بعد المصادقة على الميزانية…

شهدت جلسات دراسة ومناقشة مشروع قانون المالية في مجلس المستشارين أحداثا وتجاذبات كنا قد تعرضنا لها في حينها بالتنبيه والقراءة والتحليل، كما أن جلسة التصويت، ورغم أنها أفضت إلى الموافقة بالأغلبية على مشروع الميزانية، فإنها كشفت من جديد عن استمرار ظاهرة الغياب وسط أعضاء الغرفة الثانية، حيث أن من حضروا وصوتوا لم يزد عددهم عن المائة إلا بقليل، وتقريبا أكثر من نصف المستشارين لم يدلوا بصوتهم بشأن نص جوهري يرهن مسيرة البلاد كلها لعام بكامله. وحتى لا نعود من جديد إلى التركيز على السلبيات والاختلالات التي يسجلها الكثيرون حول عمل غرفتنا البرلمانية الثانية، وحول أداء ممثلينا «الحكماء»، فإننا سنسجل، مع ذلك، أن مداولات مجلس المستشارين وتدخلات فرقه أثارت بعض القضايا والإشكالات ذات الصلة بمستقبل البلاد وأولويات أجندة الإصلاح.
لقد تكررت عبر كثير من التدخلات قضايا: الحكامة الجيدة، تخليق الإدارة وتأهيلها، محاربة الرشوة والريع والفساد والمفسدين، غلاء الأسعار وضرورة الحرص على حماية وتعزيز القدرة الشرائية للفئات الفقيرة والمتوسطة من شعبنا، الإصلاح الجبائي، إصلاح صندوق المقاصة وصناديق وأنظمة التقاعد، قضايا التعليم والصحة والسكن والتشغيل والعدالة الاجتماعية والنهوض بالشأن الثقافي الوطني…
وكل هذه القضايا والإشكالات التي تردد الحديث حولها تحت قبة الغرفة الثانية لابد اليوم من الانكباب عليها من لدن الحكومة، وبانخراط قوي من لدن كل الفاعلين المعنيين، وذلك في إطار التركيز الجماعي على القضايا ذات الأولوية التي تستأثر اليوم باهتمام المواطنات والمواطنين.
من جهة أخرى، لقد سجلت مداولات مجلس المستشارين حضور مطالب بعض الفئات المهنية، وانتقالها من الحراك النقابي ومن احتجاجات الشارع إلى داخل اللجان والجلسات، ويفرض هذا انكباب منظمات المجتمع المدني والنقابات على تطوير معارفها ومهاراتها في مجال الترافع وتفعيل المقتضى الدستوري الخاص بالعرائض الشعبية، وبهذا سيكتسب التفاعل بين البرلمانيين والهيئات المجتمعية بعده الجدي والمؤسساتي والمنتج، بدل أن يتيه كل ذلك داخل تجاذبات سياسوية عقيمة.
لقد أبرزت المداولات البرلمانية أيضا حاجة المشرعين إلى تقوية إلمامهم بملفات وتفاصيل السياسات العمومية، وذلك بما يمكنهم من إعداد طروحات بديلة، والمساهمة في تحويل اجتماعات دراسة الميزانية إلى فرصة لتواجه الأفكار والتحليلات بين الأغلبية والمعارضة، كما أن هذه الأخيرة مطالبة باجتهاد أكبر لتملك كل ما يتيحه لها الدستور الجديد من صلاحيات وإمكانات عمل لم تكن متوفرة في السابق، لكنها اليوم تفرض وجود كفاءات حقيقية لحسن استثمارها، وهذا هو المجال الذي يتطلب اليوم عملا جديا وحقيقيا، أي الرفع من المستوى المعرفي والحرفي في أداء كثير من نوابنا ومستشارينا في غرفتي البرلمان.
بعد انتهاء مداولات البرلمان حول الميزانية، جاء الآن وقت العمل والانكباب على باقي قضايا وملفات الإصلاح في بلادنا، وهذا يتطلب الكثير من الجدية والاجتهاد، والترفع على الحسابات الصغيرة جدا التي باتت أحيانا هي الجوهر في كلام وسلوك بعض البرلمانيين.
[email protected]

Top