محمد الحمري: من لحظات ميلاد التشكيل المغربي وبداياته المدهشة

هو من الفنانين المدهشين بسيرتهم وارتيادهم غير المنتظر للمجال الفني. لكن، رغم أنه كان من أوائل الفنانين المغاربة الذين بدأوا العرض في بداية خمسينيات القرن الماضي إلا أن اسمه لا يرد إلا قليلا في «تاريخ» الفن المغربي. فلقد كان محمد الحمري (1932-2000) بشكل ما ضحية شهرته في الخارج من جهة، وعداوته للكاتب الأميركي الشهير بول بولز الذي ظل مقيماً بمدينة طنجة منذ نهاية الأربعينيات، والذي لم يمنح لهذا الفنان، الذي كان هو أول من أبرز موهبته الفنية، أي مكان في ما كتبه.
من مدينة القصر الكبير ونواحيها، في الشمال المغربي، إلى طنجة، عاش الحمري طفولته من غير أن يتنبأ لنفسه بمستقبل فني سوف يجعل نزلاء طنجة من الكتاب والشعراء والفنانين الغربيين يطلقون عليه «فنان المغرب». كانت مدينة طنجة حينها مرفأ لكبار الشعراء والكتاب الإنكليز والفرنسيين والأميركان، يرتادونها بحثا عن حياة مخالفة، يختلط فيها الجنس بالمخدرات والكتابة. وكان يستقر فيها وقتها، إضافة إلى بول بولز، الكاتب الأميركي ويليام بوروو، والفنان البريطاني فرانسيس بيكون، والفنان والكاتب براين جايسن وغيره كتينيسي وليامز… كان الشاب الحمري حينها عاشقا للموسيقى والطبخ، بحيث حين تعذر عليه حفظ القرآن في الكتّاب، اشتغل خبازا ثم رحل إلى مدينة طنجة حيث اشتغل طباخا، ليحل بمدينة الرباط وهو يافع، حيث سيشتغل صباغا. هناك بدأ يخلط صباغة الجير بالأصباغ التي أدرك كنهها، وصار يرسم جداريات في مقاهي المدينة.
وحين عاد إلى مدينة طنجة في أواخر الأربعينيات، وهو لم يبلغْ بعدُ ربيعه العشرين التقى ببول بولز الذي انتبه إلى موهبته في الرسم والحكي. وكان بولز قد تبنى قبل ذلك حكواتيا من مدينة فاس هو أحمد بن إدريس اليعقوبي، الذي لم يلبث أن أقام معرضه الأول سنة 1952 بطنجة، وباع فيه جلّ الأعمال المعروضة، وحظي فيه بشهرة بالغة. ويبدو أن هذا الحدث أثار حمية الحمري الذي ثابر في عمله بحيث لم يلبث براين جايسن أن نظم له معرضا في السنة الموالية في رامبراندت، الفندق الشهير آنذاك بطنجة الذي كان يرتاده الحبيب بورقيبة، وهو المعرض الذي لاقى نجاحا لم يكن ينتظره الفنان الشاب. بل إن صديقه الفنان نشر عنه في الأيام السابقة على المعرض مقالا مطولا يشيد فيه بموهبته معتبرا إياه فنان المغرب:
«تنبع لوحات الحمري من العمق النفسي للثقافة الوحيدة العظمى التي لم تحرّم التصوير، وهي تمنحنا الدليل على المسعى الأكثر جرأة للتشكيل الحديث الباحث عن براءته. ليس ثمة من شك، ففنه أكثر براءة من عينه المندهشة النّهمة، وهو ليس أكثر بدائية من ماتيس الذي كان يرغب في استعمال اللون لذاته، ولا من بيكاسو الذي كان خياله الخلاق يسعى إلى المجاوزة الدائمة لحدود عقله، ولا أقل بدائية من بول كلي الذي كان يعتقد بلوغ طهارة القلب وهو يرسم مثل الطفل…».
لم يكن الحمري يعشق ممارسة التشكيل والرسم وحدهما، فقد كان طباخا ماهرا بحيث إنه أنشأ في قصبة طنجة بمعيّة براين جايسن في الخمسينيات مطعما سمياه «ألف ليلة وليلة» كان محجّا لنخبة طنجة لمدة طويلة. وفيه كان الحمري يعرض أغاني الجهجوكة الجبلية التي كان يتقنها جيدا، والتي سوف يغرم بها براين جونز قائد فرقة «الرولينغ ستونز» الغنائية الشهيرة. وهكذا سيصدر هذا الأخير ألبوما عنها وسيرسم الحمري غلاف الأسطوانة. إن ولع الحمري بهذه الموسيقى يبدو أيضا في رسومه ولوحاته، بحيث يمكن القول إنه كان وراء بلوغها العالمية واهتمام الكثير من الفنانين بها، كبول بولز، ووراء زيارة العديد من المشاهير إلى القرية الجبلية التي تحتضنها.

بركة ربانية

إن ما سماه براين جايسن «براءة» أو طهارة، إن كان يترجم من وجهة النظر الغربية ذلك الهوس الذي يحسه الحمري وهو يمارس التشكيل والرسم، يأتي أيضا من العلاقة الخاصة التي كان يعيشها الحمري بالفن. فهو لديه ممارسة أشبه بالبرَكة الرّبّانية أو العطاء الإلهي، يقوم به كما لو أن ثمة كائنات متخيلة تسكنه. هذا الطابع «السحري» الذي يضفيه الحمري على عمله هو أشبه بالمسحة الصوفية التي يحسها كل من يستمع لموسيقى الجهجوكة، التي تعتمد على المزمار والدف والطبل والناي، ويخترقها إيقاع متسارع ومنكسر أقرب إلى إيقاع موسيقى الجاز.
تعرّف الحمري على الكثير من عمالقة الفن والفكر وعرض في العديد من مدن العالم وصارت حياته من الغنى بحيث لا تقل خصوبة عن تجربته الفنية. كانت الممارسة الفنية لديه أشبه بالنسْغ الذي به يصوغ وجوده الشخصي. مرَّة وهو في سفر إلى إيطاليا لحضور أحد معارضه، رمق في الطائرة الممثل الشهير أنطوني كوين الذي كان حينها عائدا من مراكش بعد أن شارك في فيلم «الرسالة» الشهير. تقدم إليه ورطن بتلك الإنكليزية التي تعلمها مع المثقفين الأميركيين كما مع زوجته الأميركية «بلانكا»، مقدما نفسه وهو متأبط بعضا من لوحاته. سأله أنطوني كوين إن كان بإمكانه الاطلاع عليها، فأراه إياها. وحين أعجب بواحدة منها نفحه ثمنها، وهو لا يعلم أن الحمري كان مفلسا ولا يملك حتى ما يسدّد به ثمن غرفة فندقه.
نحن إذا أمام فنان متفرد يصوغ شخصياته وكائناته بطريقة لا هي بالساذجة ولا هي بالعالمة، يمنحها «براءة» تفصح عن الرغبة في الامتلاك السحري للعالم من خلال أمرين أساسيين: الوجوه والمدينة. ووجه المدينة أبدع فيه الفنان بشكل لا يضاهى، من خلال تأويل هندستها وأبوابها وصوامعها، ومنحها طابعا نورانيا يمنحه الأبيض والأخضر بالأساس مسحة خاصة ذات إيقاع ينشدّ له بصرنا. وكأن الفنان يسبر روح المدينة وكائناتها من خلال الألوان القدسية.
ترتاد لوحات الحمري فضاءات المرئي كي تقتطعه لنفسها، فعوالمه تمتد من المدن التي عشقها: القصر الكبير وأصيلة وطنجة، إلى الكائنات التي منحته روحها كمغن للجهجوكة ويهود مقاهي طنجة ونساء تلك المدن المدثرات من الرأس إلى أخمص القدمين. أما شخصياته فإنها لا تبتغي أن تكون واقعية، بل أشباحا يصوغها بطريقة أقرب إلى التكعيبية أو يجعلها تبدو مثل كيانات هاربة من التشخيص.
يشكل الحمري مع أحمد اليعقوبي ومولاي أحمد الإدريسي الثلاثي العصامي الذي منح للفن المغربي بداياته المدهشة التي جعلته يصل آفاق العالمية قبل أن يتكفل الفنانون المتكوّنون في مدارس الفنون الجميلة كالغرباوي والشرقاوي من إعطائه نفحة جديدة وبعدا ثقافيا مغايرا. إنه الفنان المنبجس من ثنايا الشعب، والذي حمل حكايته الشخصية كما ولعه بأماكن حياته ليمنحها بعدا سماويا هاجر به إلى كل أصقاع المعمورة.

فريد الزاهي

Related posts

Top