أجريت هذا الحوار مع المفكر صادق جلال العظم بمدينة فايمر الألمانية وذلك بعد إلقائه لمحاضرة قيمة بعنوان »ليس للدولة دين، الدين للناس» بمناسبة نيله لميدالية معهد غوته.. في هذه المحاضرة أكد العظم أن الدين يسكن الكائن الذي يشعر ويحس وله عواطف وقلب وهو بطبيعة الحال الإنسان. أما الدولة، فهي مجموعة من المؤسسات الخالية من هذه الإحساسات الأساسية والضرورية للوازع للديني. ويعني الدكتور العظم أن الدين مسألة متعلقة بالأشخاص والأفراد وعلينا أن نعمل لتبقى كذلك. ووفقا له فإنه من مصلحة الدين أن يبقى أمرا شخصيا وفرديا وأن يظل خارج المؤسسات التي هي فضاء لكل شخص ينتمي إلى الدولة وليس إلى ديانة. وفي تقديره فإن الخلط بينهما يؤدي إلى ما حصل في العراق مثلا وذلك عند سقوط واضمحلال مؤسسات الدولة التي أصبحت تسيّر بمشاعر أشخاص من السنة أو الشيعة وغير ذلك. في هذا السياق قال العظم إنه إذا أراد هذا البلد أن يتخلّص من الحرب والخراب الذي حصل فعلى الناس أن يتركوا المعاطف الدينية في البيت أو في الفضاء الخاص بهم، فالدولة ومؤسساتها لا تسيّر بمشاعر دينية أو طائفية وإنما بمشاعر وطنية مدنية.
حوار مثير مع المفكر صادق جلال العظم
المفكر النقدي
> الأستاذ صادق جلال العظم، كرّمت من طرف معهد غوته في العام الماضي.. كيف كان إحساسك وشعورك عندما وصلك خبر الحصول على ميدالية “غوته”؟
< طبعا شعرت بالفخر الكبير وشرف لي أن أحصل على هذا الوسام وعلى هذه الجائزة من معهد غوته، وفي مدينته فايمر علما أنني قضيت كل حياتي في التدريس والعلم والبحث الجامعي، وأن أختتم حياتي المهنية بصلة مع اسم كبير جدا في الأدب العالمي وليس في الأدب الأوروبي فقط وهو اسم غوته. طبعا أنا جد شكور للمبادرة من الحكومة الألمانية بمنحي هذه الجائزة.
> بمناسبة حصولك على جائزة غوته هذه وجائزة إراسموس الدولية وحصول عدد من المثقفين والمبدعين العرب سابقا على جوائز غربية معتبرة، أريد أن أطرح هذا السؤال: حصول بعض المفكرين والأدباء العرب على جوائز غربية ذات الصيت العالمي هل يعني أن الفكر العربي المعاصر بشكل خاص له خصائص ذات طابع عالمي، ولماذا لا نجد للفكر العربي الفلسفي حضورا ملموسا في الحياة الفكرية الغربية وعلى وجه خاص في المجتمعات الغربية؟ وماذا ينبغي عمله لنشر الثقافة العربية في العالم وجعلها تصل إلى الناس خارج أسوار العالم العربي؟
< أولا، يجب أن نفرّق بين تكريم الشخص وتكريم الإطار الفكري الذي تنتمي إليه الشخصية المكرّمة. هذا يعني مثلا أنه عندما قدمت جائزة نوبل للآداب لنجيب محفوظ فهذا لا يعني أن الأدب العربي وصل إلى درجة الأدب العالمي أو الأميركي اللاتيني مثلا في تأثيره ودوره في الأدب العالمي. التكريم هو أكثر لشخصية وعبقرية الأديب والروائي نجيب محفوظ كعقل وروائي تجاوز الحدود المحلية والبيئة الصغيرة وانفتح على عالم أوسع وطرح في أدبه مسائل تهم كل الناس في كل مكان. ولكن هذا لا يعني أن الرواية العربية وصلت إلى مستوى الرواية المكتوبة باللغة الأسبانية في النصف الثاني من القرن العشرين. وهذا المثال ينطبق على كل المفكرين العرب الذين كرّموا في الغرب بما فيهم أنا. لقد كرّمت أكثر من مرة بجوائز ثقافية وفكرية ولكن لا أعطيها بعدا يعكس الفكر العربي وحضوره في المسائل الفكرية والفلسفية العالمية وهذا مدعاة للأسف. أريد أن أرجع إلى مسألة التكريم والجوائز في البلدان العربية، فإلى يومنا هذا لم يستطع العالم العربي أن ينجز جائزة أدبية أو فكرية محترمة لا تثور حولها الشكوك والتساؤلات والاتهامات، ولذلك تجدهم يختبئون وراء التكريمات والجوائز الغربية المحترمة ذات الهيبة والمصداقية.
> اسمك مرتبط بكتاب نقدي راديكالي بعنوان “نقد الفكر الديني” صدر عام 1969 في بيروت وأحدث ضجة إعلامية وسياسية في تلك الفترة وبقيت الأفكار المطروحة فيه مرجعية مهمة لجيل من المفكرين النقديين الذين لحقوا فيما بعد. فلماذا أحدث هذا الكتاب تلك الضجة؟ وماذا كان رد فعل المؤسسة الدينية والسياسية على السواء؟
< هذا الكتاب صدر في بيروت والجدال حوله حصل في بيروت أيضا، ولكن صداه وصل إلى العالم العربي والإسلامي، وسريعا ما تحوّل الكتاب إلى فضيحة أدبية وفكرية كبيرة لأنه تناول المقدس والطابو وكل ما هو محرم بشكل واضح وصريح بدون تورية وبدون الاختباء وراء التعبيرات المطاطة التي اشتهرت بها اللغة العربية. حاولت في هذا الكتاب تسمية الأمور بأسمائها وتسمية الخصوم الفكريين وانتقادهم والاستشهاد بأقوالهم والردّ عليها. كان هذا الأسلوب جديدا وغير مألوف لدى القارئ والمتلقي. ما كان مألوفا وسائدا هو الكتابة بصيغة المبنيّ للمجهول حيث يستعملون عبارة مثل “يقال” أو”نسمع”، أو “ونرد على ما يقال أو يسمع” بدون ذكر الشخص القائل أو الكاتب.. فمن ناحية الأسلوب كان الكتاب مختلفا. حاولت كسر الأعراف وتقاليد الكتابة المعروفة في ذلك الوقت. لقد تلقّى هذا الكتاب اهتماما من طرف المستشرقين الألمان وأخص بالذكر البروفيسور “شتفان فيلد” من جامعة بون الألمانية وهو أحد كبار المختصين في العالم العربي والإسلامي. كان هذا البروفيسور يشغل مسؤول مؤسسة الاستشراق الألماني في بيروت حين صدور هذا الكتاب، فتابع موضوع نقد الفكر الديني والقضية التي أثيرت وكتب يومها دراسة مطولة في حوالي خمسين صفحة راجع فيها وقدم فيها للقارئ الألماني المختص بالتدقيق ومن الألف إلى الياء كل ما حصل منذ نشر الكتاب وما قام به المفتي العام للجمهورية اللبنانية الذي أثار مشكلة ضد الكتاب وطلب بإحالة المؤلف والناشر والكتاب إلى المحاكم، وطلب بتوقيفي ودخلت فترة قصيرة إلى السجن وكانت محاكمة سياسية كبيرة للكتاب والمؤلف والناشر.. في ألمانيا كانت هناك في ذلك الوقت تغطية واسعة لسلسلة الأحداث التي رافقت صدور الكتاب.
صدمة الهزيمة.. لا نكسة ولا نكبة
> ما علاقة صدور هذا الكتاب بالوضع العربي في تلك الفترة؟
< هذا الكتاب صدر في بيروت عام 1969 وكان العالم العربي مازال يعيش تحت صدمة هزيمة الجيوش العربية وبالخصوص الجيش المصري والسوري والأردني أمام الجيش الإسرائيلي في حرب 1967.. دخلت الأنظمة العربية في أزمة مسّت بشرعيتها وكما فقدت كل السلطات رمزيتها وهيبتها لدى المواطن العربي بما في ذلك السلطة الدينية، والسياسية، والمدنية، والشرعية أو القضائية.. هذه الصدمة التي امتدت لسنوات جعلت المجتمعات تدخل في مزاج عدمي فسح المجال لعهد جديد من النقاش والنقد وتحليل ما حدث، فأصبح التصريح والقول مباحين خلافا لما كان في السابق محرّما وممنوعا، وأصبح المتلقي بعد هزيمة 1967 مقبلا ومنفتحا على التقبل والإصغاء لخطاب جديد يفسّر له ما آلت إليه الدول العربية وهو الأمر الذي كان غير ممكن في السابق. فالكتاب قد صدر في لبنان وتعرّض إلى نقد لاذع وتعرّضت أنا شخصيا إلى موجة من الشتم والتحريض من قبل الأئمة في خطب الجمعة، ولكن رغم ذلك لم يحدث وأن خرج الناس إلى الشوارع للاحتجاج أو إثارة الشغب والتنديد. حسب رأيي فإن المتلقي لم يعد يستجيب للخطابات التحريضية والدعائية التي كانت تفرض عليه في السابق وأقصد قبل الهزيمة، أو بشيء آخر من هذا القبيل وذلك مهما كان مصدرها. حصل فقدان الثقة بالمؤسسات الدينية أو السياسية، وهذه مسألة مهمة في تلك الفترة. أما الرد على ما جاء في الكتاب، فغالبيته ظهر في الصحافة وبالخصوص المكتوبة منها. فهذه العدمية التي أصابتنا بعد الهزيمة فتحت باب التساؤل والشك حول أمور كثيرة. فقبل كتاب ”نقد الفكر الديني” قد سبق وأن نشرت كتابا بعنوان ”النقد الذاتي بعد الهزيمة” وهو عبارة عن رد ونقد للرأي القائل والسائد في تلك الفترة والذي يرجع الهزيمة إلى نوع من القدر المسلط علينا كعرب، ويفسر هذا القدر بقوى خارقة خارجة عن إرادتنا كبشر، وكما أقصيت التفسير الذي يحيل الهزيمة إلى مؤامرة خارجية صهيونية إمبريالية، وجهت نقدا شديدا لكل هذه الطرق المفسرة للهزيمة على هذا النحو، وأكدت في تفسيري للهزيمة على التنظيمات الاجتماعية للبلدان العربية، والتقاليد العربية، ومدى انسجامها مع هدف وضع حد للتوسع الإسرائيلي في الوطن العربي. فالكتاب جاء استمرارا لحركة النقد الذاتي التي حدثت بعد هزيمة 1967.
> قمت بعمل إبستيمولوجي حول المصطلحات وتسمية ما حصل بمفاهيم تقترب من لغة الموضوعية والعلم والواقعية. فهل هي هزيمة أم نكبة أم نكسة؟ كيف تفسر ذلك؟
< صحيح، أن أحد وأهم سبب دفعني لكتابة كتاب “النقد الذاتي للهزيمة” هو لأؤكد على مصطلح وفكرة الهزيمة وليس النكبة أو النكسة. فقلت بأنه لا مجال للتلاعب بالمصطلحات والتهرّب من مسؤولية الهزيمة على مستوانا كبشر ولا يجب أن نسمّي الهزيمة نكبة أو نكسة، لأن تسمية هزيمة 1948 بالنكبة هو القول بأن الإنسان ليس مسؤولا عنها. فالمسؤول عنها الطبيعة مثلا. إن النقاشات التي صارت في العالم العربي على الهزيمة اعتبرتها زلزالا. يعني حدث كبير مثل هذا يشبه بالطبيعة العمياء. فأنا كل هذه الآراء والتأويلات هاجمتها وانتقدتها واعتبرتها نوعا من استمرار عقلية ساذجة ومتخلفة في التعامل مع الوضع السياسي والدولي والإقليمي سيؤدي حتما إلى المزيد من الهزائم. عندما كتبت “النقد الذاتي بعد الهزيمة” كان فيه انهيار كامل لما يسمى “بالشعبوية العربية” في ذلك الوقت ولما يسمى “الاشتراكية العربية” و”القومية العربية” و”الوحدة العربية” في ذلك الوقت. هذا الانهيار كان عسكريا، سياسيا، أيديولوجيا. فدخلنا في فراغ كبير. فتوقعت في ذاك الوقت أن الهروب الديني يأتي لملء هذا الفراغ. يعنى الأشياء التاريخية والدينية هي التي ستملأ هذا الفراغ. وتوقعت ملء الفراغ هذا بتوجه تبريري ودفاعي ولم أتوقع أن يكون ملء الفراغ هذا بتوجه ديني عنيف وأصولي ويتحول إلى جهادية إرهابية. هذا لم أكن أتوقعه يوما. وهذا الإدراك هو الذي دفعني إلى إصدار كتاب “نقد الفكر الديني”. كنت واعيا بمدى حضور وأهمية العامل الديني في المجتمعات العربية وإمكانية تحوله إلى ملجأ ومنقذ، ولكن لم أتوقع يوما أنه سيصل إلى هذا المستوى من الراديكالية الجهادية. لكن الآن بعدما حصل هذا، أحاول أن أفسر وأفهم لماذا اتجهت الحركات الدينية هذا الاتجاه؟ طبعا العامل الأكبر حسب رأيي هو فشل العسكري والدولة الوطنية في ميدان التربية وغياب المعرفة العلمية في العالم العربي وغياب المؤسسات المواكبة للعالم الحديث وأسسها من بينها الديمقراطية والحريات، وكل هذه الأمور مؤسسة لدولة القانون، كما أن الدولة الحديثة كانت غائبة ومنعدمة، وهذا فتح لنا المجال لقول ما لا يقال عادة.
الممنوع والمحرم
> بعد الهزيمة ظهرت اتجاهات فكرية متعددة المشارب والتوجهات وحاولت كلها على حدة إيجاد مخرج وطرح بديل للخروج من الوضع. ما هي صورة المشهد الفكري بعد الهزيمة؟
< بعد الهزيمة كل التوجه كان موجها نحو القضية الفلسطينية وحصل التفاف شعبي ونخبوي حول بداية المقاومة الفلسطينية بعد احتلال أراضي فلسطين والذي كان نتيجة للهزيمة. لقد كان مركز المقاومة في ذلك بعمان عاصمة الأردن. فالحركة التي تبنت المقاومة كمنهج لتحرير الأراضي المحتلة ولّدت لدى الإنسان العربي أملا جديدا يستجيب لحاجة المرحلة، وصار التفاف حول هذه المقاومة وأنا شخصيا شاركت بالعمل الثقافي في منظمة التحرير وعملت في مركز الأبحاث التابع لها في بيروت وعملنا مع مجموعة كبيرة من المثقفين على إدخال جهد عربي من أجل فهم أفضل وصحيح لوضع إسرائيل لأن الذي كان سائدا في ذلك الوقت هو القطيعة الكلية مع أيّ محاولة لفهم ما تمثّله إسرائيل. كانت مقاطعة كلية مع إسرائيل والحركة الصهيونية. حاولنا من خلال هذا المشروع كسر هذا الطابو والقيام بحركة تنويرية للنخبة المتعلّمة والسياسية من الشعوب العربية. كل هذا للإجابة بصورة واقعية علمية على الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هزيمة الجيوش العربية أمام الجيش الإسرائيلي. كانت بدايتنا من الصفر، وكنّا نسمع مصطلحات ولا ندري معناها. فمثلا كنا نسمع كلمة “الكابوت” ولم نكن نعرف مدلولها ولا أحد كان قادرا على فهم وتوضيح هذه الكلمة. كنا نسمع مثلا “المبام” أو “الليكود” ولم نعرف ماذا تعني. فالسياسات العربية الرسمية انتهجت فكر الممنوع والمحرم تجاه أيّ محاولة للتقرب من كل ما يمثل أو ينتج هذا الكيان. فأيّ كتاب يمسّ هذا الموضوع ممنوع، واسم إسرائيل يحذف أو يمحى من القواميس والمعاجم باللغات الأجنبية. فكيف لدول الجوار التي تعيش في عداوة مع هذا الكيان أن تقاومه وهي تجهل كل شيء عنه؟ لقد حاولنا كسر وتجاوز هذه الثقافة السخيفة، والتعمية الممنهجة على الشعوب العربية، والتي هي عقلية سحرية يراد بها تنحية ومسح هذا العدو وهذا الكيان بعدم تسميته. لقد كان يعتقد أن كل إشارة إليه أو ذكره لغويا هو نوع من الاعتراف بوجوده وتقبله.. فمحو الاسم هو محاولة لتعمية الواقع.
> كيف تفسر لنا هذه الهستيريا وهذا الخوف من ذكر إسرائيل أو التلفظ بكل ما يمسّها وكيانها؟
< بعد نكبة فلسطين 1948 دخل العالم العربي في حالة إنكار كامل للكيان الصهيوني الإسرائيلي، لأن الاعتراف جرح كبير ومؤلم في الذات العربية والإسلامية، ولذلك فقد كان أفضل أسلوب هو الإنكار ومن وراء هذا الإنكار تتبنى موقفا وتعد نفسك لجولة أخرى للانتقام، ولكن الجولة الأخرى كانت أكثر كارثية من الأولى. إن السبب الرئيسي للهزائم المتتالية هو حالة الإنكار المكرسة من طرف الذات العربية على نفسها، وهي حالة طبيعية عندما تدخل الجماعات البشرية في حالة الصدمات القوية أو غيرها، وهي محاولة للحفاظ على نوع من التوازن بعد الصدمة. فالرفض أسهل من الاعتراف وهذا يحدث كثيرا مع المرضى على مستوى الأشخاص.
الاستشراق معكوساً
> نعود إلى مسألة الاستشراق. كما تعرف فهذا الموضوع يعود إلى الكتاب النقدي السجالي الهام الذي صدر لإدوارد سعيد عام 1978 في الولايات المتحدة الأميركية. في كتابك “ذهنية التحريم”خصصت فصلا يحمل عنوان “الاستشراق معكوسا” لمناقشة طروحات إدوارد سعيد، فما هو وجه الاختلاف بينك وبين إدوارد سعيد؟
< إن هذا الفصل الذي يحمل عنوان “الاستشراق معكوسا” هو نوع من التحذير والتنبيه للشرق عندما يحاول صنع صورة حول الغرب ويشوّهها. وتحذيري هذا جاء بعد الغلط الذي وقع فيه المستشرقون في تصورهم للشرق، وهذه الصورة مبنية على رغبة وميول عاطفية يحاول من خلالها الشرقي إرضاء رغباته كما يتمناها ويحلم بها، وهكذا يبتعد عن الحقيقة والموضوعية في تصوره للغرب. هذا التصور ناتج عن مركب النقص الذي يسكن العالم العربي والإسلامي خاصة. لقد بدأت عملية بناء الصورة التي ترضينا حول الغرب بعد سقوط الدولة العثمانية وظهور الدولة الحديثة على أنقاض الخلافة العثمانية بقيادة أتاتورك. فهذا الأخير حاول بدافع مركّب نقص محاكاة النمط الغربي بكل مواصفاته. لاحظت أن الشرق بدوره سينتج نفس الصورة الخاطئة والمشوهة للغرب. في هذه الحالة سنقع في أزمات وصراعات تؤدي إلى عدم التقارب والتحاور. أما النقطة المتعلقة بما كتبه إدوارد سعيد حول الاستشراق فقد كان رأيه فيه هو أن الغرب لم يخترع فقط الشرق ولكن شوّهه أيضا. فإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أن الشرق ليس له وجود حقيقي فهو موجود فقط في مخيلة الذي أبدعه. وفي نفس الوقت لم يعطنا إدوارد سعيد تعريفا للشرق نفسه فما هي حقيقته؟ وإذا كان فيه تشويه وتزييف لصورة الشرق من طرف الغرب، حسب سعيد، فهو بدوره لم يقدم لنا الصورة الصحيحة وغير المزيفة لهذا الشرق. ويبقى السؤال المعلق هو ما هي الصورة الأصلية غير المشوهة لهذا الشرق؟ وهذا ما يعاب على فكر إدوارد سعيد.. وهنا حسب رأيي يجدر بنا أن نرجع إلى أنفسنا لنرى ما حقيقة هذا الشرق كما نعيشه ونلمسه ونحياه نحن أولا كشرق وبمعزل عن الصورة التي يقدمها الغرب لنا. ومعرفتنا هذه بالنفس تساعدك في فهمك للكيفية التي يعرفك بها الآخر. وفي قراءتي لما كتبه إدوارد سعيد حول الغرب لم أجد شيئا جديدا عنده لم يقله الغرب عن نفسه. فالكتاب مليء بأقوال الغرب عن نفسه. لنأخذ تاريخ الفلسفة الحديثة، فهو يحكي عن ديكارت وسبينوزا وجون لوك وغيرهم ولم أشعر أن ثمة معرفة بالغرب إضافة من موقع غير غربي. فالكثير مما يقال حول الغرب في العالم العربي هو نوع من القدح والتهجم والذم أكثر من المعرفة الجدية الموضوعية.
نقد العقل
> لماذا لم تواصل رحلتك الفكرية والفلسفية مع هنري برغسون ومع كانط لاحقا وهي الرحلة المهمة التي بدأتها منذ زمن طويل بأطروحتك التي أنجزتها باللغة الإنكليزية والتي صدرت لك في عام 1972 عن منشورات جامعة أكسفورد تحت عنوان “جذور مجادلات كانط في النقائض”؟
< أريد أولا أن أبدأ بالموضوع المتعلق بمعالجتي لفكر وفلسفة إمانويل كانط وتصحيح الالتباس الشائع فيما يخص مساري الفكري وفلسفة كانط. كان اهتمامي الجدي بهذا الفيلسوف في بدايات الستينات من القرن العشرين وأصدرت الكتاب الأول بعنوان “نظريات الزمان في فلسفة كانط” باللغة الإنكليزية، ونشرته في ذلك الوقت في نيويورك ثم نشرت الكتاب الثاني دائما حول كانط بعنوان “نقد العقل المحض”. من خلال أعمالي الأولية هذه حول كانط، انتشر التباس مفاده أني في دراساتي الجامعية كتبت أطروحة الدكتوراه حول كانط ولكن هذا خطأ، فأطروحة الدكتوراه كانت حول الفلسفة الفرنسية المعاصرة وتحديدا حول الفيلسوف هنري برغسون وكان موضوعها هو “فلسفة الأخلاق عند برغسون”. ومضمون الأطروحة قد نشرته في كتابي “الفلسفة الغربية المعاصرة”. وأريد من خلال هذا الحوار أن أصحح هذا الالتباس الذي وقع. فالعمل الذي أنجزته حول كانط بعنوان “جذور مجادلات كانط في النقائض” هو ليس موضوع الدكتوراه وإنما أتى فيما بعد. واصلت دراساتي الكانطية بصفة مستقلة ونشرت أيضا “دراسات عن الزمان والمكان عند كانط” باللغة العربية. أما اهتمامي بكانط وفلسفته فقد استثمرته في الدراسات اللاحقة وأعني بالخصوص الكتابين “النقد الذاتي بعد الهزيمة” وكتاب “نقد الفكر الديني”. فتوجهت في مرحلة الستينات من القرن العشرين، التي كانت مرحلة استثنائية نظرا لتميزها بفكر ينادي إلى نزع الاستعمار وإلى الدفاع عن القضايا العادلة في العالم العربي والعالم الثالث عموما من جهة، ومسايرة ومساندة الدول المتخلفة والتي ستسمّى فيما بعد بالدول النامية أو في طريق النمو لتلتحق بركب التقدم والتطور العلمي الحاصل في المجتمعات المتقدمة وغيرها من الأهداف المسطرة والمنشودة في تلك المرحلة. فالظرف السياسي والحضاري لتلك الفترة جرّني لأركز اهتمامي حول الفكر السياسي والاجتماعي العربي وابتعدت عن الفكر الغربي المحض الذي بدأته بالفيلسوف الفرنسي هنري برغسون بتقديم رسالة دكتوراه حوله وبفلسفة إمانويل كانط فيما بعد.
لقد توجه اهتمامي إلى المشكلات الثقافية والسياسية المطروحة وذلك من خلال دراسات ومحاضرات في كل من بيروت ودمشق خاصة ونشرت لي في ذلك الوقت دراسات وبحوث حول المسائل المرتبطة بالقضايا العربية وفي صلبها القضية الفلسطينية.
كان المنعرج المهم في حياتنا كنخبة ومفكرين في مرحلة ستينات القرن العشرين هو هزيمة العرب أمام إسرائيل في 1967، وهذه الهزيمة جعلتنا نرى بشكل آخر ما كنّا نراه على أنه مرحلة واعدة ومتفردة لما يسمّى بالدول النامية والدول العربية والثقافة العربية.. إن الهزيمة صححت الوهم والتصورات السائدة في المجتمعات العربية حول البطولات والشعارات المملوءة بالحماس والفارغة من الواقعية والعقلانية.
من هنا انحرف اهتمامي من المسائل الفكرية المجردة، ومن المسائل الثقافية على مستوى أعلى إلى أمور كانت تمثل أولويات التفكير حولها والرد على الإبهام والإشكاليات الآنية التي كانت مطروحة. كما تبين لنا بعد الهزيمة أن التكفل بهذه المسائل كان مفقودا وناقصا في حياتنا العربية في تلك الفترة. على سبيل المثال لو قال لي أحد في سنة 1956 إنني سأكتب يوما كتابا بعنوان “النقد الذاتي بعد الهزيمة” وأتكلم فيه عن الحرب والمعارك والدبابات وعن التكتيك الحربي والاستراتيجية وغير ذلك سأتهمه بالوهم والجنون ولكن هذا ما حصل. فبعد الهزيمة حصل لي تحوّل فكري جذري وحاولت أن أفهم الواقع أكثر وأفهم عن قرب وبموضوعية ما حصل ولماذا حصل، طبعا من موقع نقدي وتقدمي.
الفلسفة الممنوعة
> كيف تصف وتقيّم واقع الفلسفة في الساحة العربية، وهل يمكن أن نتحدث عن فلسفة عربية معاصرة وما هي هويّتها وفرادتها وما هي المشكلات الكبرى التي تشتغل عليها؟
< منذ محنة ابن رشد والفلسفة العربية مُحاربة ومقصية من التداول والممارسة. الغزالي مثلا لعب دورا كبيرا في تطوير وترويج الفكر الفقهي الديني لدرجة أن ما حصل في العصور الحديثة بإعادة اكتشاف فكر ابن خلدون في علوم الاجتماع والتاريخ وإعادة ظهور الفكر الرشدي نسبة إلى ابن رشد هو عمل غربي. وظهور فكر ومفكرين عرب حاولوا رد الاعتبار لهؤلاء جاء نتيجة الاهتمام الغربي أولا. فالإحياء الغربي لهاتين الشخصيتين مثلا، وهنا أقصد، ابن رشد وابن خلدون، وهو طبعا شيء معلوم ومعروف، وحتى الاهتمام بهذه الشخصيات وغيرها من هذا الفلك في العالم العربي هو مستمد من الغرب ومرتبط بالدراسات التي تقام حاليا في الدول الغربية: في فرنسا، ألمانيا وإنكلترا. زد على ذلك، ففي الكثير من البلدان العربية والإسلامية فإن الفلسفة عموما هي إما محرمة أو شبه محرمة. فنحن نعرف أن الفلسفة في الجامعة السعودية ممنوعة. هناك بعض الجامعات في الدول العربية تدرّس فيها الفلسفة ولكن طابعها وتوجهها يميل أكثر إلى الطابع المدرسي التلقيني التقليدي أكثر منه أن يكون تفكيرا فلسفيا منفتحا وحرّا. فجوابي هو أن الحديث عن إنتاج فلسفي عربي معاصر وراهن أعتقد أنه مبالغ فيه كثيرا. فلا أعتقد بوجود شيء من هذا القبيل. فما هو موجود طبعا هم المهتمون بالفلسفة والمحبون لها ويوجد أيضا أساتذة للفلسفة ودارسون ومتتبعون للفلسفة ولكن الإنتاج الفلسفي بالمعنى الجديّ والمنتظم، والمتراكم والمستمر فهو غير موجود. أظن أن أحد الأسباب في ذلك هو أن في العالمين العربي والإسلامي لم يجر إنتاج معرفي بالطبيعة، وبالإنسان وبالمجتمع منذ أكثر من 500 سنة على الأقل. والفلسفة بدون قاعدة معرفية متراكمة تنهل منها، وتناقشها، وتنظَّر لها، يصعب لها أن تنشأ وتزدهر. فمن دون هذه القاعدة المعرفية وهذا التراكم المعرفي فإنه يصعب الحديث عن الفكر الفلسفي، وللأسف فإن الإنتاج العلمي والمعرفي في العالم العربي الإسلامي قد انقطع منذ فترة طويلة جدا وحلّ محله استهلاك للمعارف التي تنتجها المجتمعات الأخرى المتقدمة علميا ومعرفيا. لقد كان ازدهار الإنتاج الفلسفي دائما ومنذ العصور البعيدة مرتبطا بالإنتاج العلمي بميادينه المختلفة، من علم الفلك إلى علوم الحساب والطبيعة. وحتى في العصور الوسطى كان الإنتاج الفلسفي مرتبطا بالعلوم الدينية السائدة وهذا رغم طابعها الديني اللاهوتي. فالفلسفة ارتكزت على المعرفة الدينية في نقاشاتها وازدهرت، وما هو حاصل في المجتمعات العربية في العصر الحالي هو غياب الإنتاج المعرفي مهما كان نوعه الضروري للإنتاج الفلسفي. فلا وجود لتراكم معرفي يمكننا أن نتفلسف حوله ونبني صورة كونية لوجودنا تكون مستمدة من هذه المعارف.
> لنعد إلى الرأي القائل إن السبب الإبستيمولوجي المركزي في غياب التفكير الفلسفي في هذه المجتمعات هو العائق الديني. فحسب الفيلسوف الألماني هيغل عند حديثه عن الفلسفة الإسلامية “الجديد في هذه الفلسفة هو الإسلام وليس الفلسفة”. فما هو تعليقكم؟
< ما قاله هيغل ينطبق أيضا حسب رأيي على الفلسفة الوسطية في أوروبا، فالجديد فيها هو المسيحية وليس الفلسفة. أصبحت الفلسفة خادمة العقائد الدينية السائدة سواء عند المسلمين أو المسيحيين. في هذه الحالة تخرج الفلسفة عن مهمتها الأولى وتصبح خادمة للأيديولوجيا الدينية القائمة، تُنظّر لها، وتُدافع عنها، وتنظّمها وتُعطيها التماسك المنطقي والبعد الشمولي. فهكذا تخدم الفلسفة الأيديولوجيا الدينية القائمة. فتحرر الفلسفة من هذه الوظيفة كان بفضل الثورة العلمية التي حدثت في القرن السابع عشر في أوروبا. الفلسفة الحديثة تربط سندا مع هذه الثورة العلمية واستمدت منها تساؤلاتها، ومناهجها وأنساقها. يعني أن الفلسفة الحديثة هي عبارة عن عملية تعديل نفسها واستيعاب وامتصاص النتائج البعيدة والقريبة المترتّبة عن التطور العلمي الحاصل في تلك المرحلة والتي وصلت إلى أوج ذروتها في عصر التنوير. وكان للفلسفة دور، ومشاركة واسعة في عملية نقل نتائج الثورة العلمية هذه إلى إدارة شؤون الحياة اليومية، شؤون الاقتصاد وشؤون الدولة ومختلف ميادين الحياة بدلا من الاعتماد على العادات والأعراف والانتماء القبلي في تسيير شؤون المواطنين والمدن. لقد دخلت الفلسفة في نقاش كبير وفي نقد ودفعت نتائج هذه العلوم من المجال العلمي إلى المجال التطبيقي في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. إن التراكم العلمي الحاصل في الغرب دفع بالتساؤل الفلسفي إلى تجاوز القضايا التقليدية المرتبطة عموما باللاهوت والشؤون الدينية إلى التساؤل حول النتائج العلمية التي تتكرس في إنتاج أنماط حياة جديدة، في الحين بقيت المجتمعات العربية في حالة عجز أمام هذا الكمّ الهائل من التراكم العلمي بسبب عدم قدرتها على فهم واستيعاب ولو جزء من هذا التراكم العلمي الحادث.
الخوف من الفلسفة
> ما رأيك في واقع تدريس الفلسفة في المنظومة التعليمية العربية راهنا ولماذا لم تنتج هذه المنظومة وعيا فلسفيا في مجتمعاتنا وفلاسفة لهم تأثير في الحياة الفلسفية العالمية؟
< وضع تدريس الفلسفة في المجتمعات العربية جدّ متدنّ ويكاد ينعدم تماما في بعض الدول العربية الأخرى. وهذه الحالة هي نفسها في تدريس المواد الأخرى أيضا. السبب الرئيسي حسب رأيي يعود أولا إلى غياب الحرية في التفكير والتعبير في هذه الدول. فالفلسفة مادة سجالية ونقدية تصطدم دائما بمعتقدات أخرى وموروثات وغيرها من المحرّمات، سواء كانت سياسية أم دينية عقائدية. فحالة من الخوف والحذر تسكن ممارسي الفعل الفلسفي من أساتذة وطلاب ومحبي هذه المادة، وهذا يدفع بهم إلى الابتعاد عن طرح ما يجب أن يطرح في هذه البلدان وهذا يفقر الفلسفة ويعدم وجودها.
مثلا ففي مراكز الفقه الديني والعلمي سواء في الزيتونة أو في الأزهر أو في كليات الشريعة الملحقة بمعظم الجامعات العربية منذ فترة طويلة جدا لم يظهر هناك اجتهاد لافت حقيقة أو اختراق لما هو قائم في منظومة التكرار والترتيل والحفظ على الظهر. فلا توجد مبادرات إعادة القراءة والتأويل للتخلص من هذه المنظومة. طبعا فإن الفلسفة تساعد على ذلك ولكن هذا لم يحدث. فعلى سبيل المثال، فقد صدر للمفتي والعالم الديني السعودي ابن الباز كتاب في أواسط ثمانينات القرن العشرين، كفّر فيه من يقول بكرويّة الأرض ومن يقول إن الأرض تدور حول الشمس. فكتب أنه سيحلل القضايا الفلكية مستندا فقط إلى النص القرآني والسّنة والسلف الصالح، فبقي في معطيات الفلك القديم لأن هذا ينسجم مع مستنداته ومرجعياته. ولكن الفضيحة الكبرى في تلك المرحلة هو غياب من يتجرّأ في العالم العربي أو الإسلامي لمجابهته والردّ عليه. وهذا سببه الجبن وعدم وجود الشجاعة الأدبية والفكرية لدى المفكر العربي. فهو حر في آرائه ولكن الفضيحة الكبرى هي صمت وتخاذل العلماء والمفكرين العرب في مواجهة هذا الهراء والردّ على الذي تبناه. نفس الجدال كان قائما في أواسط الستينات من القرن الماضي وفي نفس الموضوع، فانقسم يومها العالم العربي إلى معسكرين: الأرض ليست كروية بقيادة مصر وجمال عبد الناصر الذي كان يدافع عن فكرة كروية الأرض وأن الأرض تدور حول الشمس، وما سمي بـ “المعسكر الرجعي” بقيادة العربية السعودية، يدافع عن الرأي القائل بسطحية الأرض. فانقسم الإعلام إلى فلكين والرأي العام وحتى الأكاديمي انقسم في موقفه حول المسألة ليس حسب معطيات علمية موضوعية ولكن حسب الانقسام الأيديولوجي لكلّ طرف. وحدث صراع كبير إلى حد الشتم والسب والاتهامات فتدخل عبد الناصر واتصل بالسعوديين لوقف هذه الفضيحة.
> حديثكم هذا حول مشكلة كروية الأرض أم أنها مسطحة وما انجرّ عنها من صراعات يذكرنا بما وقع في القرون الوسطى في أوروبا. ويبدو وكأننا نعيش نسخة من هذا الزمن في العالم العربي والإسلامي اليوم. فكيف تحللون هذا؟
< أوافق تماما على تعليقك هذا، نحن لم نخرج بعد من نقاشات القرون الوسطى في عدة مواضيع. أذكر أيضا حادثة شبيهة، ففي منتصف الستينات من القرن العشرين وبمناسبة حلول شهر رمضان وتجمع الأئمة والشيوخ في هذه الدول لثبوت رؤية الهلال من عدمه والإعلان عن يوم بداية الصوم أو الإفطار وإعلان يوم العيد، انقسم الفلكان أو الجناحان بلغة تلك المرحلة إلى جناح تقدمي من جهة وهو التابع لمصر وإلى جناح رجعي وهو التابع للسعودية من جهة أخرى.. في هذه المسألة، بعض العلماء المصريين اقترحوا على عبد الناصر آنذاك حلا علميا للمشكلة حيث أن إمكانية التأكيد بالدقة من ظهور الهلال من عدمه ممكنة بفضل التطور العلمي الحاصل في علم الفلك الحديث، فكان رد عبد الناصر كالآتي “لا أريد فتح جبهة أخرى للنزاع والقتال”. فهذا دليل على أسبقية الحسابات الظرفية، والسياسي على الخطاب العلمي لدى القادة أيضا.
صراع سياسي
> لكن حسب رأيي، فإن وسم هذا الطرف بالتقدمي فيه نوع من عدم الانسجام مع فكرة التقدم نفسها. فكيف لجناح تقدمي أن يخوض في غمار مشكلات تجاوزها الزمن وفصلت فيها العلوم منذ مدة؟ فكلا الطرفين يتجادلان حول فكرة علمية أصبحت من التراث العلمي للبشرية.
< صحيح، ولكن التباين بين الجناحين أو الفلكين كان سياسيا وليس شيئا آخر. فــ “الفلك الرجعي” سياسيا واجتماعيا كانت تقوده السعودية مقابل «الجناح التقدمي» سياسيا واجتماعيا الذي كانت تقوده مصر. وهكذا أسقطت التوجهات السياسية للطرفين على القضايا العلمية وبالخصوص قضية ما إذا كانت الأرض كروية أم مسطّحة وغيرها من قضايا من هذا النوع. كان كل طرف يبحث عن ذريعة لتبرير توجهاته السياسية والأيديولوجية.
> يبدو واضحا أن الغالب في مشهد النشاط الفكري الفلسفي عندنا، رغم قلته ونخبويته، هو ترجمة وشرح لبعض أعمال الفلاسفة الغربيين القدامى والمحدثين والمعاصرين إلى العربية والتعليق عليها، ولكن يلاحظ أن هذه الترجمة شبه السياحية لم تنتج عنها إضافات فلسفية عربية معاصرة لها خصوصيتها ومساهمتها على مستوى ابتكار المفاهيم وحل الإشكاليات الفكرية والسياسية الكبرى المطروحة بقوة في زماننا؟
< أولا ما يعاب على المفكرين والفلاسفة العرب الذين حاولوا ترجمة وتقديم هذا الفكر إلى مجتمعاتنا هو كونهم على العموم غير حاسمين في مواقفهم، فكانوا يميلون أكثر إلى أنصاف الحلول وإلى الفكر التوفيقي والتصالحي، وهذا استجابة بطريقة أو بأخرى إلى الضغوطات الثقافية والسياسية الممارسة عليهم وتعرضهم للاتهامات مثلا، إضافة إلى غلوّهم في استيراد الأفكار الغربية وتبنيهم ثقافة تبتعد عن القيم الحضارية لمجتمعاتنا. ولكن ما تجب الإشارة إليه هو كون هذه المجتمعات نفسها تعتمد في حياتها المادية والاستهلاكية اليومية تقريبا وكليّة على ما ينتجه الآخر وهنا أقصد الغرب، وترفض الفكر الغربي الذي هو وراء هذا الإنتاج المادي. فهذه المفارقة تجعلني أقول إن الحلول الوسطية والتريث في نقل وترجمة الفكر الغربي واعتماده لبناء فكر عربي معاصر من طرف المفكّرين العرب لم يصل إلى درجة الاستيراد والتبعية المادية والاستهلاكية لهذه المجتمعات نفسها. فعلى المرء أن يتجرّأ أكثر لنقل وترجمة هذا الفكر دون تريث وتحفظ لأن الفكر هو الضامن الوحيد للاستقلالية على المستوى المادي لهذه المجتمعات.
الديني والدنيوي
> ماذا بعد نقد الفكر الديني وذهنية التحريم اللذين شرعت فيهما منذ سنوات، وكيف يمكن بناء الفكر العلماني الديمقراطي في الثقافة العربية.
< خمسون عاما مرَت على نشر كتابي “نقد الفكر الديني”، ورغم محاولة منعه في معظم البلدان العربية والإسلامية، ما عدا لبنان، فإن الكتاب بقي مطلوبا من القارئ ومتداولا بشكل واسع، ولم يتوقف عن الطبع لمدة 50 عاما، وكأن التطورات السياسية الحالية المرتبطة بالحركات الأصولية والجهادية وما شابه تساهم من جديد في الإقبال الكبير على الكتاب وقراءته وإحيائه محليا ودوليا، فالكتاب ترجم إلى لغات أجنبية مثل الإنكليزية والإيطالية بالإضافة إلى الملخصات والمراجعات الكثيرة المنشورة حول الكتاب بعدة لغات.
لقد أثار هذا الكتاب في زمانه ضجة إعلامية كبيرة كانت شبيهة إلى حد ما بالضجة التي أثارتها رواية “آيات شيطانية” لسلمان رشدي في التسعينات من القرن الماضي، والفرق هو أن الآيات الشيطانية جاءت في مرحلة العولمة وهكذا أخذت الرواية صدى عالميا واسعا، بينما كتابي الذي صدر قبل خمسين سنة بقي الفضيحة الأدبية المحصورة داخل البلدان العربية الإسلامية وفي بعض الدول الغربية. لقد أنجب الكتاب ما لا يقل عن ألف وخمسمئة صفحة من المناقشات والردود والدحض والتفنيد وفي بعض الأحيان الدفاع. إنه يمكن الحصول على الكتاب في السوق والمكتبات الجامعية العالمية وفي العالم الافتراضي. في كتابي ”ذهنية التحريم” وخاصة القسم المتعلق بسلمان رشدي وقصة رواية “آيات شيطانية” دافعت عن حق الكاتب في الحياة والكتابة وحرية الرأي والتعبير وقد بقيت المقاربة الأدبية التي قدمتها حول آراء سلمان رشدي في مستوى النقد الأدبي طبعا، وصدرت في شكل مجلد تحت عنوان “ما بعد ذهنية التحريم” وأصبح هذا المجلد وثيقة ومرجعا بالنسبة إلى حالة سلمان رشدي وروايته وبالنسبة إلى النقاد الذين ردوا على ما كتبته. أعتبر هذا الإنجاز مهما ليس بالمعنى الشخصي وإنما بمعنى إثراء سجالي ونقاشي داخل المجتمعات العربية والإسلامية في المسائل الحساسة والمهمة، وهي قضايا كان يتجنبها المفكرون العرب ولم يفتح النقاش حولها بشكل صريح ومباشر. مثلما وجهت النقد في قضية سلمان رشدي فقد وجهت نقدا للجنرال السوري السابق مصطفى طلاس. وكما نعرف فإن الرد في بلداننا على وزير الدفاع هو تجاوز للخطوط الحمراء وعلى صاحبه أن يتلمّس رأسه وأن مصيره المقصلة أو النفي أو السجن. مع ذلك قمت بذلك ومازلت على قيد الحياة.
أما الشق المتعلق ببناء مجتمعات ديمقراطية بالمعنى المعاصر، فنحن مطالبون بالعمل على مستوى الممهدات الفكرية والنظرية المطلوبة فلسفيا لمجابهة المنظومات الفكرية المعادية لأيّ توجه علماني ومدني، كمنظومة ولاية الفقيه أو منظومة الحاكمية أو المنظومات السابقة عن هذه المنظومات المذكورة، حيث أن المنظومة الدينية كصرح الأزهر كان ألعوبة بيد الأنظمة العسكرية والاستبدادية والتي كانت دائما تبرر لها. فإذا كان النظام يقول بالاشتراكية فإنها تجند منابر هذه الهيئات الدينية للاشتراكية ويصبح الإسلام ربا للاشتراكية، وإذا قالوا بالليبرالية فيسبح بالعكس، وإذا قالوا بالحرب على إسرائيل فإنها تقول بأن الجهاد هو المطلوب، وإذا قالت هذه الأنظمة بالصلح مع إسرائيل فيصبح مشايخ الأزهر يوجهون ويفسرون النصوص الدينية لخدمة هذا الاتجاه ومع السلام. إنه علينا مواجهة كل هذا لتمهيد الطريق لفكر علماني يفصل بين الديني والدنيوي ويحرر الدين من الأنظمة الدكتاتورية المستبدة.
تهافت الفكر الديني
> يلاحظ أيضا أن كتاباتك تنصبّ على نقد الجانب العقلاني من الفكر الديني الإسلامي، ولكنك تتحاشى الدخول في مشروع تفكيك الأبنية اللاواعية واللاعقلانية في هذا الفكر الذي يعاد إنتاجه في بلداننا بلاوعي في السياسة وفي الممارسات الاجتماعية والمنتجة للمعنى، علما أن هذه الظاهرة تغلب على معظم الدارسين والنقاد والمفكرين العرب المعاصرين كما عند زكي نجيب محمود، وأدونيس ومحمد أركون، ومحمد عابد الجابري، وحسن حنفي، وحسين مروة وغيرهم.. هناك طبعا بعض الاستثناءات القليلة جدا منها على سبيل المثال فقط مساهمات تحليلية نفسية نقدية للاوعي الديني والثقافي عند على زيعور، وجورج طرابيشي، وفي السنوات الأخيرة هناك مساهمات تحليلية نفسية نقدية للاوعي الثقافي الديني الإسلامي لمصطفى صفوان وعدنان حب الله وغيرهما قليل جدا ولكنها لا تشكل مجتمعة تيارا فاعلا ومؤثرا في مشهد الفكر العربي وخاصة في الحياة الشعبية داخل المجتمعات العربية.
< أفعل هذا بشكل واع ومتعمد وهذا جزء من المنهج الفلسفي الذي تبنيته في دراساتي وبحوثي التي تركزت على الفكر الذي يبنى حول العقيدة الدينية، هذا الفكر الذي يغلّفها، يدافع عنها وينافحها ويحوّلها إلى نظام منطقي يدّعي التماسك والانسجام. كان هذا مجال اهتماماتي وعملت على نقد وتبيان تهافت وتناقض هذا النوع من الفكر الذي ينشأ حول الظاهرة الدينية. ربما يحتاج تحليل اللامعقول في الظاهرة الدينية إلى نقد من منظور واختصاص آخر من نوع آخر أنا لم أدخل فيه بعمق كالتحليل النفسي مثلا. ومسألة تبديل البنيات العميقة التي يتكلم عنها مفكرو التحليل النفسي هي سيرورة تاريخية طويلة وبعيدة المدى. فلا يجب أن نتهرب من مواجهة الوضع السياسي القائم وتحميل كل المسؤولية للأفراد والشعوب المكونة لهذه المجتمعات. فلا نتهرب من طبيعة الحكم والسيطرة والاستبداد المفروض عليها، وكأننا نقول يجب أن نؤجل هذا كله إلى أن نتمكن من تغيير قاع المجتمع والثقافة السائدة. فنحن أمام سيرورتين بإيقاعين مختلفين كليّة. واحدة بطيئة جدا والأخرى سريعة وآنية. فطرف يرتكز على مقولة “كما تكونوا يولّى عليكم”، والطرف الآخر على مقولة “الناس على دين ملوكها”.
لنأخذ مصطفى كمال أتاتورك ودوره كبطل أنقذ تركيا من السيطرة الاستعمارية، فهو قد تمكن من أن يبدأ ويفتح سيرورات مستمرة منذ ثمانين سنة إلى يومنا هذا، وعمله هذا حفر في عمق الثقافة والمجتمع التركي الإسلامي المهيمن منذ قرون. فقد استطاع هذا القائد أن يغير من مسار هذا المجتمع بقوة الإرادة السياسية التي تبنّاها. فلا نأخذ القاعدة القائلة “كما تكونوا يولّى علكم” بشكل ميكانيكي وهي تعني أنه إذا كنتم رجعيين فالحكام يكونون رجعيين، وإذا كنتم تقدميين فالحكام يكونون تقدميين، وإذا كنتم قبليين فالحكام يكونون قبليين، وإذا كنتم رعايا فالحكام يكونون رعاة وهكذا دواليك.. فهذا تفكير ميكانيكي يختزل ويبرر طرق وأنظمة الحكم وعلاقته بالمحكومين، ويعكس القيادة بشكل عبثي وأوتوماتيكي من القاعدة، علما أن هناك طريقا أخرى وهي أن قمة الهرم وسوء ممارستها السياسية أو الفكرية لها إمكانية تغيير هذا القدر وتغيير القاعدة بتغيير أنظمتها في التسيير والحكم. فالعملية جدلية بين الطرفين وتحل بالنقاش والحوار والانفتاح أكثر.
شارع الجماهير
> ماذا تقول بخصوص ما يسمّى بـ “الربيع العربي”؟
< الجماهير التي خرجت إلى ميادين التحرير في كل من تونس والقاهرة وصنعاء هي جماهير متدينة ولكنها رفعت شعارات تتعلق بالحرية والكرامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وهي قيم تعود في الأصل إلى الثورة الفرنسية. فهذه الجماهير لم تقل في البداية مثلا بأن الإسلام هو الحل. حسب رأيي هناك نضج ووعي داخل الفرد العربي من أن التدين والإيمان الفردي ليسا هما اللذان سيؤسسان لدولة حديثة بالمؤسسات الديمقراطية. وهو نوع من الرفض، منذ البداية، لمشروع الإخوان المسلمين الذين طرحوا أنفسهم كأوصياء على أسلمة هذه الدول. فالإطاحة بمحمد مرسي في مصر كانت من طرف الجماهير التي خرجت إلى الشوارع وطالبت برحيله. لم أر جماهير خرجت إلى الشوارع بهذا الكم الهائل إلا مرة في حياتي وذلك في 10 حزيران 1967 وذلك عندما أقبل جمال عبد الناصر على الاستقالة من منصبه بعد الهزيمة وخرجت جماهير بهذا العدد في كل شوارع مصر وطلبت منه البقاء في منصبه وأعلنت مساندتها له. التدين في مصر شهير ويؤخذ بشكل من اليسر والمرونة من قبل المصريين، وهذه الجماهير المتدينة ترفض الحكم باسم الإسلام، وإقامة دولة إسلامية بمفهوم الإخوان أو غيرهم، وهي قناعة قديمة ومتجذّرة لدى الإنسان المصري منذ قرون، وهي نقطة حاسمة.
> فلماذا لم يطبق هذا المسار على سوريا؟ لماذا تحولت المظاهرات والمطالبة بالتغيير إلى حرب أهلية وأخذت مسار الجهادية؟ ما هو الفرق بين مصر وسوريا حسب رأيكم؟
** أولا في سوريا بقي الحكم في يد الأقلية العلوية المسيطرة على كل أجهزة الدولة والأمن والجيش والاقتصاد. هذه الأقلية كانت لا تشكل أكثر من عشرة بالمائة من الشعب كله وتتصرف في سوريا كأنها مزرعة خاصة تابعة لها. إن تاريخ حكمها ملطّخ بمجازر دموية كمجزرة تدمر ومجزرة 1982. فهذا التراكم الحقدي انفجر مع الثورة ليأخذ الأبعاد التي نشاهدها اليوم. فالنظام المتمثل في الأقلية من الشعب لم يستطع احتواء ومواجهة الأغلبية الشعبية الناقمة والمعارضة له واضطر أن يستعين بحزب الله والميليشيات الشيعية بالعراق وإيران وبعد ذلك بروسيا. ضباط الجيش في سوريا انشقوا، ومقارنة مع مصر فإن الجيش المصري بقي موحدا ومتماسكا. ومهم أن أقول إن الحرب في سوريا لم تكن أهلية، أي أن الأهل لم يتقاتلوا كما حصل في دول أخرى مثل لبنان حيث كانت الطوائف معبأة ضد بعضها. في سوريا لم نشهد اقتتالا بين الدروز والسنة والأكراد. فالحالة السورية شبيهة إلى حد ما بالانتفاضة المسلحة التي حصلت في هنغاريا سنة 1956. أما في العراق وبفعل الاحتلال الأميركي الذي حلّ الدولة دخل البلد في حرب أهلية بين المكوَن الشيعي والسني. أما في الحالة السورية فإن المكوَنات الطائفية لم تتقاتل فيما بينها. المسيحيون يحمون أنفسهم والدروز أيضا يحمون أنفسهم والأكراد لهم أجندة خاصة. عمليا فإن الفاعل الأول هو السلطة وثانيا الانتفاضة المسلحة.
> منذ مدة وأنت تعيش في برلين هاربا من بطش الحرب في سوريا وتشترك في هذا القدر مع الآلاف من السوريين الموجودين هنا في ألمانيا وفي دول أخرى فتحت الأبواب لهم.. الأفق يبدو مبهما وغامضا للجميع، فما هو الحل وكيف ترى المخرج من هذه الحرب والأزمة؟
< الحل السهل غير وارد وغير موجود. إن السوريين الآن لهم أمل فيما ستسفر عنه الانتخابات في الولايات المتحدة الأميركية. بعد رحيل أوباما عن الحكم هناك أمل أن يغير الرئيس الجديد القادم من سياسة الولايات المتحدة تجاه القضية السورية، وعادة ما يحصل هذا. لما جاء أوباما إلى الحكم غيّر من المنهج الذي اتبعه الرئيس السابق بوش الابن وصحح الخراب الذي ارتكبه في العراق. والرئيس الذي سيأتي سيحاول الحسم في القضية السورية وتصحيح الخراب الذي ستتركه سياسة أوباما. إن هذا الأخير تبنى سياسة “لنترك سوريا تنزف”، وهي تستنزف إيران وحزب الله وتستنزف نفسها أيضا وإلى حد ما روسيا. ما يعني أنها تستنزف كل القوى المعادية لسياستها وسياسة الغرب في المنطقة. لقد كان بإمكان أوباما في البداية حلّ المسألة وذلك بالقيام بما قام به الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون في كوسوفو، والذي تدخل بواسطة القوة العسكرية وقام باتفاقية “دايتن” وبالإعلان عن نهاية الحرب وبالحكم على المسؤولين على المجازر أمثال ميلوسفيتش وكراديتش في المحكمة الدولية بلاهي في هولندا.
(عن مجلة “الجديد” العدد 19/ غشت 2016)
حاوره: مولود علاك