يعيش المشهد السياسي والحزبي في بلادنا اليوم واقعا مأزوما يثير العديد من التساؤلات حول مستقبل الممارسة السياسية وجدواها في تحقيق غاياتها النبيلة. فقد أصبحت الساحة السياسية فضاء يعكس في كثير من الأحيان صراعات المصالح الضيقة، وانزلاقات خطيرة تهدد بطمس القيم التي كان يفترض أن تكون الحافز الأول للعمل السياسي. هذا الواقع، الذي يطغى عليه الضجيج أكثر من الإنجاز، يطرح إشكالات عميقة حول طبيعة الفاعلين السياسيين وأدوارهم، وعما إذا كانت النخب الحالية قادرة فعلا على النهوض بمسؤولياتها في سياق أصبح مليئا بالتحديات والأزمات.
المشهد الحزبي المغربي: صراع المصالح أم غياب الرؤية؟
إن المشهد الحزبي والسياسي اليوم، في مآلاته المترنحة بين الطموح المنشود والواقع المرتبك، لا يحيل فقط إلى أزمة ممارسة سياسية عابرة، بل إلى حالة انكشاف بنيوي تسائل عمق التعاقد الاجتماعي نفسه، ومآلات المشروع الديمقراطي في ظل التباس الأدوار وضبابية المعايير. فالانفلاتات التي تعتري الفعل السياسي ليست مجرد أعراض لضعف عارض، بل هي انعكاسات لمنظومة متهالكة تغذت على هشاشة التكوين الفكري للنخب، وعقم المؤسسات الوسيطة التي باتت تدور في حلقة مفرغة من التكرار البليد.
أضحت الساحة السياسية أشبه بحقل ملغم بالتحالفات الظرفية التي لا يحكمها سوى منطق المنافع اللحظية، في غياب أي رؤى استراتيجية متماسكة قادرة على استيعاب التحولات الاجتماعية الكبرى أو الإسهام في إعادة إنتاج نسق سياسي يحترم جوهر التعددية وقيم الشفافية. فقد أصبحنا اليوم أمام ممارسات تهدم لا فقط شرعية المؤسسات التمثيلية، بل تقوض بشكل أعمق ثقة المواطن في السياسة كأفق تغيير جماعي، لتترك مكانها لتغول الفردانية والمقاربات الانتهازية.
حين تغيب الكفاءة: هل انتهت وظيفة النخب السياسية؟
إذا كان ضعف النخب يمثل أحد أبرز مظاهر هذا الانحدار، فإن هذا الضعف ليس وليد المصادفة، بل نتيجة تراكمات تاريخية لنهج إقصائي هيمن على عقلية العمل الحزبي لعقود. فالأحزاب التي كان يفترض أن تكون مشاتل لإنتاج كفاءات تحمل هم الوطن، تحولت بفعل التهافت الداخلي إلى مجرد منصات لتدوير نفس الوجوه المتهالكة، فاقدة للقدرة على الخلق والإبداع، وعاجزة عن مواكبة التحولات المجتمعية أو استيعاب التحديات البنيوية التي يفرضها العصر. فضعف التكوين النظري، وضيق أفق التصور السياسي، وتراجع القيم الفكرية لدى جزء واسع من الفاعلين، جعل من الحقل السياسي فضاء تتنازعه الشعبوية الفجة والخطابات الباهتة التي لا تحمل أي مضامين قادرة على إقناع المواطن أو التأثير فيه.
إن ما يعمق هذه الأزمة هو غياب تصور وطني واضح لكيفية تجاوز هذا التصدع. فقد أصبحت العملية الانتخابية، بدل أن تكون أداة لإعادة ترتيب الأولويات الوطنية وفق الإرادة الشعبية، مسرحا يعيد إنتاج ذات الفجوات. الناخب الذي يقارب الفعل السياسي بمنطق البراغماتية المبتذلة، والسياسي الذي يختزل العملية برمتها في استعراض حسابي يفتقر لأي أبعاد قيمية، ويساهمان بذلك معا في إنتاج معادلة تُقصي الفاعلية وتكرس السطحية.
إن الإشكال الأعمق لا يكمن في التجاوزات المرصودة أو الانفلاتات الواضحة، بل في البنية الذهنية التي تقبل بها وتعيد إنتاجها دون مراجعة أو تفكيك. كيف يمكن لعملية سياسية، تُدار في جزء كبير منها بعقلية ريعية وزبونية، أن تؤسس لدولة مؤسسات قادرة على الصمود أمام أزمات متلاحقة؟ وأي أفق يمكن أن يُرسم إذا كانت الأحزاب، التي تعد جوهر الديمقراطية التمثيلية، غير قادرة على اجتراح أي دينامية ذاتية لتصحيح مسارها؟
هل يمكن أن تنبعث السياسة المغربية من رماد الأزمة؟
إن إصلاح هذا الواقع لا يمكن أن يقتصر على إصلاحات تقنية، بقدر ما يحتاج إلى ثورة مفاهيمية في التعامل مع العمل السياسي برمته. فنحن بحاجة إلى إعادة هيكلة جذرية للممارسة الحزبية، تجعل من الأحزاب مدارس للقيم الفكرية والالتزام الوطني، بدل أن تبقى حاضنات للعصبيات والمصالح الفردية. نحن بحاجة إلى منظومة قانونية تعيد ضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع السياسي، وتفرض معايير صارمة للكفاءة والنزاهة، تمنع تسلل الانتهازيين وتغلق أبواب العبث بالعملية الديمقراطية. لكن هذا التغيير لن يتأتى دون وعي جمعي جديد، وقيادات تمتلك من الجرأة ما يكفي لكسر حلقات الجمود، وإطلاق مبادرات تقطع مع الماضي وتؤسس لمسار أكثر نضجا وفاعلية. فالسياسة ليست مهنة سهلة أو وظيفة مؤقتة، بل هي فن إدارة الممكن لتحقيق المستحيل، وهو فن لا يتقنه سوى أولئك الذين يحملون رؤى متجاوزة لذواتهم وأدوارهم، ويعملون لصالح الأجيال القادمة لا لصالح أنفسهم فقط. فبناء الديمقراطية ليس ترفا ولا شعارا، بل خيار وجودي يقتضي عمقا فكريا، وشجاعة سياسية، وحرصا أخلاقيا يتجاوز حدود اللحظة.
منظومة سياسية متآكلة: هل ما زال بالإمكان إعادة البناء؟
إن إسقاط كل هذا على الواقع السياسي والحزبي بالمغرب يكشف عن أزمة مركبة لا تقتصر على الممارسة السياسية الظاهرة، بل تمتد إلى الأعماق البنيوية التي تنتجها وتعيد تدويرها في حلقة مغلقة من التكرار العقيم. فمن أبرز مظاهر هذا الانحدار نجد التراجع في الخطاب السياسي، الذي بات غارقا في الشعارات الفضفاضة التي لا تخاطب عمق الإشكالات الحقيقية، بل تعزز منطق الاستقطاب العاطفي. فالحوارات والخطابات السياسية، سواء في البرلمان أو الإعلام، غالبا ما تنزلق نحو تراشق لغوي عقيم يعكس أزمة رؤية وقصورا في القدرة على النقاش الجاد حول الأولويات الوطنية. مع ذلك، لا يمكننا اختزال الأزمة في الأحزاب والمؤسسات السياسية فقط، إذ أن المجتمع نفسه يعاني من ضعف في الوعي السياسي، وهو ما يجعل الاختيارات الانتخابية رهينة لحسابات تقليدية مثل الانتماء القبلي أو المصلحي. وهي عوامل تسهم في إدامة حالة الركود السياسي، وتعيق أي محاولات جادة لإعادة هيكلة الحقل الحزبي.
لعل الإشكالية الكبرى التي تواجه المغرب اليوم هي كيفية تحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على الاستقرار السياسي وبين بناء نموذج ديمقراطي حقيقي. ولا يمكن لهذا التوازن أن يتحقق دون مراجعة شاملة وشجاعة للنموذج السياسي القائم، تبدأ بإصلاحات عميقة في الإطار القانوني، مرورا بإعادة النظر في أدوار النخب وتكوينها، وصولا إلى خلق آليات تعيد الثقة للمواطن في قدرته على التأثير في القرار السياسي. فالمغرب، كبلد يحمل تاريخا عريقا وتجربة سياسية متميزة، يمتلك من المقومات ما يؤهله لتجاوز هذه الأزمة، لكن ذلك لن يتحقق إلا إذا توفرت إرادة جماعية تعيد للسياسة جوهرها الحقيقي كأداة للتغيير والبناء، وليس كوسيلة لتحقيق المصالح الفردية والآنية.
فهل يمكن للأحزاب المغربية أن تتحرر من قيود المصالح الآنية وتعيد تعريف دورها كجسر بين المواطن والدولة، أم أن المشهد السياسي سيظل أسيرا لتكرار العجز وإعادة إنتاج الأزمة؟
بقلم: محسن الأجرومي
باحث في القانون العام والعلوم السياسية