شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء مرتعا خصبا لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.
نضالات في قلب المسيرة الخضراء إلى جانب علي يعتة والمعطي بوعبيد
ما إن مرت سنتان على افتتاح العيادة بالدار البيضاء، وتيسرت أمور الاستقرار والعمل في أرض الوطن بعون الله ورعايته، حتى جاء النداء الملكي السامي لسنة 1975، والذي عبر فيه جلالة المغفور له الحسن الثاني عن عزمه تنظيم مسيرة خضراء لاسترجاع الصحراء المغربية.
نسي أحد بورة العيادة وضرورة العمل لسداد مستحقات الدين. نسي مرضاه، والآلات والتجهيزات التي تؤثت فضاءات عيادته. لم يكن يجول في خاطره، بعد النداء الملكي السامي، سوى نصائح وأقوال والده ووالدته عن تراب الوطن الذي يعد، من بين الكنوز والياقوت، كنزا لا يقدر بثمن، كنزا يتناقله، بل يرثه الأحفاد عن أجدادهم.
فالوطن، كما يقول أحمد بورة في سرد وقائع نضالاته في الحياة، كلمة صغيرة في حروفها، عظيمة في معانيها، فهو شجرة لا تمل من العطاء، و نبع يتدفق بالخير و الأمان و كنز لا يقدر بهذا الزمان. حب الأوطان هو أساس الانتماء عند الإنسان، وتاج على الرأس مزدان، يرتقي به كل مواطن، وبه لا بد أن ننطلق إلى الآفاق، لنحقق كل ما نسعى إليه بكل فخر واعتزاز وامتنان.
حين دقت ساعة المسيرة الخضراء، قال أحمد بورة لكل من ناقش رغبته الجامحة في المشاركة، “إن وطني قصة حب لا تنتهي، فلا شيء في الوجود يعادل حبي لوطني، ومدى فخري واعتزازي بالانتماء إلى وطني، أي إلى تلك الأرض التي اعتنت بي حتى كبرت ونضجت”. الوطنية، بالنسبة لأحمد بورة، شعور لا يوصف، فهو كشعور الطفل الرضيع عندما يبكـــي؛ محتاج لحنان أمه. الوطن هو الأب والأم، الأخ والأخت، الصديق والخليل، هو البيئة التي نشأ عليها وترعرع في ترابها أحمد بورة واستظل بظلها، هو بلاده موطن آبائه وأجداده.
جذبت أحمد بورة أحاسيس ومشاعر وطنية، لم يستطع كبحها، وقرر الانضمام إلى المشاركين كمتطوع يحمل خلف ظهره تاريخا نضاليا بصمه رجال من طينة صلبة.
لم تكن المشاركة ضمن عموم المواطنين والمواطنات الذين سارعوا إلى التعبير عن تعلقهم بالنداء الملكي، ولو كلفهم ذلك الحياة، فقط، بل كان أحمد بورة، بالإضافة إلى ذلك، من ضمن من لبوا نداء الوطن والملك مسخرين ما راكموه من تجارب مهنية في سبيل إنجاح المسيرة الخضراء.
فقد سخر ما راكمه من تجارب طبية ليكون رهن إشارة من فضلوا التضحية بأنفسهم وممتلكاتهم في سبيل تحرير الوطن.
تم اختيار أحمد بورة ضمن الوفد الذي يرأسه المناضل الأستاذ المعطي بوعبيد، وتوجد ضمنه أيضا صديقته ورفيقته المناضلة نزهة الصقلي، التي أصبحت فيما بعد وزيرة، بالإضافة إلى رفيقه عبد الواحد معاش، الذي أصبح فيما بعد أمينا عاما لحزب الشورى والاستقلال.
وأسندت لأحمد بورة مهام المسؤول الطبي على الوفد المرافق للمعطي بوعبيد، والمناضل الأستاذ عبد الواحد معاش، والدكتورة نزهة الصقلي. ومازال يتذكر بفخر واعتزاز هذه المشاركة وما رافق تلك المرحلة من فرحة شعبية لن تنسى.
وتبعا لتلك المشاركة الفعالة، تلقى أحمد بورة تهاني كثيرة يذكر منها، تلك التي تلقياها من مولاي مصطفى بن العربي العلوي، والي الدار البيضاء الكبرى حينها، وأيضا محمد فوقار، العامل في وزارة الداخلية والمحافظ لمؤسسة مسجد الحسن الثاني، ومن العديد من الشخصيات التي كان يرد عليها بكون مشاركته نابعة من رغبة دفينة في الدفاع عن وطنه بنفسه وماله لأن هذا الوطن هو سر نجاحه وعنوان تميزه وإبداعه، بل هو كوكب دري متلألئ، ينير كل كواكب الحضارة و يسايرها، هو شعلة منيرة بين كل الأوطان .
قامات كبيرة شاركت أحمد بورة شرف المشاركة في المسيرة الخضراء، فقد كان له الشرف أن يكون من إلى جانب زعماء سياسيين على رأسهم رفيقه علي يعتة الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية. حزب رسخ في ذهن أحمد بورة، وهو شاب مراهق، أن الوطن هي الأرض التي نعيش عليها، فالوطنية هي الشعور الذي يدفعنا للقيام بواجباتنا و تحمل المسؤولية نحو العمل على سلامة الوطن و عزته و خدمته و السعي لتطويره، و بذل الغالي و النفيس، من أجل أن يبقى علمه خفاقاً في سماء الحرية.
اعداد: مصطفى السالكي