحكمة إلى تطبيق اختبار تعتمده المجكمة الأوروبية لحقوق الإنسان،لتفادي تقييد حرية التعبير، والتي حددت ستة عناصر يتعين استيفاء كل عنصر منها حتى يصل خطاب ما إلى مستوى جريمة جنائية، و هي كالآتي:
-1السياق: وهو أمر بالغ الأهمية عند تقدير ما إذا كانت تعبيرات معينة يمكن أن تحرّض على التمييز أو العداوة أو العنف ضد المجموعة المستهدفة، أو يمكن أن يكون لها تأثير مباشر على النيّة و / أو العلاقة السببية على حد سواء. وينبغي في تحليل السياق، وضع فعل الخطاب في السياق الاجتماعي والسياسي السائد عند صدور الكلام ونشره.
2-المتحدث: ينبغي دراسة وضع المتحدث أو حالته في المجتمع، وعلى وجه الخصوص مركزه الفردي أو مركز منظمته في بيئة الجمهور الذي يوجّه إليه الخطاب.
3- النية: تفترض المادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وجود النية. فالإهمال والتهوّر ليسا كافييْن لتشكيل موقف تنطبق عليه المادة 20 التي تتطلب “الدعوة” و “التحريض” لا مجرد الانتشار أو التداول. وفي هذا الصدد، يفترض تفعيل العلاقة ثلاثية الزوايا بين غرض الخطاب وموضوعه بالإضافة إلى جمهور السامعين عند معالجة الحالة.
4-المحتوى أو الشكل: يشكل محتوى الكلام إحدى النقاط الأساسية التي تركز عليها مداولات المحكمة، وهو عنصر هام في التحريض. وقد يتضمن تحليل المحتوى مدى كون الخطاب استفزازياً ومباشراً، بالإضافة إلى التركيز على الشكل والأسلوب وطبيعة الحجج المستخدمة في الكلام موضوع البحث أو في الموازنة ما بين تلك الحجج، إلخ.
5- مدى الخطاب: ويتضمن ذلك عناصر مثل تأثير الخطاب، وطبيعته العامة، وكبر جمهوره وحجمه. ومن العناصر الأخرى: ما إذا كان الخطاب علنياً، وماهية وسائل النشر، والنظر في ما إذا كان الخطاب قد نشر بواسطة منشور وحيد أم عن طريق وسائل الاعلام السائدة أو الإنترنت، وما درجة تواتر الاتصالات وحجمها ومداها، وما إذا كان لدى الجمهور أي وسيلة للتصدي للتحريض، وما إذا كان البيان أو العمل الفني قد عمّم في بيئة محصورة أم مفتوحة على نطاق واسع العامة الناس؛
6-الأرجحية: التحريض هو بالتحديد جريمة غير تامة وليس من الضروري ارتكاب الفعل الذي دعا إليه خطاب التحريض حتى يعتبر ذلك الخطاب جريمة، لكن يجب، مع ذلك، تحديد درجة ما من مخاطر الضرر الناجم عنه. وهذا يعني أن على المحاكم أن تقرر أنه كان ثمة احتمال معقول بأن ينجح الخطاب في التحريض على عمل فعلي ضد المجموعة المستهدفة، مع إقرار بأن تلك الصلة السببية ينبغي أن تكون بالأحرى مباشرة.
و قد خلصت المحكمة، باستحضارها لوقائع القضية، ثم بسطها على جدول المعايير المشار اليه أعلاه، و أن العبارات الصادرة عن المتهم وجب أن تؤخذ في سياقها و بالتالي استخلاص أنها لم تشكل حثّا على الكراهية و تحريضا عليها، خاصة أنها صدرت عنه باعتباره عضوا جماعيا خلال دورة المجلس الجماعي للمدينة بني ملال و ناقش خلالها ظاهرة استفحال الباعة المتجولين. كما لم يتمّ نشر مضمونها من طرفه ولم يتمّ تعميمها على نطاق واسع لعامّة الناس، بل تم تسجيلها من طرف الغير واعتمادها لتقديم الشكاية، و أخيرًا، لم يكن هناك أيّ احتمال في نجاح الخطاب في التحريض ضدّ الباعة المتجوّلين ما دام لم يحرّض على الاعتداء عليهم. وبذلك تكون الأركان التكوينيّة لجنحة التحريض على الكراهية غير قائمة الأركان بمفهوم فصل المتابعة أعلاه، الأمر الذي يستوجب التصريح ببراءته منها مع تحميل الخزينة العامة الصائر.