في منعرجات ودروب المدينة القديمة للدار البيضاء، وحتى في أحياء شعبية أخرى، ما تزال مجموعة من الأفران التقليدية حاضرة ضمن معمار المدينة والحياة الاجتماعية للساكنة المحلية، لأنها بكل بساطة ما تزال تستقبل” وصلات” الخبز الخشبية، التي تأبى أن تندثر رغم وجود أفران منزلية أو حتى مخابز عصرية .
الغوص في مآلات هذه الأفران وماضيها، تطلب بحثا متواصلا داخل أزقة الدار البيضاء، فكانت أحيانا ” الوصلات ” الخشبية المخصصة لحمل الخبز للأفران، والتي تنساب بين الفينة والأخرى بين الدروب، موجها لفريق صحافي تابع لوكالة المغرب العربي للأنباء ولقناتها التلفزية ” 24 M “، الذي سعى إلى البحث عن سر بقاء هذه الأفران على قيد الحياة، خاصة تلك التي صمدت في وجه العصرنة .
تعددت الحكايات عن ماضي الأفران التقليدية، وتم الوقوف عند الحاضر الذي يحمل بين طياته كل أوجه البساطة في الاشتغال والتعايش مع واقع صعب يتم تدبيره بصبر جميل ، لأن البساطة في العيش ربما لم تعد عملة مقبولة في الحياة العصرية التي باتت تميل إلى السرعة والتعقيد .
وحسب شهادات للعارفين بشعاب الحياة الاجتماعية للعاصمة الاقتصادية وماضيها، فإن العديد من الأفران التقليدية اضطرت لمغادرة حياة الناس مكرهة، وأصبحت أثرا بعد عين، خاصة بعد أن عيل صبر أصحابها، ولم يعودوا قادرين على مقاومة خسائرهم، لأن “وصلات ” الخبز الخشبية وحتى الحديدية غادرتهم إلى الأبد .
وبعضها تحول إلى مجرد أطلال تبكي ماضيها، لا يتذكرها إلا بعض كبار السن الذين ذاقوا خبزها اللذيذ، وحلوياتها المتفردة، وسمكها الذي يطبخ على نار هادئة تعشقه العين قبل المعدة أحيانا .
وحتى التي بقيت على قيد الحياة، فإنها سعت للتكيف مع متطلبات الحياة ومتغيراتها، حيث اتجه عدد منها إلى تحضير الخبز بنفسها وبعض الحلويات، من أجل تسويقها للعموم، في حين ظلت أخرى تعض على الصبر، لأن الكثير من زبنائها ظلوا أوفياء لها، ربما حبا وعشقا لخبز مطهو بالخشب عوض الغاز والكهرباء .
وحسب تلك الشهادات، فإن هذه المدينة كانت تعج بالأفران التقليدية، وشكلت وقتئذ جزء أساسيا من حياة الناس المعيشية، بل ومن معمار المدينة.
فالنبش في ذاكرة هؤلاء يؤكد أن مدخنة الفرن التقليدي في كل حي ، والتي لا توازيها إلا مدخنة الحمام التقليدي، كانت تقف عالية ضمن فيسفساء المنازل، ولا تفوقها علوا سوى صوامع المساجد الشامخة.
ومن بين الأفران، التي صمدت في وجه التحولات العمرانية والاجتماعية ، هناك ” فران اليماني ” بالمدينة القديمة للدار البيضاء ، والذي يتحول ابتداء من الحادية عشرة صباحا من كل يوم إلى قبلة لعشرات النسوة والرجال وحتى الشباب، حاملين ” وصلاتهم ” الخشبية أو الحديدية، بغية طهي خبزهم بطريقة تقليدية، بعد إعداده في منازلهم.
وقد اعتاد ” الطراح ” عبد السلام غاوو، أو المكلف بطهي الخبز بفرن اليماني ، أن يستقبل الزبناء، ويتبادل معهم أطراف الحديث، ثم يتكلف بحمل ” الوصلات ” فيتجه للداخل ، حيث يرتب بعناية فائقة الخبز في محمل خشبي، فيفتح فوهة الفرن، ويضع الخبز بالداخل، ثم يغلق الفوهة ثانية، ويتركه تحت رحمة النار.
ويتطلب هذا العمل جهدا كبيرا لترتيب الخبز الخاص بكل ” وصلة “، وانتظار طهيه، ثم سحبه ، وإرجاعه إلى وصلته، حتى لا يختلط مع خبز ” وصلات ” أخرى، وهكذا دواليك، وهو ما أسر به عبد السلام في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء ، وقناتها ” 24 M ” ، مشيرا إلى أن التجربة التي راكمها في هذا العمل منذ سنوات طوال علمته كيف يدبر شؤون الفرن، وكذا الحفاظ على علاقات طيبة مع الزبناء .
وقال إن عائدات هذا الفرن متواضعة جدا، وتغطي بالكاد تكاليفه من شراء الحطب وأداء فواتير الكهرباء وغيرها ، مؤكدا أن هامش الربح يبقى قليلا جدا .
وداخل هذا الفرن، الذي تعرفه جيدا الساكنة المحلية ، كل شيء يوحي بالعراقة والبساطة الضاربة في القدم ، بدء من هندسة الفرن، مرورا بأدوات الاشتغال، وصولا إلى إعداد خبز صحي، وهو ما عبرت عنه سيدة في قولها إنها تقصد هذا الفرن منذ سنوات طوال ، لأن الخبز المعد بنار الخشب من الدقيق الكامل ” صحي وأحسن بكثير من الذي يعد بالغاز، أو يشترى في المحلات”.
ومن الأفران التقليدية الأخرى المشهورة بالدار البيضاء ، فرن يتواجد بحي الرجاء بمنطقة بورنازيل ، والذي حرص صاحبه على الحفاظ عليه، فرن يمزج بين طهي الخبز المعد بالمنازل، وتوفير خبز آخر يتم إعداده من قبل العاملين فيه كي يتم تسويقه للعموم .
فالأفران التقليدية، التي غالبا ما تقع بالأحياء الشعبية بالعاصمة الاقتصادية وغيرها من المدن، لها مكانة اجتماعية رفيعة في كل ما له صلة بالمعيش اليومي للناس وصحتهم ، وتزداد أهميتها في المناسبات ، حيث تكتظ بوصلات الحلويات، لكن هذه المكانة تراجعت منذ مدة ، لأن المخابز العصرية نافستها بشكل شرس ، وربما خنقتها، وحتى التي بقيت تقاوم منها، فهي تواصل المسير لكن بدون رؤية واضحة بالنسبة للمستقبل .
< عبد اللطيف الجعفري (و م ع)