يشتغل عدد من الباحثين اليوم على محاولة دمج العلوم الإنسانية ضمن أدوات الفقيه، ليستفيد من ترسانتها المعرفية، وأدواتها المنهجية، حتى يتسنى له إنتاج فقه حديث، يعالج المشاكل الراهنة بحلول راهنة أيضا.
ليس الأمر جديدا على الإطلاق، عبر التاريخ الإسلامي كان الفقهاء يقتبسون أدوات معرفية لتدعيم العلوم الإسلامية، ليس المنطق وحده من تم استدعاؤه والاستفادة منه. لقد تعددت أدوات العلوم الإنسانية التي دخلت في صلب عمل الفقيه كعلوم اللغة بصفته علما من العلوم الإنسانية، وقواعد الأقيسة العقلية، وبعض المفاهيم المنتمية للحقل الإنساني كمفاهيم المصلحة وعلم الاقتصاد وغيرها.
يمكننا اليوم أن نقول إن العقل المعاصر لم يعد يقبل هذا الانقطاع الطويل في ممارسة الاجتهاد، وأعني بذلك التوقف عن الاستفادة من العلوم الإنسانية، بعد أن سلك المتقدمون خطوة تاريخية باستعمال هذه العلوم وعاء لفهم الدين وتأويله، يجب علينا اليوم استحضار هذا الاستثمار لتجديد انطلاقة هذا الدين متحررا من الاستغلال الإيديولوجي، بل ومراقبا عبر أدوات العلوم الإنسانية لحمايته من الاستغلال في وعي المسلمين.
لكن.. ما هي الضمانة الجوهرية التي تحمي هذا الدين من محاولة تحريفه لمصلحة ضيقة؟ وأي يد أمينة هاته التي يمكن أن تحفظ الدين من أي تشويه أو تلاعب؟
الحل في نظري يكمن في قراءة تاريخ العلوم الإنسانية بعمق، ورصد تطور هذه العلوم وكيف نجحت هي نفسها في تجاوز هاته المشكلة، لنتابع القصة من لحظة تاريخية حاسمة حين أرادت العلمانية التدخل في صياغة دين على مقاس أحد علمانيي فرنسا، محاولا ذلك من منطلقات إنسانية بزعمه.
ساعدت الثورة الفرنسية بتبعاتها الدموية والمأساوية على قيام المنهج الوضعي، الذي يعني تطبيق منهج العلوم التجريبية على دراسة وتفسير الظواهر والمجتمعات الإنسانية، يقول “أوجست كونت” مؤسس هذا المنهج: “إننا ما دمنا نفكر بمنطق وضعي في مادة علم الفلك أو الفيزياء، لم يعد بإمكاننا أن نفكر بطريقة مغايرة في مادة السياسة أو الدين. فالمنهج الوضعي الذي نجح في العلوم الطبيعية غير العضوية، يجب أن يمتد إلى كل أبعاد التفكير”.
كان أوجست كونت مهموما بسؤال الأنسنة في الدين، لكنه أراد وضع دين جديد، دين على مقاس الفكر الوضعاني. لكن محاولاته لم تجد نفعا، بل أوحى منهجه الوضعي للفاعلين السياسيين والمثقفين بضرورة التخلص من أعباء الدين، الأمر الذي فتح بابا واسعا لإلحاد الدولة والمجتمع في فرنسا.
محاولة “أوجيست كونت” لأنسنة الدين بصياغة دين فهمه هو، ستفشل من حيث أنها أنتجت فكرة أن “الإلحاد هو الحل”، وفشلت من حيث أنها لم تعترف بأنها مجرد فلسفة لفهم الدين، بل اعتبر منهجه الوضعي السبيل الوحيد لتجاوز الصراعات الدينية.
النجاح سيكون حليف فلسفة إيمانويل كانط، الذي سيدعو للتوقف عن افتعال الصراع الديني بين الطوائف المسيحية في أوروبا، لأن الغيب لا يمكن حسمه إلا بالإيمان أو الإنكار دنيويا، ولا يمكن رصد حسمه أخرويا.
لقد كانت هذه الدعوة بمثابة خروج من الحلقة المفرغة، لذلك أجدني من أشد المعجبين بسيرة إيمانويل كانط الفكرية التي انعكست على حياته الخاصة، حين انقلب من الإيمان إلى الإلحاد، ثم عاد مرة أخرى إلى الإيمان بعقل متنور يفهم أهمية الدين، ويؤمن أن الإصلاح الديني يأتي من داخله وتحت شرعيته وباحترام كينونته، هذه الفلسفة ستحقق فيما بعد استقرار العلوم الإنسانية، وسيفهم عبرها الفرق الجوهري بين دراسة المادة ودراسة الإنسان.
لقد جنبت أدوات العلوم الإنسانية البلدان الأنجلوساكسونية حربا دينية اشتعلت في هذه البلدان، ذكاء السلطة الدينية في بريطانيا منح للعلم والعلماء هوامش واسعة من الحرية، وفي مقابل ذلك حفظ هؤلاء العلماء للدين استقرارا واحتراما خاصا، كما لم يعارضوا تأثيره في الحياة الاجتماعية.
أشير هنا إلى مقدار التشابه الكبير بين الإسلام والبروتستانتية، مثل رفضهما لسلطة الكهنوت المطلقة في التشريع وتفسير النص الديني.
نقطة الاستفادة التي تهمنا هو نجاح المسيحيين البروتستانت في الحفاظ على معتقدهم بالارتكاز على نقطتين تاريخيتين مهمتين، الأولى تقدير حرية الفرد والمجتمع في فهم الدين، مما أنتج عبر الزمن مجتمعا متدينا حي الوعي، يخلص لحلول رفيعة في تدبير شأنه الديني، دون أن يكبل نفسه بسلطة رجال الدين، الذين ظلوا في هذه التجربة حراسا للمعرفة الدينية، وليسوا محرضين لتوجيه التفسير الديني نحو التطرف والتضييق على الناس.
وانطلاقا من التأمل في قراءة مسار تطور العلوم الإنسانية وتأثيرها في البيئات التي حافظت على أنماط التدين داخلها، نجد أنه من الضروري اعتبار هذه العلوم الجديدة نسبيا في تاريخ البشرية (علم الاجتماع ـ علم النفس – علوم التربية..) علوم آلة لفهم الدين، أي اعتبارها أدوات علمية لفهم وتوثيق وتنظيم المعرفة الدينية، وعليها أن تسهم مع علوم الآلة السابقة في تجديد هذا الدين ومصالحته مع واقعه.
إن ضرورة جعل هذه العلوم مساهمة في بناء المعرفة الدينية ضرورة مصيرية، كأهمية الاستعانة بالمنطق الأرسطي في تنظيم المعرفة الشرعية من لدن الفقهاء في قرون مبكرة من تاريخ الإسلام.
لا أدعو هنا طبعا لأن يكون الفقيه محتكرا لعلم النفس والاجتماع وغيرها، لا يمكنهم ذلك أصلا!، بل أقصد أن يجد علماء النفس والاجتماع وغيرهم من المفكرين والعلماء في شتى مناحي العلوم الإنسانية، مكانا لهم ضمن إطار صياغة الفهم الديني، وإنتاج معاني دينية تسد الحاجات الروحية المعاصرة.
إن العلوم الإنسانية في فاعليتها الراهنة ستكون أداة المسلمين لتخليد رسالة النبي صلى الله عليه وسلم من أجل منع احتكار السلطة الدينية من طرف فرد أو جماعة.
سيكون استعمالنا لهذه الأدوات تحت أعين الرأي العام، وستحتكم لمعايير علمية صارمة من أجل تنمية الوعي الجماعي الديني للأمة، وتمييز الدين الخالص الفطري عن الديني الموازي الموظف للتسلط.
ثم إن طبيعة العلوم الإنسانية الغير حيادية والمراعية لخصوصية المجتمعات، ستعين على إنتاج معرفة دينية محمية من الصدام والتعالي على الغير، مما يتيح فرصا أخرى لنشر قيم الإسلام، وتصحيح صورته، وستقيس بشكل موضوعي أثر الدين في المجتمع، بعيدا عن المزايدات المعروفة في الفضائيات والجلسات الوعظية المتعصبة.
كما أن هذه الاستعانة ستتمكن من إكساب الدولة والمجتمع القدرة على تحديد القيم المناسبة لمواجهة التحديات المعاصرة، وتحديد القيم ذات الأولوية لدرء الأخطار أو جلب المصالح.
بقلم: د. محمد عبد الوهاب رفيقي