المجموعة الشعرية “سيمفونيات” التي صدر جزؤها الأول سنة 2017 هي التجربة الثانية للشاعرة حياة نخلي بعد ديوانها “ترانيم الروح”. ويقع ديوانها “سيمفونيات” في مائة وإثنين وأربعين صفحة، من الحجم المتوسط، و يحتوي على إثنين و ستين قصيدة موزعة على ثلاث سيمفونيات وهي سيمفونية عشق و سيمفونية شجن وسيمفونية الآهات.
وعندما نتصفح ديوان الشاعرة حياة نخلي “سيمفونيات” الذي يمكن اعتباره الإصدار الذي كان له الأثر الواضح في رسم معالم طريق الشاعرة وانطلاقتها الفعلية في الساحة الشعرية، فإننا نسبح من خلال معزوفات حرفية ساحرة، صيغت نوتاتها بكل دقة وحساسية، لتجعلك تهيم في يم دافق من المشاعر الإنسانية التي تراود أي محب للحياة بصفة عامة وللذات بصفة خاصة، فهي شاعرة مرتبطة بالعشق لدرجة الغليان الروحي كونها ترى الكون فرحا يفتح أبوابه للسفر فيه رغم الجراح، والبعد، والخيانة والفراق، مؤججة فيها نار الحنين والشوق لتتحول لآهات متدفقة من بين ضلوعها كألسنة اللهب، آهات حالمة بلقاء قصير يكحل أهدابها، متخطيا كل الحواجز ليلملم رحيق الحب في غفلة من الزمن. فكل قصيدة بالديوان لها نبرتها،
ودلالتها في التنوع من حيث المكان و الزمان وكذا الشخوص والذوات، لكننا نجدها تلتحم وتتجمع حول سياق واحد ومحاكاة واحدة تتجلى في الذات الأنثوية ومحاكاتها للذات المكسورة والتقلبات التي تواجهها، من خلال تموجات شاعرية يغلب عليها الأسلوب المرهف والأحاسيس الجياشة، كما هو في قصيدة ” عاصفة القلب”:
أسيرة هي لواعجي
ثائرة حائرة
تسبح في يم مجهول
و هدير موج بلا ماء
صخب فلاة
و مجذاف يائس
يقاوم كتبانا من سراب
…..
لا وطن لي سوى دموع
تقطنني
ترهقني تمدني بجرعة من
أمل
إنها بكل بساطة سمفونيات تخالط هوس الإيمان بالفرج والشعور بقرب الأمل والفرح والعشق والخيال المجسد لتناغم الذات باستخدام الرموز، بأسلوب بلاغي رفيع، طغى فيه استخدام محسنات البديع والبيان من تشبيهات واستعارات وانزياحات وسجع وتضاد، وأحيانا تكرار لبعض العبارات الدالة والقوية، لتأكيد الحضور، وتيمة الديوان العاكسة للقيم الانسانية وتمجيد الحب رغم الشكوى ومساءلتها للحياة والوجود، تقول في ” سمفونية عشق “:
ما بين الصمت و الألم
فسحة أمل
تملأ شفقا
وتضيء عتمات السرى
فالشمس لم تترك يوما السماء
ولم تخن الأحلام الضياء .
لقد أغرقت حياة نخلي جل قصائدها تقريبا في حزن وشجن، شجن غير جارح، يتأرجح بين الذات الشاعرة الحزينة والمنهكة والذات الانسانة كأنثى التي تطلب إنصافها من خلال احاسيس وهاجة ترسم بموجبها خارطة مستقبل حالم يتغنى بالحب المباح بدون حدود، حب للذات نفسها وحب للذات الجماعية، كما تقول في قصيدتها ” سأعود ”
سأعود
و في أحضاني ألف قصيدة
و أشكل على أديم السماء
ابتسامة
لأفتن العالم بملامح الشفق
و بأناملي سأنسج عباءة الفرح
لتلبسها بردة الليل
و تعزف على نبراتها
قطرات المطر.
إن من يقرا شعر حياة نخلي يجد فيه سحر وجمالية الكلمة الذي وظفته من خلال اختيارها ألفاظ منتقاة بعناية بالغة، فضلا عن استثمارها للمعجم الشعري والأساليب الفنية، محولة بذلك قصيدتها للوحة تتراقص حروفها مهما كانت دلالة تعبيرها، سواء كانت عن المعاناة والهموم التي تتخبط فيها الذات، كما في قصيدتها ” بلايا ”
سحابة تجول
لتحط الرحال
في سماء الورى
عبثت بالشمس
و حجبت الضوء
عبثت باليم و الثرى
أمطرن ألما
و دما .
أو كانت عن قضايا عربية بدلالات جد عميقة، يجتمع فيها النسق اللغوي والتعبير الوجداني المشحون بالعشق الدفين، كما تعبر عن ذلك في قصيدتها ” هل ستعودين يا أمتي ”
نهبوك يا أمتي
قتلوك
خضبوا ثراك بالدماء
رقصوا على جثت الشهداء
قتلوك يا فرحتي
نشبوا مخالبهم في أحضانك
و مزقوا أوصالك
شردوا أطفالك
وقتلوك
الفاظ مختزلة وقوية الدلالات تبرز تشبث الشاعرة بعروبتها وقوميتها التي هي جزء لا يتجزأ من وطنيتها، دلالات يمكن اعتبارها وصفا للحالة ونداء للاستجابة للضمير العربي الذي أضحى شبه غائب عما يجري في أوطانه.
لتبقى مرتكزة الحب لديها ضمن باقي المرتكزات التي تمت الإشارة إليهما ” المعاناة والعروبة ” محور ديوانها حيث نج الحب لديها متجسد في كل ما هو رائع و جميل ” زوج ، ابناء، الخير للإنسانية جمعاء، التضامن، التكافل، …” و ذلك بلغة سيميائية خاصة يستطيع معها القارئ أن يسقط معانيها على واقعية ذاته، وانفعالاتها، تقول في قصيدتها ” لست أنا “:
و أخبروني أن الهوى مجنوني
و أنني العطر والشعر
الجنة و الوجود
أنني حبا بلا حدود .
هذا الحب الذي تتغنى به الشاعرة بدواخلها، تارة مصرحة به و أخرى ملمحة به نتيجة انكسارات و تضاربات داخلية تجعله بلا طعم و لا رائحة، يصارع آهاتها التي لا تنته، و تظل ترقص كطائر جريح لم يتبق له سوى حلم بات من عدم، تقول حياة نخلي في قصيدتها ” أحلام زئبقية”
أحلام رئبقية
ساورني أنسامها
تحاصرني ألغامها
جرعة في فلاة ظامئة
كيف أغدو وجودا
و أنا مجرد طيف
وبعبارة أدق يمكن القول أن الذات الشاعرة للشاعرة حياة نخلي من خلا ل ديوانها ” سيمفونيات” تجس كل ما هو جميل في هذه الحياة رغم ما يعتريها من أزمات و صراعات وخيانة ونكران للجميل.. ذات تحس بالحب والجمال في أحلك الظروف بل هو سلاحها من أجل البقاء والاستمرارية، كجندي على قمة جبل، أعزل لكنه يقاوم بكل ما أوتي من جهد ونبل قيم، دفاعا عن ذاته أولا لتبقى صيرورتها، ثم عن باقي من حوله وعن الوطن والمتجسد فيمن تعزهم أو تشفق من حالهم، و هو ما يتجلى في قصيدتها التي كانت بوابة ديوانها “سيمفونية عشق “:
ما بين الصمت و الألم
فسحة أمل
تملا الأفق شفقا
و تضيء عتمات السرى
فالشمس لم تترك يوما السماء
و لم تخن الأحلام الضياء
………..
أرجوك لا توقظني
دعني احلم بعبير المساء
أحلق
بجناحيك في كنف السماء
لأشكل لوحة عشق
على جبين الليل .
> بقلم : محمد الصفى