أي كفاءات لتدبير المؤسسات الثقافية؟

بيان24: عبد العالي بركات

تدبير المؤسسات الثقافية عرفت تطورا جد مهم على الصعيد العالمي. مهن مختلفة تقوم بدور تدبيري للثقافة، انطلاقا من إدارة الخدمة العمومية، والإدارة المالية، وعمل الفنانين والمنشطين والمكلفين بالوساطة وأخير الإداريين المكونين خصيصا عبر مسالك خاصة داخل الجامعات ومختلف المعاهد. المغرب من جههته عرف تطورا ثقافيا هاما وتمكن من وضع الأسس والدعامات الضرورية لتطور ملحوظ للثقافة والفنون، حيث تتوفر بلادنا على 136 دار للثقافة و48 بناية مسرحية و52 قاعة للعروض التشكيلية تابعة لوزارة الثقافة ووزارة الشباب والرياضة والجماعات المحلية. القطاع الخاص بدوره يساهم في إغناء هذا الحقل بأنشطته الثقافية متنوعة جدا.
 في الكثير من الحالات، يلاحظ أن تدبير المؤسسات الثقافية والأنشطة الثقافية ليست في المستوى المرجو، المردودية قابلة للنقاش، البرمجة لا تلبي حاجيات الجمهور، تموقعها في المحيط غير كاف، الشروط المهنية دون المستوى.
 عدة عناصر تدخل على هذا الخط، لكن قضية التكوين والكفاءة وسيرة الإداريين تعد من بين النقط الحاسمة بهذا الخصوص.
 لهذا الغرض نظم المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي والمدرسة الوطنية العليا للفنون وتقنيات المسرح برعاية وزارة الثقافة، ندوة دولية حول موضوع “أي كفاءات لتدبير المؤسسات الثقافية؟”، يومي 30 نونبر وفاتح دجنبر بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية.
 فقد ذكر مدير المدرسة الوطنية العليا للفنون وتقنيات المسرح ثيري باريانت في مداخلته بالدور الأساسي الذي تلعبه المؤسسات الثقافية في تطوير المجتمع، بشرط أن يتم تسييرها في أفضل الظروف، وتوفير أدوات العمل والتركيبة البشرية المتمكنة. كما تحدث عن الأهمية التي تشكلها هذه المؤسسات في ما يخص التقارب بين الشعوب.
 وأشار الكاتب العام لوزارة الثقافة إلى أهمية هذه الندوة، خصوصا في الشق المرتبط بالإطار القانوني، مذكرا بوعي الوزارة بالنقائص القائمة، وهو ما يجعلها حريصة على سد الخصاص، حيث تعمل على إنشاء ست مؤسسات ثقافية في السنة. ونوه بالشراكة التي تقيمها الوزارة مع منظمات المجتمع المدني. كما أشار إلى رؤية الوزارة في ما يخص تطوير الصناعة الثقافية، عبر عنايتها بدعم مختلف الفنون.
 وتحدث عن بعض الإكراهات التي تواجهها الوزارة، المتمثلة على الخصوص في الموارد المالية والبشرية، حيث هناك 125 بناية مسرحية، تشكو بعضها من صعوبة التسيير. رغم ذلك فإن الوزارة حريصة على النهوض بالبنيات التحتية لكي تكون في مستوى عالمي، مذكرا في هذا الصدد بمسرح وجدة الذي يعتبر مفخرة، وكذا مشروع مسرح الدار البيضاء الذي قطع أشواطا كبيرة من حيث التشييد.
 ولم يفته التذكير بأن تدبير المؤسسات الثقافية يشكل تحديا حقيقيا، على اعتبار أن ذلك يتطلب خلق مهن ذات صلة. علما بأن التكوين لا يزال دون مستوى التطلعات. فكل السياسات الثقافية لا يمكن لها أن تعطي ثمارها في غياب الكفاءات المتمكنة من العمل الميداني وليس فقط الممتلكة للنظريات. وأضاف أن ذلك لا يعد مسؤولية الوزارة وحدها، بل كل الفاعلين الثقافيين ذوي الصلة.
 فتدبير الثقافة، يجب أن يتم بشراكة مع الجماعات المحلية ومختلف الفاعلين الثقافيين، وأبرز في هذا الإطار الدور الهام الذي يمكن أن تلعبه ورشة الجهوية المتقدمة، غير أن ذلك يطرح ضرورة تطوير الجمعيات الثقافية والمهنيين الثقافيين، علما بأن هناك إرادات فردية، لكنها بحاجة إلى تأطير.
 وشدد على الأهمية التي تكتسيها الاستفادة من التجارب الأجنبية، خاصة الفرنسية، دون أن يعني ذلك استنساخها، بل العمل على خلق نموذج ثقافي يلائم حضارتنا وخصوصية هويتنا.
 وركز أستاذ المعهد العالي للفنون الدرامية والتنشيط الثقافي محمد بوبو، حديثه على الشخصية التي ينبغي أن يجسدها المسير الثقافي، فهو مطلوب منه أن يكون له إلمام بتاريخ الفن والأفكار، باعتباره حجر الزاوية في تدبير المؤسسات الثقافية، كما ينبغي أن يكون له إلمام  بعلم الاجتماع، وصناعة الكتاب وغيره من المنتوجات الثقافية، وكذا معرفة بالفضاءات، فبالنظر إلى التنوع الثقافي لبلادنا، نجد الملامح الثقافية للمدن، ليس هي نفسها بالصحراء والجبال وغير ذلك من الفضاءات. فضلا عن ذلك -يضيف المتدخل- من الضروري أن يكون المسير الثقافي متمكنا من لغة التخاطب، وله معرفة بالمحاسبة والمعلوميات والماركتينغ وغير ذلك من الخصائص التي يتطلبها العمل الإداري داخل المؤسسات الثقافية.  
 إن التكوين في عدة فنون والجمع بين ما هو نظري وعملي والخضوع لتداريب والصبر وعدم الارتجال –يؤكد الأستاذ بوبو- من بين الخصائص الأساسية التي ينبغي أن تتوفر في مدبر ومسير المؤسسات الثقافية، مع حمل مبدأ تقريب الجمهور من المنتوج الثقافي ودمقرطة الثقافة والرهان على المستقبل في مواجهة الجهل والتطرف.
 وتحدث بكثير من المرارة عن الوضعية التي توجد فيها المراكز الثقافية المغربية بالخارج، علما بأن عددها أقل من عشرين، لكنها مهملة من قبل وزارة الخارجية، ويكاد يقتصر تنشيطها على الجانب الفولكلوري، ولا تشتغل وفق التصورات الثقافية، مع أنها من شأنها أن تساهم في الإشعاع الثقافي لبلدنا، سيما وأن هناك ما يفوق أربعة ملايين مغربي يعيشون في الخارج.
 وشدد في ختام مداخلته على أن المؤسسات الثقافية، من الضروري أن تشتغل في مناخ ديمقراطي، ذلك أنه بدون حرية لا يكون هناك مجال للإبداع.
 وأوضحت المسؤولة عن العلاقات الدولية بالمدرسة الوطنية العليا للفنون وتقنيات المسرح مانييل ريزوس أن القطاع الثقافي في الدول المتحضرة من أهم العناصر المحركة للاقتصاد، ولهذا الغرض يتم تخصيص ميزانية محترمة لتفعيله، فهذا القطاع له دور أساسي في الانفتاح ودمقرطة المجتمع عن طريق الاعتراف بالتنوع الثقافي وفتح باب التخيل والتفكير.
 الثقافة -تؤكد المتدخلة- تعكس صورة هوية المجتمع، وبالتالي من الضروري خلق شروط ملائمة لتفعيلها عبر إنشاء مؤسسات ثقافية لائقة، مع العناية بتهييء فاعلين مهنيين لتسيير هذه المؤسسات، أخذا بعين الاعتبار –تضيف مانييل ريزوس- أن الخلق الفني صناعة وتوزيع ونقد، كما تكون وراءه مهام مختلفة ومتعددة.
 وشددت على أهمية المؤسسات الثقافية في خلق دينامية اقتصادية، مما يتطلب تلاحم كل الفاعلين المرتبطين بهذا القطاع.
 وخلصت إلى أن مسيري المؤسسات الثقافية ينبغي عليهم أن يخضعوا لتكوين إداري، وأن تكون لهم معرفة شمولية بكل ما يرتبط بهذا القطاع.
  وتحدث باسكال بونيي الأستاذ المهتم بالسياسة الثقافية، عن دور المؤسسات الثقافية في خلق إشعاع اقتصادي للبلاد، مذكرا بأنه لا يمكن حدوث تطور دون وجود الثقافة ضمن البرامج السياسية، غير أن النهوض بالحقل الثقافي والفني يتطلب توفير الإمكانيات المادية والإدارية.
 وأكد على الدور الذي تلعبه كذلك المؤسسات الثقافية في التصدي للإرهاب ومختلف مظاهر التطرف، وأتى في هذا الإطار بنموذج وزارة الثقافة الإيطالية التي عملت في اتجاه رفع ميزانية هذا القطاع لمواجهة الإرهاب تحديدا.
 وشدد على أهمية التكوين الإداري الثقافي لتسيير المؤسسسات وتدبيرها على أحسن وجه. كما لفت الانتباه إلى أن اللامركزية ساهمت في حركية الثقافة. ودعا إلى العمل على سياسة القرب بشراكة مع الجماعات المحلية، بل ذهب أكثر من ذلك من خلال دعوته إلى وجوب إدماج الثقافة في السياسة المحلية.
 وأشار المتدخل كذلك إلى مدى مساهمة الفنون في إعطاء صورة عن المجتمع وخلق التعايش بين أفراده وإغناء المعرفة والحوار والتثاقف وتقليص مساحة الخلاف.
 وأوضح الأستاذ بالمدرسة الوطنية للتجارة والتدبير الطاهر القور أن تسيير المؤسسسات الثقافية يتأسس على المعرفة، ومن ثم فهو يتطلب كفاءة.
 غير أن الواقع يبين أن العديد ممن يضطلعون بتسيير المؤسسات الثقافية بالمغرب، ليس لهم ارتباط بالتسيير بقدر ما أن لهم تكوينا أدبيا، وهذا جانب سلبي.
 كما لفت الانتباه إلى أن بعض المؤسسات الثقافية تفتقر إلى الشفافية على مستوى التسيير، بالإضافة إلى غياب رؤية سياسية لدى الجماعات المحلية في شأن تدبير هذا المجال.
  كما اشتمل هذا اللقاء الفكري على ورشات تناولت بالأساس واقع المؤسسات الثقافية العمومية والخصوصية، انطلاقا من تحديدها والتعريف بها ودورها وموقعها في المحيط الاجتماعي، ومدى خدمتها للمنفعة العامة.
 وتم التركيز بالأساس على نقطيتين، باعتبارهما المحدد الرئيسي لنجاح المؤسسة الثقافية في لعب الدور المنوط بها، وهما التمويل والبرمجة.
 وتحدث بعض المتدخلين عن تجاربهم في ما يخص إدارة مراكز ثقافية في مدن مختلفة، حيث تمت الإشارة إلى المجهودات التي يبذلونها في النهوض بالحياة الثقافية، علما بأن بعضهم لا يتوفرون على تكوين إداري في ما يخص تسيير هذه المؤسسات الثقافية.
 وتم الحديث في هذه الورشات عن الدور الذي تلعبه المؤسسات في محاربة الظواهر الاجتماعية السلبية، من خلال تجارب ملموسة، بالنظر للخدمات الثقافية والفنية المتنوعة التي تستقطب فئات عريضة من الشباب الذين يكونون بحاجة إلى سد فراغ أوقاتهم.
 وفي إطار الحديث عن الإكراهات، تمت الإشارة إلى الافتقار إلى الموارد البشرية، خاصة في المجال المرتبط بما هو تقني. إضافة إلى ضعف ميزانية التسيير، مما ينعكس سلبا على البرمجة.
 وخلصت هذا الورشات إلى ضرورة تأهيل الكفاءات التي تتوفر على ثقافة شمولية في مجال تسيير المؤسسات الثقافية، مع الحرص على العناية بالتكوين المستمر.

Related posts

Top