ألف.. باء..

مبدعون يكتبون عن الطفولة والبدايات

ما أكثر المبدعين الذين نعرفهم.. نقرأ لهم، نقرأ عنهم.. أو نلتقي بهم في محافل ومنتديات ونستمع لأحاديثهم.. ونستمتع بالجلوس والإنصات إليهم.. لكن، غالبا ما نجهل حكاياتهم الأولى وظروف نشأتهم وملابسات ارتباطهم بالثقافة والأدب والإبداع… إلا من سجل أو دون ذلك صراحة أو ضمنيا في تصريحات صحفية أو من حاول النبش في “سوابقه” الشخصية فيما يشبه السيرة الذاتية..
في هذه السلسلة اليومية التي نقترحها على قرائنا الأعزاء خلال هذا الشهر الكريم، قمنا باستكتاب بعض مبدعينا وكتابنا لاختراق مساحات الصمت وملئها بمتون سردية تحتل أحياز مشوقة للبوح والحكي.. علنا نسلط بعض الأضواء على “عتمات” كانت مضيئة في زمنها وأفرزت شخصيات وتجارب وربما نماذج يقتدي بها القراء وعشاق الأدب والإبداع..
هذه زاوية، إذن، لتوثيق لحظات استثنائية من عالم الطفولة، تتعلق بالمرور من عالم الطبيعة إلى عالم الثقافة، عبر اللقاء الأول بعالم الكُتّاب أو المدرسة وبمختلف الحكايات المصاحبة: الدهشة الأولى في الفصل.. الانطباع الذي يخلفه المعلم أو “الفقيه” لدى التلميذ.. تهجي الحروف الأولى.. شغب الطفولة وأشكال العقاب المادية والمعنوية.. انتظار الأمهات أمام باب المدرسة.. زمن الريشة والدواة ولطخات الحبر في الأصابع وعلى الملابس والدفاتر.. مقررات الراحل بوكماخ الشهيرة، وغيرها من التفاصيل التي التقطتها تداعيات مبدعين مغاربة، والتي كانت البدايات الأولى التي قادتهم إلى ما هم عليه اليوم والتي بكل تأكيد، ستتحكم، قليلا أو كثيرا، في ما سيكونونه غدا.
إليكم بعضا مما اخترنا لكم من هذه الكتابات العاشقة..

< إعداد: زهير فخري

الحلقة 13

مع القاص والروائي محمد أمنصور

من فردوس الملائكة الصغار إلى جحيم الشياطين الكبار

من قال إن الماضي ينتهي أو أن الحاضر يطمس كل معالم الماضي؟.. تتلاشى الوقائع ويبقى الأثر. تمحو الذاكرة التفاصيل فتطفو الروائح والظلال والأطياف. لا أجد في ذاكرتي تلك الواقعة النمطية لصدمة اللقاء الأول بالمسيد، ولا تلك الجملة المتحفية للأب التقليدي متوجها إلى فقيه جهم بجلباب وعصا أشبه ما تكون بالسيف البتار.. أنت تقتل وأنا.. العنف لا ينسى، ولو كانت لحظات البدء تلك قد تعرضت لعنف أخرق لانبثقت اليوم في جسدي شاخصة كالوشم. هذا لا يعني أن طفولتي كانت سعادة خالصة، ومجرد تحليق خفيف لملاك أخف.
المنزل الذي أقطن فيه اليوم يوجد بجوار أول جامع أطفال ألحقني به والدي لأخرج من نور البراءة إلى هجانة التدجين. لذلك أجدني كلما خرجت في الصباح متوجها لقضاء غرض ما، أو وجهة ما أستعيد بالكامل شذرة بصرية من ذكريات ذلك الزمن الغابر. أنغمر في إحساس دافئ هو مزيج من الحنين والحسرة والفرح الملتبس لما أرى وجه الطفلة مليكة، أختي التي رحلت عن دنيانا في عز شبابها، تمسك بيدي ونحن نركض معا تلك المسافة الفاصلة بين بيتنا و”الجامع”، مسافة لا تعدو مائتي متر. أريد أن أتذكر وجه الفقيه فأتذكر وجه مليكة، الطفلة الشقية التي تكبرني بعام وتأخذ بيدي من وإلى الجامع، نركض معا لأن أحدنا يريد أن يبول والجامع ليس به مرحاض.. بدون مليكة لا أستطيع أن أتأكد من انتساب مثل هذه الوقائع السرابية إلى عالم الحقيقة في ذلك الزمن الغائر في الغياب. كيف كان وجه الفقيه؟ سأراه بعد عقود، يدلني عليه أبي فلا أتذكر ملامح وجهه. كنت كمن يراه لأول مرة. ومع ذلك، فإن عودتي إلى هذا المدار الجغرافي في قلب حمرية، ومروري اليومي بمحاذاة الروض/الجامع، والبيت الذي لم يعد له وجود في حيه الخلفي، كل هذه الأشياء تمنحني يوميا إحساسا بالامتلاك. أقول لنفسي قد أكون ضيعت التفاصيل؛ فالذاكرة تخون، لكن الشحنة الوجدانية باقية تنبعث فوارة معلنة عن حياة كانت هنا، عن طفولة مرقت من هناك..
في المقابل، لا أنسى شيئا من خطواتي الأولى في “جامع” البادية. ذلك العمر الثاني والفرصة المضاعفة التي أتاحها لي أصلي الأمازيغي. فالعطلة الصيفية بالنسبة لي لم تكن مجرد لعب وشقاوات وشغب. كانت كذلك، وأساسا، موسم تعلم وتحصيل قرآني في “المسجد الأمازيغي” القابع في تلك الهضاب الممتدة بمحاذاة أحد الأنهار المتفرعة عن أم الربيع في عمق جبال الأطلس المتوسط.. مع أطفال وفتيان متفاوتي الأعمار يوحدهم اللوح والصلصال والصمغ وحفظ القرآن.
هذا الطابع الدائري لعلاقتي بـ “الجامع المديني”، وهذه الازدواجية في التعلم الأولي المتراوحة بين المدينة والبادية يمنحانني إحساسا غامضا بتلك الاكتشافات ذات الطابع البدئي. لا أريد أن أضفي طابعا خرافيا على تلك الأحداث البسيطة، ولكن أذكر أن سؤال اللوح والصلصال والصمغ وقلم القصب والجلابيب وأجر أربعة ريالات للفقيه كل يوم أربعاء سترسخ في ذهني ولو بشكل ملتبس، التميز اللافت لسبورة المدرسة والطباشير والمدواة في مدرسة المدينة؛ ناهيك عن الفرق بين الفقيه الأمازيغي والفقيه أو المعلم المديني، والفرق بين أطفال الجامع المديني من عمر واحد وشعب الجامع الأمازيغي من أطفال صغار وفتيان وشبان متفاوتي الأعمار.
ماذا أكون قد تعلمت من الجامعين؟.. سؤال لا أستطيع الإجابة عليه حتى ولو أردت. فإذا كنت قد أودعت في صدري بعض سور القرآن من تحصيل الجامع الأمازيغي، فأنا لا أفهم لماذا ظل حفظ القرآن في المدرسة العصرية عصيا على ذاكرتي الضعيفة أصلا؟.. هل استجابة ذاكرتي للحفظ في الجامع الأمازيغي نابعة من نمط التدريس: الالتحاق فجرا بالمسجد. الانتشاء برائحة الصلصال والصمغ. الاستمتاع بعملية المحو وإعادة الكتابة بقلم القصب على يد أحد نبغاء الحفظ من الفتيان المرشحين لخلافة الفقيه. الاستظهار بصوت جهير في جوقة من الحفظة غير متناغمة كحفلة رقص يقيمها النحل على شرف ملكتهم وهي في حالتي: الملك/الفقيه. الخبط بقبضة اليد اليمنى على اللوح استجلابا لرسوخ الأحرف القرآنية. البحث عن موقع في النسق التراتبي للأطفال والفتيان. نعم. أذكر أن أهم ما كان يميز الجامع الأمازيغي هو تلك التراتبية المعلن عنها في قيمة الطلاب، والتي يكرسها الفقيه، وبخاصة مع أولياء عهده المتنافسين على خلافته. لكن، علي أن أعترف. لم يكن وضعي بين هؤلاء مطابقا لأوضاعهم تماما. فإذا كان طموح الفتيان الكبار منهم أن يصيروا حملة لكتاب الله في صدورهم بما قد يجلب لهم التتويج ذات يوم كفقهاء، فأنا كان لي وضع مختلف ليس في كل الأحوال وضع المقيم، لنقل إنه وضع الضيف القادم من المدينة والذي لا يريد له أبواه في صيف قائظ أكثر من حفظ بعض ما تيسر من القرآن وليس كل القرآن.
في الجامع الأمازيغي كان لي طموح متواضع، لم أكن أحلم بأن أصير ذات يوم فقيها حتى أتماهى مع مشهد المنافسة القرآنية الضارية بين نجباء فتيان تلك الرقعة من جبال الأطلس. أما في جامع المدينة، فكان الأفق مفتوحا على المدرسة الابتدائية ـ تلك التي فاجأني حجم سبورتها، وقاعة الدرس الأوسع من “وكر” الفقيه المديني بما لا يعد من الأمتار والمسافات اللانهائية في عيني طفل يلقى به من اكتشاف إلى آخر. وبسبب ترحال الأسرة من منزل إلى آخر، سيتم تنقيلي في غضون أسابيع قليلة إلى مدرسة عبد المومن الموحدي، وفيها ستستقر ذاكرتي على أول معلم واضح ملامح الوجه والقامة واللباس، أتذكره جيدا إلى اليوم وهو السيد عبد الحفيظ، صديق الوالد الذي كان يضع على رأسه طربوشا سأنتبه فيما بعد إلى أنه يشبه طربوش الملك محمد الخامس الذي كانت صوره تملأ قاعات الدروس في المدرسة.
قد يكون إحساسي بالحظوة في تلك المدرسة مع المعلم عبد الحفيظ، الفقيه الوطني، ما جعل عبوري الطفولي بها يكتسي صبغة الحلم الوردي، فلا أتذكر من ذلك الفردوس المفقود إلا اللعب في ساحة المدرسة وجمال الأشجار التي تملأ ساحتها وتطوقها من الخارج، ثم؛ وهذا هو الأهم: نظافة القاعات، والنظام المبهج في كل شيء. لكن جرحا حرجا سيؤذي ذاكرتي بعد ثلاثة عقود عندما تحولت تلك المدرسة إلى مؤسسة للأعمال الاجتماعية لرجال التعليم فوجدتني ذات عيد أضحى وأنا أبحث عن شراء كبش أتفحص وجوه أصحابي الصغار تطل من خلال وجوه أكباش العيد المرصوصة في القاعة نفسها.
كيف تحول فضاء المعلم عبد الحفيظ حامل طربوش محمد الخامس من مدرسة أنيقة تحلق فيها الملائكة إلى حظيرة أغنام تزكم وتغثي بالروائح؟.. سؤال يخرجنا من فردوس الملائكة الصغار ليزج بنا في جحيم الشياطين الكبار؛ وإذن؟.. لا جواب.

الوسوم ,

Related posts

Top