من الواضح، وحسب ما يشير إليه أحد الدارسين، في أنه لا يمكن أن نفهم تصور مغاربة القرن الماضي لموقع بلدهم على وجه الأرض، إذا لم نعرف بالتدقيق اتجاه الطرق المتبعة في الأسفار، وتلك الطرق هي في الحقيقة منذ قرون، أرضية وسماوية في آن واحد، طرق المراحل ومنازل النجوم. من هنا يمكن فهم اعتماد المغرب عاصمتين، تعتبران رأسي طريقين اثنين: طريق يربط المغرب بمنزل الوحي، وطلب العلم، والحج. وطريق ثان يربطه بالعمق الإفريقي. الأول جنوبي شرقي، والثاني جنوبي غربي، الأول ينتهي إلى فاس، والثاني إلى مراكش.
فالخريطة كما ترى اليوم، وكما فرضتها الصناعة الخارطوغرافية الغربية تطمس هذه الحقيقة، لهذا يجب أن نضع الخريطة موضع وجهة أخرى، كانت عادية في القرون السالفة. وجهة تحمل في الحقيقة مغزى تاريخنا العميق. فالخريطة الحالية تطمس بروز وأصالة الطريق الثاني، المنغرس في العمق الإفريقي. جاعلة منه طريقا متفرعا عن الأول، في حين أنه مواز له، مضاه له في التأثير على سكان المغرب واقتصادياته.
في هذه الدراسة البحثية، يحاول الدكتور المؤرخ محمد براص إبراز قيمة الجغرافية التاريخية في رصد تاريخ العلاقات بين الدول وخاصة بالنسبة للمغرب، الذي تؤطره أواصر قوية بمحيطه الإفريقي.
بالرغم من هذا الضغط الأوربي على المغرب فإن علاقاته بعمقه الإفريقي لم تنقطع قط، إذ استمر ذلك التواصل الثقافي والعلمي ما بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء
شهدت إفريقيا مع مطلع القرن السابع عشر امتدادا للحركة الاستعمارية الأوربية، حيث بدأت العديد من الدول الأوربية تعمل على وضع قدمها بإفريقيا بشكل أعمق، مستغلة طبيعة الصراعات المحلية القائمة. ومستفيدة في الوقت نفسه من قوتها الصناعية، التي بلغت مداها مع القرن التاسع عشر. فبالرغم من وصول البرتغال إلى القارة الأفريقية منذ القرن الخامس عشر، فإن اكتشاف أفريقيا الداخلية، واستعمارها تأخر حتى القرن التاسع عشر. فاقتصرت معرفة الدول الأوروبية على المناطق الشمالية وبعض المناطق الشرقية والغربية من القارة، فضلا عن قوة المغرب في العهود السابقة، والتي حالت دون تقدم تلك القوى نحو العمق الإفريقي.
هذا فضلا على كون الساحل الغربي منها، والذي يعتبر أقرب سواحل أفريقيا لأوروبا، بالرغم من اكتشافه في أواخر القرن الخامس عشر، فإن استخدامه للوصول إلى داخل القارة تأخر حوالي أربعة قرون. وسبب ذلك أن هذا الساحل تقل فيه المناطق التي تصلح للوثوب نحو داخل القارة. وأحسن هذه المواثب الجزر التي تقع قرب السواحل، ولكنها قليلة القيمة، لأنها تقابل الصحراء في اليابس الأفريقي.كما ظل تأثير أوروبا في إفريقيا، حتى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، تأثيرا سطحيا بدرجة نسبية.
ولم تكن ثمة أي محاولة للاستيطان الدائم،إلا في جنوب إفريقيا وبعض المزارع البرتغالية المتفرقة. وقد حل الأفراد المشتغلون بالتجارة محل تجار الرقيق وأصبحوا يمارسون تجارتهم المشروعة، وأقيمت الإرساليات المسيحية، وعددا محدودا من المحطات المنعزلة. غير أن هذا النشاط التجاري والإرساليات لم يكن لها الطابع الرسمي، وكان أغلب هذا النشاط مؤقتا،إذ أن رؤوس الأموال المستثمرة كانت ضئيلة.
كما اعتمدت على تعاون ومساندة الشعوب الأفريقية المهادنة. حيث كان للمغرب دور قوي في عملية الوساطة التجارية، التي ربطت الشمال بالجنوب. والظاهرة الوحيدة التي شدت عن هذه القاعدة، تمثلت في البرتغاليين، الذين لم يستسيغوا هزيمتهم القوية في معركة وادي المخازن، وظلوا يتحينون الفرص للولوج إلى إفريقيا بجميع الوسائل والأشكال. مدعومين بتوجهات الكنيسة التي ظلت تردد مقولاتها في ضرورة تمسيح القارة بشكل عام. وبهذا ركزت الدول الأوروبية نشاطها الاستعماري في القرن التاسع عشر نحو القارة الأفريقية، ومنطقة الشرق الأقصى، بينما كان هذا النشاط مركزا فيما مضى نحو أمريكا وكندا وجزر الهند الشرقية. فإلى حدود النصف الأول من القرن 19، لم تكن قد تبلورت وظهرت الدوافع الجامحة التي ظهرت فيما بعد خلال الجزء الأخير من هذا القرن، والتي أدت إلى التكالب الاستعماري على هذه القارة.
فالمرحلة الأولى من الموجة الاستعمارية، تمثلت في اتخاذ عدد من الدول الأوربية نقاط ارتكاز لها بإفريقيا، لتحقيق أهدافهم المحدودة. فالبرتغال كانت لها مراكز في غانا البرتغالية، وأنجولا، وموزمبيق، وجزر ماديرا، والرأس الأخضر، وسان توماس، وبرنسيب. والاسبان كانت لهم سبتة، ومليلة، وجزر الكناري، وجزيرة فرناندو بو في خليج غينيا. والهولنديون لم يكن لهم إلا منطقة صغيرة على ساحل الذهب. والفرنسيون كانت لهم السنغال ورينون في المحيط الهندي. وبعض المحلات التجارية في مدغشقر. والبريطانيون كانت لهم سيطرة على ساحل الذهب وغينيا وبعض أجزاء من سيراليون. ثم منطقة الكاب في الجنوب، وسانت هيلانه.
وهكذا نلاحظ أنه حتى مطلع القرن التاسع عشر لم تكن لدول أوروبا سيطرة إلا على أجزاء صغيرة من أطراف القارة. ولكن الدول الأوروبية انتقلت من مرحلة ما يمكن أن نسميه المرحلة الجزرية أو الساحلية من الاستعمار، إلى مرحلة التوغل داخل القارة. ووصل الأمر في نهاية القرن التاسع عشر إلى درجة من النهم الاستعماري، كاد يؤدي إلى الاصطدام الدموي بين الدول الأوروبية الكبرى المتصارعة، وكانت ضحية هذا الصدام القارة الأفريقية، حيث لم تبق فيها دولة مستقلة سوى أثيوبيا وليبريا.
ما من شك في أن هذا التحول الذي شهدته إفريقيا خلال هذه المرحلة، يطرح تساؤلات قوية حول مدى ردود فعل المغرب، أمام هذا الامتداد الاستعماري القوي. لكن قبل ذلك لابد من الإشارة إلى الوضع الذي كان عليه المغرب حينها أيضا. إذ أنه خضع بدوره لتكالب أوربي، قوي، وجد أمامه قوة سلاطين عملوا على ردع عدد من المحاولات التي استهدفته، بشكل مباشر.
فالمصادر التاريخية، تشكف بالملحوظ، مدى قوة التهديدات التي طالت المغرب، منذ القرن السابع عشر الميلادي، حيث سعت العديد من القوى الأوربية إلى محاولات اختراقه، بجميع الوسائل، وخاصة على مستوى التوغل الاقتصادي، وهذا ما جعل بعض السلاطين العلويين، يجدون بكل ما لديهم من أجل العمل على أن يظل المغرب محافظا على كيانه الوحدوي، وقوته بين عدد من الدول. حيث وضع بعض السلاطين المغاربة نصوصا تنظيمية وقوانين تكبح أي محاولة لخلق الذرائع الأوربية، تلك الذرائع التي كثيرا ما تم توظيفها من قبل عدد من الدبلوماسيين الأوربيين لخلق تهديد مباشر للتراب المغربي. بينما حاول البعض الآخر جاهدا العمل على تحرير المناطق المحتلة، فضلا عن إصلاح الجيش وتوقيته.
بالمقابل عملت تلك الدول من جانبها على توحيد جهودها من أجل ضرب قوة المغرب، عن طريق توسيع مفهوم الحماية القنصلية بعد عقد مؤتمر مدريد في العام 1880م، فضلا عن فرض اتفاقيات مجحفة وغرامات مالية ثقيلة، بل الوصول إلى تدويل قضية المغرب بعد مؤتمر الجزية الخضراء في العام 1906م.
الملاحظ، أنه وبالرغم من هذا الضغط الأوربي على المغرب خلال هذه المرحلة، فإن علاقاته بعمقه الإفريقي لم تنقطع قط، إذ استمر ذلك التواصل الثقافي والعلمي ما بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء. كما استمرت القوافل في التحرك، ولو بشكل متقطع في بعض الأحيان، وظلت صلات السلاطين المغاربة بعدد من الممالك الإفريقية قائمة، دليل ذلك إحدى الوثائق النادرة التي لاشك في أن الكثير منها لازال محفوظا في الخزائن الإفريقية الخاصة بالأساس.
مضمون الرسالة الصادرة من السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان، بتاريخ 1277ه الموافق ل 1860م، يتمحور حول طلب السلطان من عامله بالصحراء والسودان، بإطلاعه على حول الرعية هناك:
كما كان السلاطين المغاربة يعمدون إلى الفصل في بعض الصراعات الداخلية والخلافات القبلية هناك، كما هو الحال بالنسبة للرسالة التي بعث بها السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان بشأن خلاف وقع بين أفراد قبيلة موريتانية، وقد صدرت في 1286ه الموافق، للعام 1869م. وارتياحه للوضع الذي أصبح عليه أهل السودان بعد أن عمهم الخصب خلال تلك السنة.
<إعداد: محمد حجيوي