آخر إسهام للأديب المغربي الراحل محمد غرناط كان قد خص به بيان اليوم

رغم ظروف المرض الذي سكن جسده العليل، حرص الأديب محمد غرناط -الذي وافته المنية يوم السبت الماضي وهو في قمة نضجه الإبداعي- على أن يحرر الأجوبة التالية، ويخص بها الملحق الثقافي لجريدة بيان اليوم، وقد تضمنها ملف كنا قد نشرناه قبل شهور قليلة من رحيله.
فبطيبوبته المعهودة، ذيل أجوبته بالملاحظات الآتية:
« تأخرت قليلا لظروف صحية، الشفاء العاجل لجميع الناس بإذن الله. رجاء أخبرني بموعد النشر حتى لا يفوتني العدد وشكرا».
على وقع هذه الملاحظة المؤثرة وبمناسبة رحيله الأليم، نعيد نشر مساهمته هاته، تحية لروحه ولسمو إبداعه القصصي والروائي، تغمده الله بواسع رحمته.

ضرورة توسيع قاعدة قراء
القصة القصيرة

أعد مجموعة قصصية جديدة للنشر، فأنا ما أزال كما كنت دائما متعلقا بالقصة القصيرة لأنها النوع الأدبي الذي أجد متعة كبيرة في قراءته وكتابته. وهي تتميز بخصائص فنية عالية، ومن هنا أرى ضرورة توسيع قاعدة قراء القصة القصيرة في البرامج الدراسية في الثانوي والجامعي على حد سواء، وخصوصا وأن البعض منها يكاد يخلو من ذكر هذا النوع الأدبي الأصيل المؤثر في حياتنا.

أنشطة بحاجة إلى الدعم الضروري

المغرب كما هو معروف يشهد دائما تنظيم مهرجانات وأنشطة ثقافية وهذا له تأثيره ودوره الهام في نشر وترسيخ الوعي بأهمية العمل الثقافي مثل اتحاد كتاب المغرب، بيت الشعر، مهرجانات الشعر في شفشاون وتطوان ومهرجانات القصة القصيرة في عدد من المدن المغربية وندوات تنظمها الجامعات. غير أن هذه الأنشطة يجب أن تحظى بالدعم الضروري وتشجيع القراء على ارتياد القاعات الثقافية.

أحداث هامة ومتميزة

هناك أحداث هامة ميزت هذه السنة وهي كثيرة منها، صدور أعمال أدبية قيمة في الإبداع والتاريخ، ومنها أيضا تنظيم معارض كبرى وتكريم عدد من الشعراء والكتاب المغاربة في كل جهات المغرب..

محاكمات لا تثمر طائلا

التاريخ عرف محاكمات عديدة للأدب والأدباء، ومن أشهرها في العصور الحديثة، محاكمة الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير والعميد طه حسين.
وهي ظالمة ولا تثمر طائلا، فالأدب مستمر دائما وهو يعيش في ضمائر الناس وأفئدتهم، وهذا ما يجب معرفته.

الثقافة سلاح ناجح لمواجهة
الانغلاق والتطرف

بطبيعة الحال الإمكانيات المادية التي تتوفر عليها الجمعيات تؤثر في نشاطها، لذلك نلاحظ أن عملها  لا يستمر على امتداد السنة. بل في كثير من الأحيان يقتصر على أسبوع واحد (أو أقل) في السنة. والمفروض أن الأنشطة كي تكون لها فاعلية لا بد أن تقام مرات متكررة وهذا يحتاج إلى دعم حقيقي،  كما ذكرت من قبل، خصوصا أن ما يشهده المغرب وغيره من الدول الإسلامية من أفكار متطرفة عليه  أن يواجهها، ومن وسائل مواجهتها الأساسية الثقافة، فالثقافة سلاح ناجح لمواجهة الانغلاق والتطرف، وهذا أمر يجب التفكير فيه بجدية وحزم.

قرارات تعرقل التطور

ما يشغل المغاربة راهنا هو الدخول المدرسي وقضايا التعليم. وهم دائما يترقبون الجديد الذي يمكن أن يسهم في تطوير المدرسة المغربية وتطوير مستوى المتعلمين، إعداد مرافق جديدة، توفير التجهيزات الضرورية.. لكن دائما يفاجأون بقرارات تعرقل هذا التطور.
في ما أن التعليم يجب أن يحتل المكانة الأولى في اهتمامات المسؤولين المباشرين وغير المباشرين ويحظى بالنصيب الأوفر من الإمكانيات.

خيبة أمل الكاتب

هناك عوامل مختلفة لغياب العديد من الأسماء الأدبية والفكرية عن النشر، وأظن أن خيبة الأمل لدى الكاتب هي من العوامل الأساسية في ظاهرة الغياب هذه، لأن هذا الإحساس يحد من رغبته في الكتابة والنشر.

احتفالات ولكن…

في فترة الاحتفال بالدخول الثقافي تقوم جل المكتبات بعرض الكتاب المدرسي، ونجد أيضا باعة الكتب في أمكنة كثيرة قرب المدارس وبعيدا عنها يعرضون الكتب القديمة والجديدة على الأرض.
هناك مكتبات قليلة تعرض كتبا حديثة الصدور في الأدب والتاريخ والفلسفة والاجتماع وغيرها، والحال أن هذه الفترة تقتضي أن تعرض كتب جديدة ظهرت في هذه الفترة بالذات وأن تصاحبها متابعة نقدية وموضوعية، هذا فضلا عن إقامة معارض وتنظيم لقاءات فنية ومسرحية وأنشطة أخرى تعكس اهتمام وانشغالات الإنسان المغربي.
كما أن الإعلام لا يقوم بأي متابعة جادة ويهتم بأمور لا علاقة لها بالدخول الثقافي الأدبي والاحتفاء به، ولا تخدم بأي حال الشأن الثقافي كما يجب.

**

نموذج من النصوص القصصية للأديب الراحل محمد غرناط

لحظة وصول القطار

رفعت عينيها إلى الحائط فرأت صورة سفيان. وجه مستدير أبيض. فم صغير دقيق الشفتين.عينان دافئتان. شعر فاحم قصير.
بدت حائرة وهي تنظر إلى الصورة.
كانت تهتز كما لو أنها تريد أن تنقض عليها لتهشمها. ثم سكنت وحولت بصرها نحو صديقتها. ترددت قليلا، ثم تأوهت قائلة:
– أنا لا أصدق ما حدث ياسارة. أحس دائما أنني كنت في حلم. ألا ترين كيف يبدو؟
– يبدو إنسانا وديعا هادئا.
– تماما.. ولكنه يخفي وراءه هذا الوجه قسوة لا مثيل لها. إنه أهبل وطائش.
– كثيرا ما قلت لك إنك سيئة الحظ. ولولا ذلك لكنت معي الآن في باريس.
افترقتا منذ عامين. اختارت سارة أن تهاجر. هيأت أوراقها واستقلت الطائرة. بعد أيام كتبت رسالتها الأولى وقالت إنها تسكن شقة في الطابق الثالث من عمارة تطل على نهر السين. وبقيت خولة في بيتها بالمدينة القديمة. كانت ساهمة. وجهها ضامر تغطيه صفرة كابية. تبدو أكثر نحافة في معطفها الصوفي الخفيف. مدت يدها إلى كأس القهوة ورشفت جرعة. ثم قامت من مكانها وقصدت النافذة. ألقت نظرة على الزقاق الضيق البارد وبسطت الستار فوق الزجاج لتحجب أشعة الشمس.
قالت لها سارة:
– فكري مرة أخرى في ما كنا تحدثنا عنه. تصوري.. خلال هاتين السنتين تمكنت من تحقيق ما لم أكن أحلم به. لقد تأسفت كثيرا لما حدث. ولهذا بادرت بزيارتك بمجرد ما وصلت. تركت والدي وإخوتي حول المائدة في انتظاري. انسي ما وقع وفكري بجد.
أمالت رأسها وقالت:
لا يمكن أن أنسى. ولا يمكن أن أعفو. هذا ما يجب أن أفكر فيه.
– لكن هذه المرة ستدخلين السجن
– لا يهم
– أحذرك. إن أنت أقدمت على فعل شيء سيعتبرك الناس مجنونة. تخيلي.. لو أن الحقيقة لم تظهر.. أين كنت سأجدك الآن؟
كانت سارة في المطبخ حينما رن الهاتف فهرعت مسرعة نحو السماعة. بدت منشرحة لما عرفت أن خولة هي التي تحدثها. وفجأة تغيرت نبرة صوتها ولم تعد يداها قادرتين على حمل السماعة.اعتذرت لصديقتها ووعدتها أن تكلمها في المساء.علا وجهها الاندهاش وهي تدفع جسدها نحو الأريكة. استلقت على ظهرها وجعلت تنظر إلى السقف صامتة. قبل أن تغادر إلى باريس التقت معها بمقهى وسط المدينة. كانت الساعة تقارب العاشرة صباحا. قطعت الشارع الطويل في خطوات حثيثة. وعندما وصلت إلى مدخل المقهى لمحتها تحسو شاياأسود. أخذت مكانها وقالت:
– البارحة لم أنم كما يجب. قضيت وقتا طويلا أفكر في أمرك. ماذا قررت؟
ردت بصوت خافت:
– أنا أيضا لم أنم كمايجب. إنني مرهقة
– أريد أن أعرف قرارك
– ستعرفين كل شيء. تمهلي
نصحتها أن تكون حكيمة وهي تتخذ قرارا. ولهذا أغلقت عليها غرفتها، وتمددت في ثياب النوم على سريرها وفكرت طويلا. وحين تقدم الليل أطفأت الضوء ونامت نظرت إلى صديقتها نظرة فاحصة، ثم دنت من وجهها وهمست:
– بصراحة..أنا فضلت أن أبقى بمدينتي
شهقت سارة ولاح على وجهها شحوب مباغت. مكثت واجمة لحظات، ثم قالت:
– لم أكن أتوقع منك ذلك
– هذه هي الحقيقة
– ألم تقتنعي بما قلت لك؟ إن الحلاقة في باريس تدر أموالا طائلة على أصحابها. لو لم أكن متأكدة لما أصررت عليك. وقت قصير وتصبحين غنية. ثم تفعلين ما شئت.
– لا أخفي عنك شيئا. لقائي بالرجل الذي حدثتك عنه أعطاني الأمل في أنني سأستقر بمدينتي
أمسكت سارة رأسها بين يديها وفكرت مليا، ثم قالت:
– أنا أريد أن تكوني معي كما كنا من قبل
ردت باسمة:
– ستبقى العلاقة بينناعلى ماكانت عليه. لقد وضعت ثقتي في الرجل وأمي على علم بكل شيء.
عاتبتها أمها على ما فعلت. قالت كان عليها أن تكلمه في أي مكان شاءت عدا أن تدخل شقته، وحذرتها أن تفعل مرة أخرى. لم تكتم عنها شيئا. قالت إنها ارتاحت له. الابتسامة لا تفارق فمه. نظراته واثقة، وكلامه سلس محسوب. حينما قعدت أمامه تركها تتكلم وجعل يصغي إليها باهتمام.شابة أنيقة، طليقة اللسان، تتقن استعمال الحاسوب، وتعرف لغتين، تريد أن تنشر إعلانا عن طلب شغل. أبدى إعجابه بها، وقال لها بصوت واثق إنه يرغب في لقائها لأمر هام.
بدت مترددة، ثم ضربت معه
موعدا قرب سينما لانكس. حضر في الوقت المحدد. الشقة على بعد دقائق من قاعة السينما. توجد في عمارة حديثة البناء. مضيئة واسعة، ومزينة بلوحات زيتية وأواني فاخرة. كانت خولة مرتبكة. دعاها للجلوس فتماسكت وأخذت مكانها. ثم قدم لها مشروبا باردا وقال:
– اسمي سفيان. أنا لست صحفيا محترفا، ولكنني أشتغل في هذه الصحيفة التي تنشر الإعلانات في انتظار أن أجد عملا يناسبني.
– أنا أيضا أبحث عن عمل حتى وإن لم يكن قارا.
– هذا أفضل. يشتغل المرء إلى أن يعثر على ما يريد.
– وهل تظن يا سفيان أنني سأجد عملا؟
– بالطبع. ثقي بي.أنا سأساعدك. وقد دعوتك الآن لأؤكد لك ذلك، ولأقول لك إنني أريد أن أطلب يدك.
لم تفاجأ. قال لها ما كانت تتوقع.أمها لم تعترض ودعت لها بالسعادة. توهج وجه سفيان حينما قابلته في المكتب وأبدت موافقتها. أزاح الأوراق من أمامه ومد يده إلى جيب معطفه. أخرج ساعة يدوية لا معة ووضعها على سطح مكتبه. برقت عينا خولة وابتسمت ابتسامة واسعة وأصغت إليه يقول:
– هذه لك.كنت أريد أن أحتفظ بهاإلى يوم زفافنا ولكنني لم أستطع.
فأخذتها قائلة:
– أشكرك. أنت أول إنسان يهتم بي. وهذا يسعدني.
ساعة صغيرة مسستطيلة. لها حاشية صفراء غامقة كأنها مخضبة بالحناء، وبداخلها أرقام رومانية مائلة يدور فوقها عقربان دقيقان. وضعتها في معصمها وصارت تحسب الزمن بعناية. كل شيء يتم في أوانه. تراقب حركة العقربان في حرص بالغ، منذ تفيق إلى أن يأتي المساء، فتقعد وتعد الدقائق متوترة. وحينما تسمع صوت سفيان تنهض بخفة للقائه، وتقول له إنه يحمل ساعتها في قلبه. ولما يتأخر تضغط على الساعة بكفها كما لو أنها تريد أن تتوقف حتى يعود، لكنها دائما تتحرك. كان ذلك يزعجها، فتفتح النافذة وتنظر في حيرة مستعجلة عودته.
سألته ذات مساء إن كان قلبه لم يعد يحمل ساعتها. لم يهتم. خفض عينيه وطلب منها أن تتركه لينام. العياء باد عليه. غطى رأسه ونام بسرعة. لبثت تعد ساعات الليل المتبقية. مر الوقت بطيئا. أرسلت شعرها الأسود الطويل على كتفيها، وأسندت رأسها إلى الأريكة ومكثت تفكر. ثم نهضت وأخذت تطوف في غرفة النوم. سفيان أخذه النوم بعيدا. لم يبق منه شيء. فقط، أنفاسه الرتيبة تتردد في زوايا الغرفة. دنت منه كما لو أنها تريد أن توقظه. كان ٍرأسه مائلا. لم تر من وجهه غير أذنه اليمنى المخرومة. تفرست فيها قليلا وعادت خطوة إلى الوراء. بعد لحظات خلعت الساعة من معصمها ووضعتها على منضدة الزينة قرب رأسها، ونامت.
قالت لسارة في حزن:
– حصلت الفاجعة عندما أفقت. أحسست أنني فقدت جميع ما أملك، وكأن هذا الصباح هبت فيه ريح عاتية وعصفت بكل شيء.لو رأيت البيت لاستغربت.زلزال حقيقي.كنت أبحث عنهاكمن يبحث عن إبرة في التبن. قلبت كل أثاث البيت ولم أجد لها أثرا.
فردت عليها آسفة:
– خدعك يا صديقتي. ولكن الله سلم. لو أنك لم تملكي أعصابك لكانت الفاجعة أكبر.
– ومع ذلك اتهموني.اعتقدوا أنني أنا التي قتلتها. وأغلب الظن كما قالوا إن زوجته السابقة هي التي قتلتها. أنا عندما دخلت مكتبه سمعتها تقول إن الساعة التي بمعصم السافلة ساعتها. كانت تصرخ وتطلب منها أن تردها إليها.
لاشك أنها امتنعت. ولهذا حدث ما حدث.
– والساعة؟
– كانت ما تزال بمعصمها. الزوجة الأولى فرت دون أن تأخذها. مرت من أمامي كالسهم واختفت. وأنا وقفت مرعوبة يابسة حتى لأني كدت أفقد وعيي ولم أعد أعلم أين أنا وفي أية ساعة.
لا شك أنها قدمت من مكان ما هذا الصباح. قالت إن القطار لما أطلق صفيره سمعت حركة في غرفة النوم، ولكنها لم تفتح عينيها. ربما نهض سفيان وغادر السرير. هل سمعت زوجته الأولى أيضا صفير القطار وهو يدخل المحطة؟ قالت يبدو أن الدنيا كلها تحركت في تلك اللحظة، ووضعت ووجهها بين راحتيها وحنت رأسها.
فيما سارة حولت بصرها نحو الصورة المعلقة على الحائط وجعلت تنظر إليها، ومن حين لآخر تهم بالكلام لكنها تتراجع.

اعداد: عبد العالي بركات

Related posts

Top