هذا جديد إصداراتي
ــ في إطار مشروع “دفاتر الجديدة” الذي أشرف عليه منذ عام 1993 فقد نشرت مؤخرا كتابي رقم 17 في هذه السلسلة وهو كتاب تحت عنوان “الجديدة 1949-1969، شهادات نسائية”. وقد اشتغلت في هذا العمل تحت إشراف المرحومة فاطمة المرنيسي وكان من المنتظر أن تكتب مقدمته لولا أنه وافاها الأجل المحتوم في أواخر نونبر من العام الماضي. ويعتبر الكتاب إضمامة من الشهادات لعينة قوامها 24 امرأة تمثل أطيافا مهنية واجتماعية مختلفة لكنها تتوحد في انتمائها لمدينة الجديدة واللواتي عايشن فترة نهاية الحماية. ونذكر من بين المستجوبات العالمة الأثرية نعمة الله الخطيب، والباحثة ليلى بنعلال، والسفيرة حليمة امبارك والصحفية ثريا السراج وغيرهن، بالإضافة إلى ثلاث نساجات أضفتهن بنصيحة من الراحلة فاطمة المرنيسي لإغناء التمثيلية.
ويرمي هذا الكتاب تحقيق ثلاثة أهداف وهي: رسم صورة للوضعية الاجتماعية والسياسية للجديدة بين نهاية الحماية وبداية الاستقلال، ثم التعرف على وجهة نظر المرأة في نوعية العلاقات الاجتماعية بين مكونات المدينة وقتها، وأخيرا الاستجابة لحاجة بحثية اعتبارا إلى أن الكتابات عن المرأة المغربية جد قليلة.
وفي نفس السلسلة يصدر لي الشهر القادم كتاب تحت عنوان “الحسين الأيوبي مسار مقاوم من مدينة الجديدة ومقالات أخرى حول المقاومة بالمدينة” وهو كتاب قدم له الدكتور مصطفى الكثيري المندوب السامي للمقاومة، ويهدف إلى التعريف ببعض المناضلين المحليين الذين قاوموا المستعمر الفرنسي. ومن خصوصيات هذا الكتاب أنه يتضمن شهادة لعسكري فرنسي سابق كان قد عايش مظاهرة 20 غشت 1955 بالجديدة والذي أدلى برأي الطرف الآخر أي كمجند سابق عبر عن وجهة نظر فرنسية.
حركية ثقافية في غياب الجمهور
– ينبغي الاعتراف بأن الحركة الثقافية في المغرب، بالرغم من عدد من العوائق المادية، تبقى مع ذلك نشيطة سواء من حيث حركية النشر أو من حيث حركية تنظيم اللقاءات والندوات. لكن هذه الحركية لا تتجلى للأسف على مستوى إقبال الجمهور على المنتوج الثقافي بكل أشكاله. وهذه فعلا مفارقة كبيرة بمعنى أن الأدباء والكتاب والفنانين كمن يعيشون في جزيرة لا يؤمها الناس. وهذا يذكرني بما كان يقوله الأستاذ محمد برادة في سبعينيات القرن الماضي من أن وجود الأدب في المغرب هو مجرد وجود رمزي. فالكل يلاحظ العدد القليل للحضور (بين 20 و30 شخصا) في اللقاءات الثقافية حتى في مدن كبيرة مثل الدار البيضاء والرباط. يذكرني هذا الواقع كذلك بقولة للصديق محمد صوف فيما يخص المهرجانات القصصية والتي هجرها الجمهور ولم تعد كما كانت عليه في الزمن الجميل، حيث أصبح حضورها مقصورا على أهل القصة دون غيرهم في غياب شبه تام للمتلقين. أما أسباب هذه الوضعية فهي متعددة ومتشابكة منها تهميش التعليم العمومي، وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على الشباب وغير الشباب، وتدني تداول المقروء.
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
ــ الجمعيات على اختلافها تقوم بما تقدر عليه من أجل تنشيط الساحة الثقافية في المغرب، وكمثال عن هذه الجمعيات “اتحاد كتاب المغرب” الذي يساهم سواء كمكتب مركزي أو كفروع في الحركية الثقافية رغم الإكراهات الكبيرة التي تعترضه وتعترض جهود أعضائه. وأنا لا أتفق مع بعض الأصوات، وهي قليلة على كل حال، التي تنتقد عمل اتحاد كتاب المغرب وتعيره بالقصور. بل أنا أدعو هذه الأصوات إلى أن تعمل هي نفسها ولا تكتفي بالقول “اذهبا أنت وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون”. والسبب في ذلك أن اتحاد كتاب المغرب هو جمعية تطوعية تعتمد على مبادرات أعضائها بمعنى أنه على قدر أهل العزم تأتي العزائم. ففروع الاتحاد يمكن أن تكون نشيطة إذا ما نشط أعضاؤها ويمكن أن تخفت إذا ما خفت حماس أعضائها، أي ليست هناك وصفة سحرية ينبغي استخدامها خارج مجهود أعضائها وفي غياب اهتمام الدولة والجماعات الترابية بقطاع الثقافة.
مظاهر وقشور
ــ قال وزير الثقافة محمد الأمين الصبيحي في وقت سابق من هذا العام إن المغربي لا يخصص للقراءة سوى دقيقتين في السنة. وإذا أضفنا لذلك بأن هذا المغربي لا يتردد على أروقة الفن التشكيلي ولا على الندوات والمحاضرات. وإذا علمنا بأن العديد من دور السينما أغلقت أو هدمت، ودور الشباب فقدت بريقها، فهذا الوضع في حد ذاته ينبئنا بقيمة القضايا التي يناقشها المغاربة، بمعنى أن لا قيمة لها تقريبا. لأنه لا يمكن أن تناقش من فراغ فكري ومن خواء نظري. فغالبية النقاشات حاليا تهتم بالمظاهر والقشور وتقف عند الفرقعات الإعلامية الوقتية. بمعنى آخر ليس هناك نقاش علمي حول قضايا حقيقية مثل قضية تردي التعليم في المغرب أو تردي الإنتاج المسرحي أو تدني عطاءات الممارسة الرياضية. فكيف نقبل أنه مثلا في الألعاب الأولمبية الأخيرة حصدت إثيوبيا ثمان ميداليات وهي دولة فقيرة في حين لم يحرز المغرب سوى على برونزية صغيرة. هل ناقش أحد هذا الوضع الكارثي للرياضة المغربية وتساءل عن مصير الأموال التي ضاعت هباء منثورا. إن من يملك بعض الوعي التاريخي سوف يعلم بأن هذه الوضعية لم تكن مفاجئة لنا بل كانت منتظرة. ولعلك تابعت في أحد اللقاءات التلفزية مع المفكر عبد الله العروي أن هذا المفكر أجاب عن سؤال حول الوضعية بما معناه أن ما آل إليه الأمر هو نتيجة طبيعية لصيرورة استمرت منذ ثلاثين سنة وربما أكثر دون أن تعالج في وقتها العلاج الملائم، رغم أنه ارتفعت أصوات منذ ذلك الحين تنبه إلى هذا المآل إن لم يتم تدارك الوضع.
الكاتب المغربي يعمل في ظروف غير مواتية
– أعود لأقول إن الكاتب أو الباحث المغربي يعمل في ظروف غير مواتية. فهو كاتب غير متفرغ، عليه أن يبحث أولا عن طعامه ثم من بعد ذلك يمكنه أن يساهم بالكتابة والتأليف. وإذا ما ألّف فعليه أن يوزع ثم عليه أن يجري وراء تنظيم توقيعات لكتابه، أي أن عليه أن يحارب في عدة جبهات. قساوة هذا الواقع هو الذي يجعل الكثيرين ينسحبون سامحين في الجمل وما حمل. يجب أن نفهم أن الظروف تغيرت اليوم وأصبح من الصعب أن يعمل الكاتب بطريقة الهواية في مواجهة عراقيل الطبع والتوزيع ومحدودية المقروئية. ثم حينما تكشف الإحصائيات الحقيقة المرة وهي أن المغربي يخصص فقط دقيقتين سنويا للقراءة أي عمليا لا يخصص لها وقتا، عندها نفهم لماذا غابت أسماء عن ساحة النشر.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فغالبية هذه الأسماء التي توقفت عن الكتابة لا تكتب ضمن مشروع ثقافي أو خطة محددة. بمعنى أنها كتبت ذات مرة مجموعة قصصية أو شعرية أو بحث دكتوراه، ثم لم يعد عندها جديد تكتبه فتوقفت. وباعتراف عدد من الناشرين فالشعر اليوم لم يعد يجد قراء. ومن هنا نؤكد على ضرورة العمل في إطار مشروع يضعه كل كاتب لنفسه وفق إمكانياته المادية والمعنوية. وقد سمعت هذه الملاحظة أول ما سمعتها من المرحوم عبد الكبير الخطيبي الذي جمعتني به بعض اللقاءات في الرباط والجديدة وكان يؤكد على أهمية أن يكون للكاتب أو الأديب مشروع يعمل على ضوئه ويحدد مسار تطوره. ومن جميل الأشياء التي قالها الخطيبي ذات يوم “أنا لا أضيع الوقت في الكلام وحتى إن أردت أن أتكلم عن أحد فإنني أخصص له كتابا”.
ينبغي قبول الرأي والرأي الآخر
ــ مبدئيا لا يقبل أحد تعريض أديب للمحاكمة القضائية من أجل إنتاج فكري أو أدبي أو فني. والحمد لله أن مثل هذه القضايا نادرة الوقوع في المغرب. ونذكر أنه في سنوات الرصاص كانت بعض المؤلفات تتعرض للمنع أو للتضييق دونما محاكمة ودون وثيقة مكتوبة. لقد سمعت حاليا تعريض أديب للمحاكمة من أجل رواية سبق أن نشرها وبالطبع فهذا الأمر شيء مؤسف وهو ربما ناتج عن سوء فهم أو سوء تفاهم ليس إلا. وحتى الذين تحدثوا عن هذه الرواية لم يقرأوها وإنما تضامنوا مع صاحبها من حيث المبدأ. وعلى أي فإنه ينبغي أن نقبل الرأي والرأي الآخر، إذ أنه من حق أي متضرر من كتابة ما أن يلجأ، إذا أراد، إلى العدالة. فلا أحد فوق القانون، والمواطنون جميعا سواسية في المواطنة.
الاحتفال بالدخول الثقافي لا يهم إلا فئة محدودة
ــ ليس هناك استعداد لأي احتفال ثقافي، أو إن شئت فهو استعداد رمزي ولا يهم إلا فئة محدودة في بعض المدن التي توجد بها بعض دور النشر والتي سوف تصدر كتابين أو ثلاثة. هذا كل ما في الأمر. قبل شهرين شاركت في لقاء بمدينة الجديدة إلى جانب الناشر عبد القادر الرتناني الذي تحدث عن تراجع مهول للقراءة في المغرب، وقال إن مدينة الدار البيضاء مثلا التي كانت توجد بها 60 مكتبة مهنية لم تبق منها الآن سوى 15. وإذن فأمام اندثار المكتبات المهنية التي تبيع الكتب الجديدة فكيف سنحتفل بالدخول الثقافي. هل سنحتفل به كلاميا بينما الكتاب لا يباع. إن الأمر لا يتعلق بالقدرة الشرائية للمغاربة بل باندثار عادة القراءة لديهم. وها أنت تلاحظ بأن الجامعيين والأطباء والبنكيين والمدراء والمحامين لا يقرأون في غالبيتهم. وهل يقرأ مقاولو البناء وهم يربحون ملايين الدراهم، هل يعلمون بأن هناك شيئا اسمه الدخول الثقافي؟ القاص أحمد يوزفور ذات سنة رفض جائزة المغرب للكتاب وقد نشر رسالة توضيحية عرف فيها بالأسباب التي دفعته لذلك. ومن بين تلك الأسباب أنه لم يبع من مجموعته القصصية سوى مائتي نسخة من مجموع ألف نسخة. معنى ذلك بالواضح أن زملاءه الأساتذة الجامعيين في الدار البيضاء وحدها وعددهم أكثر من ألف لم يشتروا كتابه، هذا ناهيك عن الفئات الأخرى للقراء.
اعداد: عبد العالي بركات