إن من ينتحر ليس بالضرورة إنسانا يكره الحياة، بل إنه يحبها بشدة، غير أنه لم يجدها كما كان يتمناها. العديد ممن اختاروا أن يضعوا حدا لحياتهم تركوا رسائل ذات معنى بليغ، ومنهم من لم يترك أي رسالة، لكن انتحاره كان في حد ذاته خطابا بليغا إلى من يهمه الأمر
العديد من الأدباء والمبدعين المغاربة والعرب وجدوا أنفسهم ذات لحظة يأس وإحباط؛ مرغمين على توديع الحياة رغم حبهم الشديد لها
ضمن هذه الفسحة الرمضانية، سيرة لمجموعة من هؤلاء المعذبين على الأرض، إلى جانب نماذج من إنتاجاتهم الإبداعية، تكريما لأرواحهم الطاهرة
الأديب تيسير سبول
سأسقط، لابد أن أسقط.. يملأ جوفي الظلام
انتحر بإطلاق النار على رأسه في 15 نونبر عام 1973 بعدما كتب:
“سأسقط، لابد أن أسقط.. يملأ جوفي الظلام”.
ولد الأديب الأردني تيسير سبول في مدينة الطفيلة الجنوبية يناير عام 1939. أنهى دراسته الثانوية بتفوق وانتقل إلى دمشق لدراسة الحقوق. البعض فسر انتحاره على أنه احتجاج على الهزائم والخيبات السياسية العربية وخصوصا هزيمة 1967، بينما عزا آخرون سببه إلى مشكلات عاطفية، كان شعره يخزن نبوءة موته، بما يشهر من تعبيرات يـأس وقنوط وتشاؤم شديدة، حتى أن بعض النقاد وصفوه بأنه “رثاء الشاعر المسبق لنفسه. كتب أيضا في الرواية، وله مجموعة
وحيدة بعنوان بعنوان “أحزان صحراوية” صدرت سنة 1967.
عاش سبول في أسرة متوسطة الحال تتكون من خمسة أولاد وأربع فتيات هو أصغرهم سنا، وكان يعمل والده مزارعا أسوة بغيره من أسر الطفيلة آنذاك الذي سعى رغم ضيق حاله إلى ضم أبنائه ضمن صفوف الجامعيين.
تميز سبول بشخصية قوية وبسرعة البديهة والذكاء والإحساس المرهف، ما جعله محط أنظار أساتذته وأقرانه الذين تنبأوا له بعلو الشأن. واصل دراسته المتوسطة والثانوية في مدينة الزرقاء بتفوق رغم أجواء القلق والاضطراب والحزن جراء سجن أخيه شوكت بسبب آرائه السياسية.
استطاع وبسبب جلده وتفوقه في الدراسة الثانوية الحصول على منحة دراسية إلى الجامعة الأمريكية في بيروت لدراسة الفلسفة، إلا أن الحياة في تلك الجامعة لم ترق لشاب تشغله قضايا الأمة العربية وما يعج بالعالم العربي من أحداث سياسية.
بداياته الشعرية
دفعته الأحداث السياسية إلى ترك الجامعة ودراسة الحقوق في جامعة دمشق، والتي ظهر فيها كشاعر ذي موهبة، ما زاد من اطلاعاته الواسعة على قراءة الكتب والصحف والمجلات اليومية والأسبوعية، لتبدأ مسيرته كشاعر في الكتابة ببعض المجلات والدوريات الشهرية الأدبية في دمشق وبيروت كمجلة الثقافة، والآداب والأديب. توقف عن الكتابة لفترة وجيزة متأثرا بما يدور حوله من توالد للهزائم والنكسات، إذ باتت تشكل عبئا عليه يرزح تحتها.
عمل موظفاً متنقلاً من وظيفة إلى أخرى وتزوج وأنجب طفلين، “عتبة” و”صبا” ثم عمل في الإذاعة الأردنية. حلت هزيمة يونيو لتزعزع ما استقام من حياته، فقد كانت الصدمة مؤلمة وشديدة عليه فبكى الهزيمة دونما انتظار للعزاء ليلقي نظرة على ما ضاع ربما لغير رجعة في يد من لا يرى غير الدمار وسفك الدماء.
من هنا أعلن موت الشعر فأخذ على عاتقه قراءة تاريخه القديم مستلهماً من الماضي ما يعينه على مواجهة مستقبل غائم وغامض.
***
من مختاراته الشعرية أحزان صحراوية
من زمان
من تجاويف كهوف الأزلية
كان ينساب على مد الصحارى العربية
لينا كالحلم سحريا شجيا
كليالي شهرزاد
يتخطى قمم الكثبان
يجتاز الوهاد
من زمان
شربت حسرة ذاك الصوت
حبات الرمال
مزجته في حناياها
أعادته إليّ
لينا كالحلم سحريا شجيا
فكأني قد تنفست شجونه
وكان الصوت في طيات صدري
رجع اليوم حنينه
فأراه
بدويا خطت الصحراء لا جدوى خطاه
موحشا يرقب آثار الطلول
من زمان
غير أني
كلما استيقظ في قلبي اشتياق
لمزيد من تداني والتصاق
كلما ضج نداء البوح
في أرجاء ذاتي
كلما بوغت أني
أتناهى بانسراب اللحظات
كلما أحسست أني
بعض دفء الآخرين
خلتني عدت أراه
بدويا خطت الصحراء لا جدوى خطاه
سار في عينيه وهج الشمس
والرمل وعود برمال
ومدى الصحراء صمت
وعذابات ارتحال،
فتغنى
وسرى الصوت على مد الصحارى العربية
مودعا في الرمل غصات أغانيه الشجية.
اعداد: عبد العالي بركات