النقد المسرحي المغربي ورهان تجدد أسئلة النقد “خالد أمين نموذجا”

اعتاد الباحثون تقسيم مراحل النقد المسرحي بالمغرب إلى ثلاثة مراحل: المرحلة الجنينية، المرحلة التأسيسية، مرحلة الترشيد العلمي، حيث كانت المرحلة الأولى مرحلة “بدايات النقد المسرحي الشفوي أو المكتوب في صحافة في عهد الاستعمار، وكانت المرحلة التالية مرحلة بروز رواد أسسوا المسرح في المغرب تأسيسا علميا أمثال حسن لمنيعي، وحسن لمريني، ومحمد الكغاط”، أما المرحلة الأخيرة فقد تميزت بتحول كبير في الممارسة النقدية المسرحية من خلال تطعيمها بمناهج التحليل العلمي من جهة، وانفتاحها على المسرح العالمي والنظريات والمناهج العالمية من جهة أخرى، حيث كان من الطبيعي بروز نقاد جدد في الساحة النقدية المسرحية متمكنين من آليات تحليل الخطاب المسرحي وجمالياته عبر تمرسهم في البحث العلمي الجامعي والأكاديمي الذي كان نقطة انطلاقة الممارسة المسرحية الجادة والمسلحة بآليات جديدة تأليفا وإخراجا وتمثيلا.
وهكذا ظهرت العديد من الدراسات التي تناولت موضوع المسرح في العصر الحديث وتناولت جوانبه المختلفة والمتعددة، حيث بدأنا نستشعر في نسيج تفكيرنا النقدي مؤخرا توجه الخطاب النقدي المسرحي نحو مفاهيم جديدة من صنف آخر، من خلال انفتاح الخطاب المسرحي على توجهات معرفية جديدة ومتنوعة. إن تصفح ما كتب من دراسات نقدية وأبحاث أكاديمية حول المسرح يجعلنا لا نتردد في الحكم على أن هذه التراكمات كانت وراء التحولات التي عرفتها الحركة المسرحية في المغرب، وهي دراسات كانت ولا تزال من العوامل التي ساعدت على معرفة تجارب مسرحية عربية أو عالمية، حفزت الممارسين للمسرح والكتابة الدرامية على نقد الذات من جهة ونقد الآخر من جهة أخرى، ولعل مشروع خالد أمين من أهم المنجزات النقدية التي أبان فيها الناقد عن وعيه وتمثله لمرجعيات وأطروحات النقد الثقافي في دراسة المنجز المسرحي الغربي والعربي، مستعيرا أجهزته المفاهيمية من عمق الثقافة الغربية مطوعا إياها لما يستجيب لخصوصية النصوص والأنساق التي يهدف إلى استنطاقها، حيث تعد كتاباته حدثا ثقافيا وفكريا متميزا مؤسسا على تنوع معرفي ومنهجي رصين، فهي تتسم بعدة مميزات جعلتها تجربة رائدة في إطار النقد المسرحي المغربي، وذلك من حيث إسهامها في بلورة مشروع ثقافي جديد يروم مساءلة المسرح الغربي وتفكيك أطروحاته من جهة، وإعادة النظر في المسرح العربي والمغربي من جهة أخرى.
وفي هذا الإطار قدم خالد أمين للساحة النقدية المغربية أهم النظريات التي أدت دورا أساسيا في قلب المفاهيم المختلفة التي تحكمت في مسار المسرح الغربي، وخلخلة المسلمات المؤطرة للفعل المسرحي الذي بات يتأرجح بين الداخل والخارج، والأنا والآخر، والمستعمر والمستعمر، والاحتكاك بالثقافة العالمية من خلال الترجمة وتفاعل الايجابي المباشر والغير المباشر، حيث كان الخطاب النقدي عند خالد أمين مسكونا بهاجس السؤال وإعادة النظر في العديد من المفاهيم والمسلمات التي كانت رائجة بشكل عام في المسرح العالمي والعربي/المغربي على حد سواء. والمتتبع لمشروع خالد أمين يلحظ فيه مبدأ الثبات المنهجي بالإضافة إلى المرونة والانفتاح على نظريات ومفاهيم إجرائية متعددة ومتنوعة، تنم عن ثقافته الموسوعية ومدى إطلاعه على النظريات المعاصرة التي تسعى إلى تفكيك وتقويض التمركز الثقافي الغربي، بالإضافة إلى انفتاحه على الثقافات المسرحية المختلفة، حيث تأثر بأطروحات المسرحيين الغربيين أمثال (بريخت وأنطونان أرطو وبيكيت وباربا) وغيرهم ممن سعوا إلى تفكيك الثقافة الغربية وتوجيه أنظارها إلى الثقافات المسرحية الأخرى، فــ”منذ إصداره لكتابه الأول ما بعد بريشت الذي دشن به خالد أمين انخراطه العميق والوازن في الدراسات المسرحية عامة والمغربية خاصة وهو يبلور مشروعا نقديا مفتوحا على آفاق معرفية جديدة بوأه مكانة علمية متميزة في المشهد النقدي المسرحي وطنيا وعربيا ودوليا”.
إن المتأمل لأعماله النقدية يلمس مبدأ التناسلية والنمو بالإضافة إلى مبدأ الحوارية والتبادل بين آرائه واطروحاته، حيث يرى حسن اليوسفي في مقدمة الكتاب (المسرح ودراسات الفرجة)، أن انفتاح مشروع خالد أمين جعله ينخرط في مرحلة جديدة قوامها إعادة النظر في الترسانة النقدية المستعملة سلفا في كتابه (الفن المسرحي وأسطورة الأصل)، واقتراح مشروع آخر في كتابه (المسرح ودراسات الفرجة) “من خلال تأسيس مفاهيم ثرية ومقولات جديدة. وبلورة خطاب نظري غني بالمفاهيم الجديدة في المجال النقدي من قبيل: “الهجنة المسرحية، المثاقفة المسرحية، مابعد الدراما، وتناسج الثقافات الفرجوية، ويقوم بأجرأتها من اجل صياغة مقاربة جديدة ومغايرة في السياقين العربي والمغربي”. وعليه يتميز مشروع خالد أمين بالتنوع المعرفي والمنهجي وهو تنوع يوحد بين عناصر ومقومات البحث لديه، كما يوظف مناهج مختلفة بالشكل الذي يضيف إلى معنى الممارسة النقدية وفرة في المصطلحات والمفاهيم وثراء في الأدوات، حيث “ينهض خالد أمين على قراءة واعية للتنظيرات المسرحية المغربية في علاقتها بالممارسة الركحية وكذا في علاقتها بما أفرزته التنطيرات الغربية من صيغ فنية، اعتمادا على البحث المخبري الذي يراعي غاية المسرح وتطور أساليبه، أي تجدد نظرياته بفعل صيرورة التفكيك وإعادة البناء حسب متطلبات وحاجيات المرحلة”. إن رؤيته النقدية قائمة على الجدلية بين العام والخاص، والعلاقة بين المحلي والكوني، كما أفصحت تجربته عن مدى وعيه وسعة إطلاعه على مختلف تضاريس العمل الدرامي على المستوى العالمي وعلى المستوى المحلي، كما عبرت اطروحاته عن مدى إلمامه الواسع بمكونات العمل المسرحي وشروط قيامه. تظهر كتابات خالد أمين في تشكيلة نظرية واحدة وفي نسق نظري متكامل، يمكن أن نشير من خلال الملاحظات التالية إلى بعض تجليات المشروعه النقدي: ـ
يساير باستمرار كل الممارسات والاتجاهات المسرحية سواء الغربية أو العربية أو المغربية، وهذا ما جعل مشروعه النقدي متجددا ومتطورا. ـ تشكل جميع كتاباته حلقة متسلسلة ومتواصلة يطبعها الكثير من الانسجام والتكامل هدفها تحقيق ثقافة مسرحية موسوعية يربط فيها النظري بالتطبيقي والنص بالعرض والمحلي بالعالمي.ـ لا يقتصر خالد أمين على طرح مواضيع ومناقشتها بل يتجاوز ذلك إلى تقديم اقتراحات تساهم في عملية تطوير المسرح، وضرورة تكثيف جهود المسرحيين العرب وتبادل الخبرات فيما بينهم ومناقشة المشاكل وإيجاد الحلول، يقول: “حيث علينا أن ندرك جميعا إن مستقبل المسرح المغربي رهين بالتفاعل الايجابي بين الفاعلين المسرحيين من مختلف الاجيال والدروب، وذلك التفاعل هو السبيل الأوحد للمصالحة مع الجسد المسرحي والارتقاء به، والتنظير لهذا المسرح لا يمكن أن يتأسس إلا من خلال تقعيد الأسس المهنية والانفتاح على الجامعة بوحدات للبحث فيها، ومختبرات المسرحية وأبحاثها وأطاريحها التي تشكل ذاكرة المسرح المغربي بحق، لا يمكن ان يستقيم هذا المسرح بتنضيراته وانجازاته في غياب علاقته تفاعلية بالجامعة المنفتحة والفاعلة”.
يمكن أن نلخص اشتغال خالد أمين في مسارين متشابهين في العمق رغم اختلافهما في الظاهر، ولكن قبل الحديث عن هذين المسارين لابد أن نتحدث عن الموقع الذي إنطلق منه وهو تحديدا موقع المابينية. إلى جانب بحثه الأكاديمي ينتمي الناقد إلى حقل الدراسات الإنجليزية، وهذا راجع لطبيعة عمله كأستاذ باحث فيها، بيد أن عشقه للمسرح المغربي ورغبته في المساهمة في النهوض بأحواله جعلا الناقد يركز بحثه في الاشتغال على المسرح بلغة شكسبير. فمنذ أن التحق بجامعة “إسكس” ببريطانيا سنة 1990 بهدف الدراسات العليا، توجه خالد امين بسؤال (لروجر هاورد) رئيس قسم المسرح في تلك الجامعة العريقة (ماذا عن المسرح المغربي؟)، حينها أدرك أنه من واجبه الإشتغال على الذات في حدود علاقتها بآخرها، فكانت الإنطلاقة من شكسبير في المسرح المغربي رفقة حسن المنيعي والأستاذ محمد العميري، وحاول قدر الإمكان أن يساهم في مد جسور التواصل بين الذات والآخر في إطار تفاعل إيجابي يسمح بالتعرف على الذات واكتشاف الآخر. لذلك أصبح خالد أمين يكتب بالإنجليزية حول موضوعات المسرح المغربي، وبالعربية حول ما يروج في الساحة الأنجلو أمريكية تفاديا للوساطات المشرقية. أما الأسباب فكانت كثيرة ولعل أبرزها هو شبه غياب المسرح المغاربي من الكتابات الإنجليزية المركزة على المشرق العربي فقط. ومن هنا كان إحساسه بالمسؤولية الجسيمة والدور المنوط الذي ألحق به، والمتجلي في إحياء المسرح المغربي الذي ظل غائبا في الأوساط المسرحية الغربية من خلال التعريف به وبمختلف مظاهره الفرجوية عن طريق الوسيط الترجمي.
ينتمي إذن النقد المسرحي عند خالد أمين ضمن النقد الأكاديمي “وهو نقد تحليلي يروم الموضوعية ويسعى إلى تفكيك وفهم الظواهر المسرحية، ويتجاوز العملية النقدية السطحية التي تروم التعليق والتلخيص وتتأسس على الضبط المنهجي المتماسك، وتستند على أدوات منهجية وإجرائية رصينة”، فإن هذا النقد أرسى ممارسة نقدية جديدة تأسست في رحاب الجامعة المغربية نظرا لانفتاح المسرح المغربي الجامعي على المناهج الغربية المحكومة بخصوصياتها العلمية وطابعها الموضوعي.1-أسس ومبادئ مشروع خالد أمينإن المتأمل والمتفحص لكتابات خالد أمين النقدية يتضح له أنها تقوم على مجموعة من المبادئ والأسس والمميزات ويمكن أن نوجز هذه المبادئ في مبدأين:أ- مبدأ التناسل والنمو:عندما نستعرض مؤلفات خالد أمين فإننا نلاحظ أنها تتخذ في مسارها وثيرة منتظمة ومتناسلة حيث نجد مؤلفاته ظهرت على الشكل التالي:
ـ ما بعد برشت، منشورات السندي، مكناس، 1996 المسرح المغربي بين الشرق والغرب Moroccan Theatre -Between East and West -باللغة الأنجليزية- منشورات نادي الكتاب، كلية الآداب تطوان، 2000 – الفن المسرحي وأسطورة الأصل ، منشورات كلية الآداب تطوان، 2002 – الفرجة بين المسرح والأنثروبولوجيا، منشورات مجموعة البحث في المسرح والدراما التابعة لجامعة عبد مالك السعدي، 2002 ـ المرتجلة في المسرح الخطاب والمكونات، منشورات مجموعة البحث في المسرح والدراما التابعة لجامعة عبد المالك السعدي، تطوان، 2003 – مساحات الصمت -غواية المابينية في متخيلنا المسرحي-، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 2004 – المسرح المغربي بين التنظير والمهنية، منشورات مجموعة البحث في المسرح والدراما التابعة لجامعة عبد المالك السعدي، بتطوان، 2004 – خالد امين، دراسات الفرجة، ط.1، منشورات المركز الدولى لدراسات الفرجة، طنجة، 2011 والهدف من هذا الجرد توضيح مبدأ التناسل الذي يتسم به مشروعه، والمقصود بالتناسل هنا هو خروج أعمال المؤلف الواحدة من صلب الأخرى بما يعطيها نوعا من الوحدة والتكامل، بدءا بمفهوم الهجنة المسرحية الذي شكل موضوع الاشتغال في عمله (الفن المسرحي وأسطورة الأصل) و(مساحات الصمت وغواية المابينية)، ثم إعادة النظر في هذا المشروع مبرزا بعض نواقصه ومقترحا في الآن نفسه مشروعا جديدا ينطلق من رؤية جديدة ومن زاوية نظر مختلفة في كتابه (المسرح ودراسات الفرجة).
يمكن القول إن مؤلفات خالد أمين تقوم على فرضية مركزية كبرى هي نواة النظرية التي يعمل عليها مشروعه في مختلف مراحله من خلال البرهنة والتدليل عليها، بمناهج ومفاهيم متنوعة ومقاربات متعددة، ويتضمنها هاجسا واحدا رغم تنوع الأسئلة وتعدد القضايا والمرجعيات بكل ما تقتضيه الأسئلة من جرأة في الطرح ودقة في التناول، كما توضح تفاعل الناقد مع “نظريات غربية حديثة تحولت لديه إلى أداة تفكيك وتحليل، كما مكنته من تأسيس خطاب نقدي يقوم على الحوار مع هذه النظريات وتطويع مفاهيمها في جل كتاباته”. وبالتالي تدل قائمة الكتب السابقة على تنوع اهتمامات خالد أمين ونشاطه الفكري الخلاق، ولقد صدرت رؤيته النقدية وعمله المعرفي عن تصور يرفض النظريات الكلاسيكية أي تلك التي ترى في الأصل الغربي الأوروبي مصدر إشعاع، يغمر بضيائه الثقافات الأخرى. إن مشروع خالد أمين يقوم على نسف فرضية المركزية وتفكيك أسطورة الأصل الدرامي، وتعد هذه الفكرة نواة عمله النقدي، كما يقوم مشروعه على فرضيات فرعية صغرى كروافد تعزز وتغذي الرافد الأصلي وبهذا تعطي هذه الفرضيات الفرعية للمشروع إمكانية النمو والتوسع واستيعاب مختلف الخطابات والمقولات والمفاهيم بالإضافة إلى الانفتاح على ممارسات فكرية ونقدية مختلفة عالمية ومحلية.ب- مبدأي التركيب والتوليف:يتسم مشروع خالد أمين بالطابع المركب سواء على مستوى رصد الظواهر المختلفة التي يتم الاشتغال عليها، أو على مستوى المناهج والنظريات والمفاهيم التي يتعامل معها، ومن هنا يتضح البعد التركيبي المرفق بالسمات التوليفية في أعماله النقدية حيث تظل كتابات خالد أمين عارفة بشروطها العلمية الواعية ومراعية لطبيعة الإرغامات التي يتطلبها التركيب بين مرجعيات مختلفة ومتباينة، خاصة وأن الناقد ينهل من خلفيات متعددة ومتنوعة ويستعير أجهزته المفاهيمية من المنجز الثقافي الغربي، فهو ملم بالنسق الثقافي الغربي وبنياته الذهنية وطبيعة تركيبته السياسية والاقتصادية والثقافية.كما يستند الناقد إلى معرفة دقيقة بالنظريات ومناهج التحليل الغربية الجديدة التي كشفت فضيحة العقل الغربي في مرحلة الحداثة وبداية التفكير في دول العالم الثالث وعلاقة المستعمر بالمستعمر وعلاقة الذات بالآخر، والنتيجة هي إعادة قراءة المنجز المسرحي وفق هذه الآليات والأطروحات المابعد حداثية والمابعد استعمارية، والبحث عن الأنساق الثقافية الثاوية خلف الخطاب الغربي الأديولوجي الذي يعمل على إقصاء الثقافات الفرجوية المنتجة والحكم عليها بالدونية واللاعقلانية.لقد استطاع خالد أمين بفعل بصيرته النافذة وعقله التركيبي البحث في الأنساق المضمرة التي تؤطر علاقة الأنا بالآخر، المستعمر بالمستعمر، الشرق بالغرب، الداخل والخارج، وهي ثنائيات تترد في مختلف كتاباته، وتنم عن سعة الرؤية والسعي إلى تجاوز هذه الثنائيات التي يرسخها الفكر الغربي المهيمن.إن كافة كتابات خالد أمين النقدية تفصح بجلاء عن ميله إلى تطبيق أجهزة مفاهيمية مختلفة تتبادل عناصرها التأثيرات بشكل جدلي، حيث جاء بأدوات نقدية ما بعد حداثية ذات مولد غربي وبحث بها في المسرح المغربي، واستطاع أن يستقدم جملة من المفاهيم والنظريات والمناهج العلمية محاولا تطبيقها واستثمارها عمليا في قراءة المنجز المسرحي الغربي والعربي /المغربي.2- خالد أمين ومرجعية النقد الثقافي:ارتكز خالد أمين على أدوات إجرائية ومفاهيم نقدية وآليات منهجية تفك مغالق الفعل المسرحي، وتقبض في نفس الوقت على جوهر الممارسة الدرامية في الثقافات العالمية والمحلية، وهكذا تتعالق المعطيات الفلسفية والخطابات الفكرية في تشكيل وصوغ الخطاب النقدي عنده، وبالتالي تجاوز الناقد المقاربات السطحية للظاهرة المسرحية وصاغ تصورا منهجيا يحاصر الفعل المسرحي في أبعاده الشاملة والمختلفة.
حاول خالد أمين الانفلات من دوامة المناهج النقدية التقليدية الناهضة على تصور تبسيطي الذي أدى في “المراحل الأولى من تاريخ التجربة النقدية إلى انزلاق النقد المسرحي المغربي إلى التعميم الذي يعكس فقرا في الثقافة المسرحية”. اكتسب النقد المسرحي خصوصيته وملامحه في خطابات خالد أمين من خلال الارتباط بنظريات حداثية وما بعد حداثية، والانفتاح على التجربة المسرحية الغربية، والنزوع إلى ابتكار صيغة مسرحية جديدة منفتحة على ثقافات الفرجوية المختلفة والمتنوعة. والجدير بالذكر أن “دينامية الحركة النقدية بالمغرب انسلخت عن ثوبها التقليدي لتعانق الحداثة النقدية”، وهكذا تشكلت الحركة النقدية عند خالد أمين على ثوابت أهمها: – الانفتاح على مكونات الفعل المسرحي وفهم آليات اشتغاله ومكوناته وأنساقه الداخلية. – الارتكاز على وعي قائم على معرفة عميقة بالاتجاهات المسرحية وخاصة النظرية البريختية، وارث ارطو وانفتاحه على الثقافات الفرجوية غير أوروبية، مما أدى إلى إثراء الحقل الاصطلاحي في كتاباته، بالإضافة إلى انفتاحه على مقولات نقاد ما بعد الاستعمار خاصة ادوارد سعيد، فرانز فانون، هومي بابا، غياتري سبيفاك وغيرهم. – انتقاء مفاهيم وتصورات جديدة خاصة أطروحات النقد الثقافي وفلسفة الاختلاف، محاولا معالجة وضعية المسرح في ضوء الإشكالات الكبرى منها: الأنا والأخر، الاستعمار وما بعد الاستعمار، الشرق والغرب، الهجنة والأصل، وغير ذلك من الأجهزة المفاهيمية التي تنم عن انفتاح الناقد على الاتجاهات المابعد حداثية والمابعد استعمارية، والإطلاع على ما أفرزته الثقافة الغربية من تصورات ومقولات.
إن الخطاب النقدي عند خالد أمين يتأسس على رؤية تحليلية تركيبية تروم الموضوعية، وتسعى إلى تفكيك وفهم الظواهر المسرحية عبر مستوياتها المختلفة والمتعددة النصية والمرجعية، وقد نتج عن انفتاحه على المناهج النقدية والنظريات المختلفة:أولا: محاولة صوغ منهج يراعي خصوصية المسرح العربي والمغربي، مما أدى إلى الارتقاء بالعملية النقدية من التلخيص إلى التفكيك والتقويض.ثانيا: مساءلة المسرح الغربي من جهة ومساءلة واقع المسرح العربي والمغربي من جهة أخرى. وهكذا أرسى خالد أمين ممارسة نقدية واعية تقوم على التجديد وإماطة اللثام عن الخطاب المسرحي الغربي والمغربي، حيث قام الناقد بمحاسبة الأخر ومحاسبة الذات لأن المسؤولية لا تقع فقط على الأخر الغربي بل تقع كذلك على الذات. وبالتالي يعد خطاب النقد الثقافي وممارسته منهجيا من الأمور المعلنة في مشروع خالد أمين، إذ يتيح هذا النشاط إمكانية تغيير زاوية النظر إلى المسرح من وصفه شكلا جماليا إلى اعتباره حادثة ثقافية وسياسية، وهكذا “فإن الخطاب المسرحي استطاع أن يمتلك مقومات الكتابة الناضجة من خلال الانفتاح على الاتجاهات والطرائق المنهجية الغربية من جهة، وعبر البحث المستمر عن ملامح الخصوصية المحلية من جهة أخرى”.انفتح الناقد على نظريات عديدة خاصة اتجاه النقد الثقافي الذي يذهب إلى أبعد مما ذهبت إليه البنيوية حين نظرت إلى النص من الداخل وركزت على وحداته وأنساقه الداخلية، منصرفة عن باقي الجوانب الأخرى التي شكلت بنية النص، لذلك حاولت هذه النظريات توسيع أفاق النص الأدبي، كما استفاد من استراتيجية التفكيك وما تقدمه من مفاهيم في دراسة النصوص الأدبية، فالقراءة التفكيكية “تبحث عن اللبنة القلقة غير المستقرة، تحركها حتى ينهار البنيان من أساسه ويعاد تركيبه من جديد، وفي كل عملية هدم وبناء يتغير مركز النص، وتكتسب العناصر المقهورة أهمية جديدة، يحددها أفق القارىء الجديد، وهكذا يصبح ما هو هامشي مركزيا، وما هو غير جوهري جوهريا”.
كما أتاح له هذا الاتجاه خلخلة جملة من الوثوقيات التي روج لها الفكر الغربي في سبيل إضفاء طابع الكونية على تقاليده الفرجوية، واحتواء وإقبار ما عداه من الثقافات الفرجوية الأخرى، حيث نجد أن كتاباته ظلت وفية لنفس الخلفيات الفكرية والمعرفية التي تشربها الناقد خاصة النقد الثقافي والمفاهيم التي تشتغل تحت مظلته: ما بعد الاستعمار، الاستشراق، مفهوم الهجنة، المركزية الغربية، التابع، ما بعد الحداثة وغيرها من المفاهيم التي تنسجم وطبيعة المناهج النقدية والنظريات التي يتوسل بها الباحث في قراءة المنجز المسرحي. إن هذا المنظور الذي ينطلق منه الناقد كشف عن زيف الفرضيات الاستعمارية المتمركزة فنيا حول ذاتها، عبر والوعي الشديد بالسياق الثقافي المحلي في تكوين التفكير، وفهم النصوص الإبداعية، وفي ذلك إعادة الاعتبار للذات المحلية التي شيئت، ونظر إليها كذات لا فنية، وإعادة النظر في المركزية المسرحية الغربية الرافضة لفكرة الاختلاف الفني. وبالتالي قام خالد أمين بتفكيك أسطورة الأصل من خلال العودة إلى الثقافات الفرجوية العربية الإسلامية من قبيل: طقس التعزية، خيال الظل…، والتقاليد الفرجوية المغربية: الحلقة، البساط، سلطان الطلبة…، وهي أشكال قام الآخر الغربي بحجبها وطمسها وإخراس صوتها، بفعل لقاء الذات العربية بالآخر الغربي، والانسياق وراء المؤثر الغربي، وهو انسياق فرض بالقوة لاسيما عندما تعثرت عمليات التحديث في مجتمعاتنا العربية الحديثة.
وفي ظل هيمنة النموذج الغربي نزعت العديد من التجارب المسرحية العربية نحو تأصيل الممارسة المسرحية من خلال ربطها بجذورها التراثية، وانفتاحها على الظواهر والأشكال الفرجوية التي يزخر بها المجتمع العربي مثل: السامر والحكواتي والمداح وخيال الظل… وغير ذلك من الأشكال الفرجوية، وفي هذا الصدد كشف خالد أمين عن واقع المسرح المغربي الذي يتأرجح بين الأنا والآخر، الشرق والغرب، المستعمر والمستعمر، وموزع بين موقفين: موقف يستلهم من الجماليات الفرجوية التراثية ويرفض كل ما يمت للآخر بصلة، وموقف آخر يسعى إلى تبني النموذج المسرحي الوافد من الغرب، في حين طرح الناقد مفهوم الهجنة للمصالحة مع وجدان الفرجة المغربية، انطلاقا من الحوار الإيجابي بين الأنا والآخر، الداخل والخارج، المستعمر والمستعمر، لأن تحديث الفرجة المغربية لا يمكن أن يتحقق في فعل الانغلاق والانطواء على التراث، واستحضاره بوصفه نموذجا مقاوما ومضادا للنموذج المسرحي الغربي، ولا في تبني الممارسة المسرحية الغربية وإعادة إنتاج فكرة الأصل، بل عن طريق إنتاج مسرح يقوم على أساس الهجنة من خلال الاستلهام الجماليات الفرجوية التراثية من جهة، والاستفادة من النماذج المسرحية الغربية من جهة أخرى لإنتاج نموذج جديد يحمل البصمة المحلية ويسمح بالتفاوض مع الآخر المستعمر.
إن تحديث الفرجة المغربية من منظور الناقد لا يمكن أن يتحقق في فعل الانغلاق والانطواء على التراث، واستحضاره بوصفه نموذجا مقاوما ومضادا للنموذج المسرحي الغربي، ولا في تبني الممارسة المسرحية الغربية وإعادة إنتاج فكرة الأصل، إن التحديث لا يمكن أن يتم دوما عن طريق اجترار أساليب جاهزة سبق التعامل معها تنظيرا وممارسة، بل عن طريق إنتاج مسرح يقوم على أساس الهجنة من خلال الاستلهام الجماليات الفرجوية التراثية من جهة، والاستفادة من النماذج المسرحية الغربية من جهة أخرى لإنتاج نموذج جديد يحمل البصمة المحلية ويسمح بالتفاوض مع الآخر المستعمر.
طرح الناقد مفهوم الهجنة للمصالحة مع وجدان الفرجة المغربية، انطلاقا من الحوار الإيجابي بين الأنا والآخر، الداخل والخارج، المستعمر والمستعمر، لذا يدعو خالد أمين إلى عدم الارتكاز على ثقافة ماضوية، ولا الانكفاء، لأن إنكار الثقافة الغربية لا يشكل بحد ذاته ثقافة، والرقص المسعور حول التراث المفقود، كما يذكرنا المفكر المغربي (عبد الله العروي) لن يجعله ينبعث من رماده فالمطلوب أن نتواجد وأن يكون لنا حضور كوني، ولا ينبغي أن نكتفي بذلك، بل علينا أن نصحح السرد الأحادي الذي ابتدعه الغرب، وأراده أن يكون سردا كونيا لصالحه، ولكل الأزمنة. لهذا أضحى المسرح يتأرجح بين الأنية والغيرية والهوية والاختلاف، وفي الحد “الفاصل بين السردين: السرد الغربي والسرد المحلي/ السرد العربي الاسلامي، هكذا تسوق المسرح المغربي مع شرط الهجنة”، حيث يؤكد خالد أمين على ضرورة التهجين بين الفكر الأوروبي والذات العربية، والتحرر من الفكر الماضوي السكوني واستقبال الآخر بروح التكامل.
استطاع خالد أمين أن يستفيد من أطروحات النقد الثقافي ونظرية ما بعد الاستعمار في تحليله للظاهرة المسرحية، كما استمد مفاهيمه ومقولاته من أطروحات النقاد ما بعد الاستعمار، ولعل أبرزهم ادوارد سعيد، فرانز فانون، هومي بابا، غياتر سبيفاك…، وهذه الخاصية تميز جميع كتابات خالد أمين النقدية، أي قدرته على التركيب بين مناهج ومفاهيم وأطروحات متنوعة ومتعددة، التي أسعفته في الكشف عن الأنساق المضمرة التي تحكمت في العلاقة بين الشرق والغرب، الأنا والآخر، المستعمر والمستعمر، الداخل والخارج.
*عن الحوار المتمدن

المراجع:

– حسن المنيعي، النقد المسرحي العربي (إطلالة على بدايته وتطوره)، المركز الدولي لدراسات الفرجة، ط.1،2011.
– حسن يوسفي، المسرح والانثربوولجيا، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، ط.1، نوفمبر،2002.
– حسن يوسفي، المسرح والفرجات، المركز الدولي لدراسات الفرجة، ط.1، اكتوبر، 2012. – خالد أمين، مساحات الصمت غواية المابينية في المتخيل المسرحي، منشورات اتحاد كتاب العرب، ط.1، 2004.
– خالد أمين، “الفن المسرحي واسطورة الاصل”، منشورات الطوبريس، ط.1، 2002.
– خالد أمين، الفن المسرحي وأسطورة الأصل، منشورات الطوبريس، ط.1، 2002. خالد أمين يتحدث عن مساراته، مجلة مغرس، بيان اليوم
– نشر في بيان اليوم يوم 06 – 06 – 2011 .
– خالد امين، المسرح ودراسات الفرجة، منشورات المركز الدولى لدراسات الفرجة، ط.1، طنجة، 2011.
– عبد الرحمان بن زيدان، خطاب التجريب في المسرح المغربي، مطبعة ساندي، ط.1، مكناس،1997.
– عبد العزيز حمودة ، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1998.
– محمد محبوب، المسرح المغربي اسئلة ورهانات، ط.1، 2011
– عبد الكبير لخطيبي، النقد المزدوج، منشورات الجمل، ط.1، بيروت، 2009 – هومي بابا، “موقع الثقافة”، ترجمة: ثائر ديب، ط.1، المركز الثقافي العربي، الدار بيضاء، 2006

بقلم: فاطمة اكنفر

Related posts

Top