الأغنية المغربية: إشكاليات التوثيق والحفاظ على الهوية

تشكو الساحة الثقافية المغربية من نقص فادح على مستوى التوثيق، في مختلف المجالات، ومن ضمن هذه المجالات: الموسيقى بتعابيرها واتجاهاتها المختلفة والمتعددة.
نعيش هذا الوضع، بالرغم من التاريخ الطويل للإنتاج الغنائي والموسيقي وتراكم الإبداعات وبروز تجارب جديدة، شكلت إضافة نوعية أو ساهمت في عملية التجديد.
هذا الوضع الباعث على الحسرة، نعايشه كذلك بالرغم من الطفرة التي تحققت على مستوى التكنولوجيا الرقمية والإعلام الفضائي.
لقد ظل الاهتمام بالتجارب الموسيقية المغربية محدودا جدا سواء من طرف الجهات الوصية على هذا القطاع أو منظمات المجتمع المدني أو النقابات الفنية.
هناك إذن تقصير ملحوظ في ما يتعلق بمختلف الجوانب المرتبطة بالفن الموسيقي ببلادنا، ومن ضمنها الجانب المتعلق بالتوثيق، وعيا منا بأهميته في ما يخص الوقوف على مختلف التجارب الموسيقية والرجوع إليها وتيسير البحث في خصوصياتها إلى غير ذلك من العوامل الإيجابية التي يحققها التوثيق، باعتباره علما يدرس، وليس مجرد هواية.
إن عملية توثيق الأغنية المغربية لا تنحصر فقط في تسجيل الإنتاجات الموسيقية وعرضها على منصات خاصة، بصرف النظر عن الهدف من هذا العرض والأسس التي ينبني عليها.
بل لا بد من تضافر مجهودات مختلف الجهات المعنية. على الجميع أن ينخرط في عملية التوثيق، جميع من لديهم صلة ومعرفة بهذا المجال الفني الذي ما فتئت تجاربه تتسع وتتنامى وتغتني.
الموسيقيون معنيون مثلما أن الشعراء أو كتاب الكلمات -كما درج إعلامنا على تسميتهم- معنيون.
الملحنون معنيون بعملية التوثيق. الباحثون الأكاديميون الذين اشتغلوا على الأغنية المغربية، معنيون بدورهم بالانخراط في الجهود التي تصب في عملية التوثيق.
وطبعا الوزارة الوصية على القطاع، إلى جانب والنقابات الفنية والوسائط الإعلامية ومنظمات المجتمع المدني.. وغير ذلك من المتدخلين، مطالبون بالاضطلاع بهذه المهمة الأساسية التي تصون التجربة الغنائية المغربية من الاندثار وتساهم في نشرها وترتيبها.
عند البحث -على سبيل المثال- في شبكة الأنترنت عن صفحات خاصة بالعديد من الفنانين المغاربة في مجال الموسيقى، لا نكاد نعثر عليها، لا على إنتاجاتهم الصوتية أو المصورة ولا على نبذة عن حياتهم ولا حتى على صورهم الشخصية..
الأشعار الغنائية لا يعطى لها أي اعتبار، بدليل أنه لا يتم تدوينها في أغلب الحالات.
إن عملية تدوين الأشعار المغناة تعد مسألة مهمة جدا، على اعتبار أن الكثير ممن يقومون بأداء هذه الأشعار، عادة ما لا يحسنون نطقها أو يضطرون إلى إدغام بعض الكلمات لأجل مسايرة الإيقاع الموسيقي، وبالتالي فإن المتلقي يحفظ هذه الأغاني بشكل سيء وبالتالي يضيع المعنى وتتلاشى الرسالة التي يسعى المؤلف لإيصالها إليه.
لا يمكن طبعا، تجاهل بعض المجهودات التي تصب في خدمة الأغنية المغربية. لا يمكن إغفال اهتمام بعض النقابات بالوضع الاعتباري للفنان ونضالها من أجل ضمان حقوقه الاجتماعية وغير ذلك.
لا يمكن كذلك غض الطرف عن مبادرة دعم الإنتاج الغنائي المغربي من طرف وزارة الثقافة على الخصوص، وإن كانت هذه المبادرة تظل جد محدودة ولم يتم رعايتها بما يجب.
هذه مجهودات ملحوظة وملموسة ولا يمكن غض الطرف عنها، غير أنها تظل ناقصة، نظرا لأنه لم يتم تركيز الاهتمام على جانب مهم وأساسي، وهو المتعلق كما سلفت الإشارة إلى ذلك، بالتوثيق، رغم أنه لا يتطلب تكاليف مادية باهظة، إنه يحتاج فقط إلى إرادة حقيقية في خدمة الأغنية المغربية والغيرة عليها.
أجل، يمكن التوثيق للأغنية المغربية، بشتى الطرق، بالصوت والصورة والطباعة الورقية.. هناك حاجة ماسة للوقوف على كل تجربة موسيقية وغنائية على حدة، والتعريف بمنتوجها ومسارها الفني وتطوره والقيام بدراسات وأبحاث وتسجيل مذكرات وغير ذلك مما له صلة بهذه التجربة.
لقد تأخرت بلادنا في مجال التوثيق، سواء ما تعلق بالموسيقي أو بغيرها، ويبدو أننا لم نكتسب بعد ثقافة التوثيق، بالرغم من دورها الأساسي في صيانة الذاكرة الثقافية من الاندثار والتلاشي، حتى أنه بات من الصعب الإحاطة بهذا التراث، علما بأنه في كل مرحلة تظهر تجارب جديدة أو يتم القيام بإضافات نوعية، بصرف النظر عن القيمة الإبداعية لهذه التجارب، لكن من الضروري التوثيق لها، لأنها تعد جزءا من ذاكرتنا وهويتنا.
الانفتاح على مستجدات العصر لكن…

شهدت الأغنية المغربية العصرية، خلال العقدين الأخيرين على الخصوص، تحولات ومنعطفات حقيقية، من حيث بنائها وإيقاعها وقاموسها اللغوي وحتى أدائها.
إن الظروف التي تنتج فيها هذه الأغنية، تختلف كثيرا عن السابق، ولهذا كان من الطبيعي أن يكون لذلك انعكاس على مستواها الفني والموضوعي.
يمكن الحديث عن بروز جيل جديد من المطربين الذين يسعون إلى امتلاك أسلوب خاص بهم، وهذا من حقهم، لكن وفق أي شروط يتم ذلك؟
لقد رأينا كيف أن نسبة كبيرة منهم، تحاول حرق المراحل، لبلوغ الهدف، أي الشهرة والنجومية والمكاسب المادية.
لم تعد فكرة الألبوم الغنائي واردة في أذهانهم، بما تتطلبه من وقت وبحث ومثابرة، فضلا عن الكلفة المادية.
لم تعد هذه الفئة من الفنانين تعول على التوزيع التقليدي لأعمالها الغنائية، عبر واسطة الأقراص وغيرها، حيث يتم تجميع عدد معين من الأغاني وفسح مجال أكبر أمام المتلقي للحصول على تجاوب مع إحدى أغاني الألبوم أو أكثر.
نادرا ما يكون النجاح حليف جميع محتويات هذا الألبوم، لكنه على كل حال، يسمح للمتلقي بتكوين فكرة عن صيرورته الإبداعية، وقد يكون ذلك مساعدا للدارس لقراءة التجربة في شموليتها.
مما لا شك فيه أن التلقي تأثر بالتطور الذي لحق وسائط الاتصال، وبالتالي فقد كان من الطبيعي جدا أن يتفاعل الفنان مع هذا التحول ويسعى بالتالي إلى إنتاج أعمال غنائية تتماشى مع الوضع الجديد للتلقي.
المتلقي في وقتنا الراهن، لم يعد بحاجة إلى التنقل إلى السوق لاقتناء أعمال مطربيه المفضلين، يكفيه أن يفتح هاتفه الذكي للاستمتاع بهذه الأعمال بالصورة والصوت، وأحيانا قد يجد هذه الأعمال ذاتها معروضة بأصوات مختلفة وبأساليب متعددة.
لنأخذ على سبيل المثال الأغنية البارودية التي أقامت الدنيا ولم تقعدها في ساحتنا الفنية، لقد عرضت في اليوتوب بصيغ متعددة، ومن طرف مجموعات مختلفة.
وطبعا، الغاية تبرر الوسيلة، فهناك من ينتهز فرصة انتشار عمل ما، بصرف النظر عن قيمته الفنية، للركوب عليه، وبالتالي تحقيق نسبة عالية من المتابعة والمشاهدة وما يذره ذلك من عائدات مادية، ربما قد تغنيه عن أي شكل آخر من أشكال العرض.
لكن هذا التفاعل الذي سعى إليه الجيل الأخير من الفنانين المغاربة، بالموازاة مع التطور الذي لحق وسائط الاتصال، لم يكن كله إيجابيا، بل يمكن القول إنه ساهم في إفساد الذوق الفني وأمعن في تشويه الأغنية المغربية.
تكاد هذه الأغنية تفقد هويتها، بسبب تهور بعض من يدعون أنهم فنانون وأن لديهم موهبة في الغناء واللحن وو..
لنقارن بين ظروف الأغنية المغربية بالأمس واليوم، ولنأخذ على سبيل المثال الشق المتعلق بالكلمات أو القصيدة المغناة، لقد كان الشاعر يبدع دون أن يضع في اعتباره أن ما يكتبه سيحول إلى عمل غنائي، يؤلف ويراكم النصوص، ويدعها تختمر، وعندما تتاح له الفرصة للالتقاء بهذا الملحن أو ذاك، يطلعه على جديده الإبداعي، ويدع له المجال لاختيار ما يتوافق مع فكره وذائقته الفنية.
هذه هي الصيرورة الطبيعية لإنتاج غنائي محترم.
على خلاف العديد مما يتم إنتاجه في وقتنا الراهن، حيث يتم التقاط كلمة من هنا وهناك، ويتم إلصاقها مع بعضها أو يتم اختيار أغنية أجنبية ذات إيقاع موسيقي ناجح وتلبيسها بكلمات دون اعتبار لما تؤديه هذه الكلمات من معنى.
وهناك نماذج عديدة من هذا النوع من الإنتاج الغنائي الذي كانت ظروف خروجه إلى الوجود شاذة. ومع ذلك حقق انتشارا كاسحا وأتاح لأصحابه أن يغتنوا ماديا بشكل فاحش.
في حين تراجعت وتيرة الإنتاج الغنائي الذي يسلك عادة الطريق السوي.

>عبد العالي بركات
توثيق التجربة الغنائية المغربي

Related posts

Top