لا أعلم كيف كبرت فجأة، بين عتمات النهار واللألفة التي بداخلي، وبسرعة غير متوقعة تحاصرني الأفكار المسببة للتوتر والقلق والكثير من الأشياء التي انتهى انبهاري بها، كنت طفلة يانعة توضب نفسها للانتقال لمرحلة الشباب، لا أعلم كيف ألقوا بتلك المسؤوليات فوق كاهلي الصغير قبل العمر المحدد لي، كنت أرتب حياتي لأستقر فيها، كنت أعيد أولويات الأشياء حولي، وضعت خططا كثيرة لأشياء علي إنجازها، لا أعلم كيف كبرت بهذه السرعة، من أين أتتني كل هذه الضغوط التي جعلتني لا أنتبه لشيء أبدا…
وكبرت فجأة لأجد خصيلات الشيب تعانق شعر رأسي، أنظر إلى ملامحي آه كم بهتت، كل الأشياء التي كانت تفرحني وتجعلني أبتسم.. ما عادت تعني لي شيئا.. مؤسف ومحزن أنني الآن أعيش شيخوختي في عز شبابي.. داهمني الخريف وأنا في ربيع عمري.. ومضى العمر ولم أشعر به.. مضى وسيمضي وينتهي ولازالت أحلامي الصغيرة مخبئة في حقيبة ركنتها بين ثنايا قلبي.
اختبارات الدنيا المتتالية تجعل من المرء شخصاً نبيها له القدرة على التنبأ بما سيحدث لاحقاً، ولو كان التقدير نسبياً، تضعه بين فكي احتمالات بعمر الطعنات التي أوسمته خيبات، لا أدري لما أجدني أكتب عن البؤس والأسى وأخوض غمار الصفقات الغير مربحة، هو انطفاء روحي يجعل كل شيء أمامي يبدو باهتاً، باردا ولوحة مكتوب عليها العالم مكان سيء جدا يقتل الفقراء ويكسر أجنحة الحالمين ولا يكترث للضعفاء، العالم مكان سام كفيل بقتل كل الأشياء الجميلة.
وحدتي اليوم جعلتني أتجاوز رصيد عمري المتبقي، ها أنا أتكئ على عكاز السنين أرى شريط الحياة السابقة يمر أمامي ويستدرجني للحسرة على رفّ أحلامي المثقل بالغبار، على القطارات التي فاتتني ولم أركبها، على كل الهزائم الهائلة التي ظلت متشبثة بي، على كل الدروب التي مشيتها ولم توصلني إلا للهاوية، عن الهشاشة التي كانت تأكلني من الداخل جعلتني اليوم شخصا تائها، ضائعا أبحثُ عني ولا أجِدني.
شعوري المستمر في التفكير في تلك الأنثى التي لطالما اعتقدت أني أحبّها جعلني أراها اليوم بائسة لا تطيق نفسها، لا تسعها الأرض بما رحبت تتخبط حول ظلها ويأسة، جروحها القديمة لا تندمل، أعلم أني لازلت عالقة في ذاكرتي أحاول نسياني بلا جدوى، فأنا امرأة لا تُنسى.
لن تنفعني الحسرة اليوم فكل ما مضى لن يعود وكل اللحظات القاسية مؤثثة في وجهي على شكل تجاعيد وندوب.
ما يجعلني اليوم أبدو لكم امرأة جميلة وهادئة هي الكلمات التي تغمر وحشتي، الكلمات المؤنسة التي تربت على صقيع قلبي وتجعلني لا أتوقف على الكتابة، ورطتني الكتابة بحياة مدهشة أعيشها في الخيال، صنعتُ أشياء دافئة كما أردت دوما، في تلك الحياة لا يوجد حزن لا يوجد بكاء ولا توجد امرأة أخرى تطأ يدها المجهول.
هناك أعبث بالمشاعر والأشياء كيفما أشاء، ولنا في الخيال حيوات.
كنت أعتقد أن الأيام ستمضي وأتخطى عنادي، أتخطى أفكاري، فلسفتي وخسارتي، أتخطى، ثأري، هشاشتي وأشياء كثيرة تعود عليّ بالسوء لكن يبدو أنني التي أمضي وحيدة في بلاد ناعسة.
أتخطاني، أتخطى موتي، ذاكرتي، صراخي وهدير ثرثرتي.
هكذا أنا دائما مائهة في دروب صدئة، أبتاعُ شرودا فاخرا وأُلقي بنفسي من طوابق شاهقة الوجع، ترتكتُ بيني وبين الأمس صفيحاً من الدهشة أصابتني في عمق أيامي، أيام رأيت فيها وجهك بوضوح حينما گانت المواعيد تتكفل بترتيبنا، حينما أشعلتُ أصابعي العشرة شموعا ورحتُ أملأ بك الدنيا، وأجيء بالليل في كلمات تسيقظ عندها كل المشاعر
عائدا من قاع لم يمنحك عكاز تواسي به ندوبك.
عائدا من مواجع أبرحتك هزائم ومن قلق تكّفل بفرم صبرك.
عائدا من هشاشة لا تؤدي بك إلى مهرب ومن أغوار لم تزدك إلا بأساً.
في وقت ما.
جعلتني أزهر أينما كنت، خلقتُ لنفسي حياة جديدة تشبه رحابة السماء حين تستقبل النجوم ليلا، حياة تناسب الخبايا النائمة داخل صدري، تشبه الطيور حين تؤثت أحلامها على كتف شجرة، تشبه الأشياء الحالمة التي تنبت من خيبة، تشبهني حين تخطفني هالة من الحب نحوي،
تلقفني صحوة المساء وتغادر بي إلى الهُناك حيث أنا وقمحي المنثور فوق وجهي المُتعب، مازلت أتذكر ارتباك عيني حينما كانت تبحث عني وسط الفوضى التي أُضرمت داخلي، تلك الفوضى التي استوقفت كثيرا عند مداخل قلبي،
أتذكرني وأنا أركض وألوّح للحب داخل حقول السعادة.
حين قلتَ للحب انتظرني.
وغفلتني في عمر مبكر ورُحتَ أجدف أمواج قصائدي، تعرّضتَ لخلوتي واقتحمت انكماش شغفي، جهّزتَ مواعيدا عابرة وحاصرْتني بمشاعر انتفضت داخل أضلعي، بحثْتَ عن سجّل حياتي فوجدته مجبولا بلحظات الصبا، مخضّب بتفاصيل ملوّنة بالحب والدفء،
إنها المرة الأولى التي يصفعني أحدهم وأنا مشغولة بصقل درج أحلامي.
إنها المرة الأولى التي أعرف فيها ما معنى معاناة.
إنها المرة الأولى التي أزور فيها الجحيم، لقد فردت مشاعري أمام حماقتي واستهلكتني في محض هراء لا يناسب قلبي، وها أنا اليوم أعضّ أصابعي ندماً.
فقدتُني في ركن متاح يركض إليه الحمقى وأنا التي لا يناسبني ما يتهافت عليه الجميع، لقد عدت أدراجي لكن بعد ماذا؟
صدقني لم تعد يعنيني هذا العمر في شيء، كنت ساذجة وقتها لما رفعتني بلغتي إلى مكان كبير جدا علي، مكان لم أجد فيه نفسي فتعاليت وتماديت حتى سقطت عني كل الوجوه المزيفة التي ارتديتها.. وها أنا اليوم أرى وجهي بوضوح تام، أرى وجهي كما لم أراه من قبل.
وأردد في نفسي أحقا أنا أحببتني؟
لا أدري أين كان عقلي وقتها لا شك أنه كان يتجول في أماكن محظورة.
وكلما أسدل الليل جفونه تتماهى المشاهد برأسي وتقضي آخر الصور نحبها في تجّلي، معلنة عن ميلاد جديد هكذا تقول.
تستدرجني العَبرات إلى حداثة اللحظات التي أعيشها مبتهجة، أتعاطى فيها السهر والموسيقى والضحكات كأنني لا أريد شيء آخر من هذا العالم غير هاته اللحظة البرزخية
أمضي بعيدا بخافقي هناك حيث تلتهب حلاوة الدنيا وتبتكرني اللقاءات موعدا سرمديا يليق بشذرات الأشياء المتدفقة صوبنا.
جميل هذا النعيم الذي يتّلبس الكلمات في ساعة متأخرة كهاته،
گأنني أسمع وقع خطوات خافتة تقترب من لحن أنفاسي المبعثرة، لازلت أتحسس الأشياء والأصوات وعطر ثقوب الناي حين يتأنق ويلّف عنق القصيدة.
رجاء أيها الشتاء ألا تأتي فأصابعي تطبخ لقمة شهية، ليكن موعدنا قريبا لندرك الشرود الطازج ونسرح في الطرقات الغائمة، لنتقن التحديق في بعضنا ونخلق أحاديث عن الحياة النبيلة التي تنتظرنا، لنتعمد إطفاء أضواء المدينة ونشعل شموع الحلم التي تنبت داخل صدورنا.
نجوم عذراء تقتنص رتابتي وتستدرجني إلى سماء فاحشة الثراء،
ما أجمل عواصف الليل حين تُخاصر رغباتنا وتدفعنا بقوة نحو السرير، ليس من أجل النوم وإنما لترتب لنا رحلة نحو شهوة الحلم أين نرسو في فنتازيا السحر والشغف وذاكرة الأمس، إنها حركة الحب الثلاثية التي تتيح لنا مساحة واسعة لخلق المكائد والمتع والحياة التي لا تخلو من الإثارة، إنها الحياة التي تمنينا أن نحظى بها دائما.
وأنا في خطوتي القادمة نحو الغيوم العالقة بذاكرتي، سأبتاع تذكرة الكلمات الصامتة التي ترتدي العتاب وأتسلق جدار المسافة التي تحشر نفسها بين نبضينا، وأعتلي صهوة الأحاديث التي شاءت أن تجعل الأمور غافية بيننا وأسير على صراط الشوق المُتعب الذي يكاد يتشظى.
يكاد يتشظى، سأبحث عن طريق يتّسع للوصول إلي.
يا أنا.
قلّبي كفيّ الصمت ستجدين هناك أنفاسا تُلملم بعضها بصعوبة، ومشاعر باردة تلتقط وحشتها وصوت يئن جراحه يردد في لوعة.. تبا.. تبا.. تبا..
هند بومديان