كل التوقعات تشير إلى تشتت الوضع السياسي في تونس التي تنافس فيها في انتخابات برلمانية، جرت أمس الأحد، حوالي 15 ألف مرشح على 217 مقعداً، توزعت على أحزاب وائتلافات ومستقلين من اتجاهات سياسية مختلفة.
إلى جانب معضلة الكتل البرلمانية الصغيرة، التي خلّفها هذا الوضع، والتي يرى الخبراء أنها ستعقد الوصول إلى توافق على تشكيلة الحكومة المقبلة، تمرّ البلاد بأزمات اقتصادية واجتماعية مستمرة منذ ثورة 2011. ويمكن الاستدلال من الاستفتاءات الأولية، ومن نتائج الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية، أن الناخب التونسي اختار اللجوء إلى “التصويت العقابي” في وجه النخبة السياسية الحاكمة، التي فشلت في تقديم حلول للأزمات التي تعاني منها البلاد، خاصة في ما يتعلّق بالبطالة والارتفاع الجنوني في الأسعار.
ومن المنتظر أن يحدث المستقلّون، الذين شكّلوا ثلثي القائمات المشاركة، مفاجأة، بحصولهم على عدد كبير من المقاعد. وقد أثار ظهورهم القويّ تخوفاً من قبل الأحزاب التقليدية، بلغ حدّا دعت فيه حركة النهضة، إلى عدم التصويت لهم، معتبرة أن “التصويت للمستقلين تصويت للفوضى”.
وتصعب ظاهرة تعدد الأحزاب عملية إنجاز بقية مراحل المسار الانتخابي، حيث سيتطلّب تشكيل الحكومة توافقاً واسعاً وغالبية 109 أصوات، خاصة مع وجود ملفات حساسة ومشاريع قوانين مطروحة أمام البرلمان للمناقشة، أثارت جدلا طويلا في السابق، وأخرى مستعجلة، يبقى قانون المالية للسنة المقبلة أهمها.
الانتقال السياسي، الذي تقدّم بخطوات كبيرة منذ الثورة، لم يقابله نجاح على نفس المستوى في الانتقال الاقتصادي والاجتماعي، الذي لا يزال يعاني من مشاكل لم تستطع الحكومات المتعاقبة إيجاد حلول لها.
أول خبر سيجده الفائز على طاولته، هو تراجع سعر صرف الدينار التونسي مقابل العملات الأجنبية، بعد انتعاشة في سعر الصرف، أرجعها خبراء اقتصاديون إلى بيع مؤسسة بنكية وشركة تأمين، لمستثمرين أجانب، بلغت عائداتهما 250 مليون دينار، إضافة إلى اقتراض مكثّف أتاح للحكومة فرصة قصيرة أغرقت خلالها السوق بالعملة الأجنبية، أدت إلى رفع سعر صرف الدينار.
ورقة انتخابية وقرار سياسي لا علاقة له بالاقتصاد، رُتب ليسبق بقليل الاستعدادات الانتخابية.
نشوة الانتخابات ستزول قريبا، لتبدأ سكرة الدينار، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الواقع الاقتصادي المأزوم، حيث يتوقّع خبراء ألا تتجاوز نسبة النمو خلال هذا العام نسبة واحد بالمئة، وهي نسبة ضعيفة جدا، لن توفر للدولة أي فرصة لخلق المزيد من فرص العمل، أو فرص الاستثمار.
يضاف إلى ذلك عجز في الميزان التجاري، رافقه ارتفاع في الدين العمومي والدين الأجنبي، حيث شهد العام الحالي مصادقة مجلس النواب على 30 قرضا أجنبيا. ومع بلوغ نسبة التضخم 6.8 بالمئة، يصبح تدهور سعر صرف الدينار واقعا لا يمكن تلافيه.
في أي دولة أخرى ينظر إلى تراجع سعر العملة نظرة إيجابية، يعتبر فيها التراجع آلية شرعية لحماية المؤسسات الاقتصادية في البلد، ويشجع انخفاض سعر العملة من عمليات التصدير، ويقلّل من الواردات.
في بلد مثل تونس، يعاني من ارتفاع كبير للأسعار، الأمر يصبح مختلفا. أيّ ضمانات يمكن أن تقدّمها الحكومة الجديدة لأصحاب الدخل المحدود، في مواجهة انخفاض سعر الصرف، وهي تواجه فاتورة رواتب لموظفي الدولة تستهلك أكثر من ربع الميزانية العامة.
المائدة لن تهبط من السماء، يجب أن تخرج من الأرض. وأيّ مواجهة في المستقبل لن تكون بين حزب أو مجموعة أحزاب تتشارك في الحكم، وبين أحزاب معارضة خارجه. بل ستكون مواجهة من النوع الصعب، بين الأحزاب داخل الحكم وخارجه، من جهة، وبين الشعب، أفرادا وجمعيات مدنية ونقابات، من جهة أخرى. ساحة الجدل والمنازعات والخصومات ستنتقل من داخل البرلمان إلى خارجه، وبالتحديد إلى الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
أسعار البطاطس والموز والبصل، إضافة إلى التشغيل، أهم من الشعارات والمواعظ الدينية، بعد أن أصبحت معركة الديمقراطية والحرية مضمونة، ليس فقط في تونس، ولكن في كل دول المنطقة.
قضي الأمر، لن يكون بالإمكان بعد اليوم توظيف الأفكار العظيمة لتضليل الشعوب.
خلال أيام معدودة، استطاعت صفحة “قاطع الغلاء” التونسية على موقع فيسبوك، أن تجذب أكثر من 900 ألف عضو، في وقت فرغت فيه أحزاب تقليدية من الأعضاء تقريبا. بدأت الصفحة حملتها بالدعوة إلى مقاطعة البصل والبطاطس والموز، لأن سعرها كما ذكرت الصفحة، تجاوز ضعف السعر في باريس ولندن، وقد ينهيها بحملة لمقاطعة رؤوس، لن يضمن أحد أن ينجو منها.
يتخوّف الكثيرون من أن التركيبة الجديدة للبرلمان، ستضعفه وتجعل منه مؤسسة محدودة التأثير. وستشهد قبّته تجاذبات وصعوبات عديدة، يجب تجاوزها للاتفاق على حكومة ترضى عنها الغالبية، ولن يكون مستغربا هذه المرة الجمع بين أربعة أو خمسة أحزاب لتشكيل حكومة جديدة، ضعيفة ومهتزة وعرضة للسقوط في كل لحظة.. فكيف لحكومة مثل هذه أن تحكم؟
علي قاسم
كاتب سوري مقيم في تونس