يفتح هذا الكتاب القيم عين القارئ على بعض من تاريخ الطب وعلم الأوبئة، وعلاقة الانتشار الوبائي بجشع الإمبريالية والحركة الاستعمارية. ويبين شلدون واتس مؤلف الكتاب، كيف استخدمت قوى الاستعمار مفهوم “مقاومة الأمراض الوبائية” ليسهل أمامها اختراق دول أفريقيا وآسيا والأميركيتين. ولم تكن نشأة المؤسسات الطبية الغربية خارجة عن هذا السياق العام الذي يحكمه منطق القوة وسيطرة القوى الاستعمارية على شعوب العالم. يجد قارئ بيان اليوم في هذا الكتاب تفاصيل مذهلة تؤكد في مجملها ارتباط مفهوم “مقاومة الأوبئة” بغايات استعمارية.
- لماذا ظهرت إجراءات مقاومة الأوبئة في مدن الأندلس ولم تنتشر في مدن العالم الإسلامي؟
إن هاتين النتيجتين على جانب كبير من الابتكار، فحركة الضوء وبالتالي نموذج ابن الهيثم في حركة الأجسام المتناهية الصغر تتعارض كما أنها تناقض نموذج أرسطو (384 – 322 ق.م) في حركة الأجسام الكبيرة، وكذلك تفسيره للحركة ونظريته في العناصر الأربعة. فحسب رؤية أرسطو هناك أربعة عناصر هي: التراب والماء والهواء والنار، ولكل عنصر من هذه العناصر طبيعته الخاصة، هذه العناصر تتحول إلى بعضها البعض بفعل قوة التخلخل والتكاثف. فالتراب يتحول إلى ماء بفعل التخلخل ثم إلى هواء ثم إلى نار، ويحدث العكس بفعل قوة التكاثف، فكل عنصر يتحرك بفعل طبيعته الخاصة إلى مكانه المهيأ له، فإذا قذفنا بحجر إلى السماء فسوف يرتفع إلى أعلى ثم يهبط إلى الأرض لا لشيء إلا بسبب طبيعته الخاصة الكامنة فيه.
حسب نموذج الحركة عند أرسطو، فإن الأجسام تتحرك حسب طبيعتها، إما إلى أعلى وإما إلى أسفل. لكن حركة الأجسام المتناهية الصغر مثل الضوء، حسب نموذج الحركة عند ابن الهيثم، تختلف فهي تتحرك في كل اتجاه، هذه الحركة تخضع للعلاقات الميكانيكية، كما أنها تخضع لمنطق الكم الرياضي وليس إلى الوصف الميتافيزيقي، هذا النوع من الحركات يمكن من خلاله تفسير حركة الكائنات الدقيقة الأخرى مثل تلك المسببة للأمراض، مثل البكتريا والفيروسات والطفيليات، فهي تتحرك في كل اتجاه. وهو ما يحدث بالضبط في حالة انتشار الأوبئة.
إذا عدنا إلى السؤال نفسه مرة أخرى، وهو : لماذا ظهرت إجراءات مقاومة الأوبئة في مدن الأندلس ولم تنتشر في مدن العالم الإسلامي، ولم تستمر ضمن إجراءات الطب الوقائي العربي مثل الاغتسال والطهارة والتعقيم، بينما أخذت بها مدن الشمال الإيطالي ثم انتشرت في كل البلاد، يمكن القول هنا، بأن المنهج الفرضي الاستنباطی وكذلك نموذج ابن الهيثم في حركة الأجسام متناهية الصغر، أي غير المحسوسة، لم يقدر له الانتشار في العالم الإسلامي كما انتشر المنهج التجريبي الذي اكتملت صياغته الفلسفية في نظرية “الجوهر الفرد” التي وجدت القبول من العلماء والفقهاء بعد ما أصبحت المكون الأساسي لعلم الكلام الإسلامیة).
تفترض إجراءات مقاومة الأوبئة التي أخذ بها الطب العربی وجود مسببات للعدوى، وبذلك فهي تفترض وجود ما لم يكن محسوسا أو ثابتا بالمشاهد التجريبية عندئذ، وهو الفرض الذي اصطدم بمبادی نظرية “الجوهر الفرد”. فحسب هذه النظرية فما هو غير محسوس فهو غير موجود، أي معدوم وهو ما أدى بالتدريج إلى عدم قبول هذه الإجراءات ثم تجاهلها بمرور الزمن. هناك عامل آخر يمكن ذكره في هذا السياق، وهو العامل الأخلاقي والديني حيث يحرم الدين الإسلامي امتهان جثة المتوفى بدفن جثث المتوفين من الوباء في حفر، فلا بد من تكريمها وإجراء طقوس الطهارة عليها والاغتسال قبل دفنها. ويرتبط بهذا موقف رجال الدين من مفهوم العدوى كما يراه الأطباء. فالعدوى، أي الشيء غير المنظور لا يمكن أن تسبب المرض حسب تأويل الفقهاء للشريعة، فالمرض يحدث بأمر الله وحده. ومن هنا إشارة ابن الخطيب في رسالته إلى هذا الخلاف بين الأطباء والفقهاء حيث يذكر: ” فإن قيل كيف نسلم بدعوى من العدوى، وقد رد الشرع بنفي ذلك..
وعلى العكس من ذلك، فإن الفكر الأوربي تعامل مع هذه الكيانات غير المحسوسة – إجراءات الحجر الصحي – كأنها موجودة، وأخذها بعين الاعتبار حتى مع عدم معرفة الطب الأوربي ولا المجالس الصحية في المدن الإيطالية وفي الدول الأوربية الأخرى الميكروب المسبب للطاعون، ولا دورة حياة المرض في البراغيث وعلاقة ذلك بالفئران. وتفسير ذلك يمكن تناوله من خلال شيئين. فمن المحتمل أن منهج ابن الهيثم الفرضي الاستنباطي، وكذلك نموذجه في اعتبار الكيانات غير المحسوسة وحركة الأجسام متناهية الصغر قد وصل أوربا من خلال علم المناظر العربي. الشيء الآخر هو استفادة أوربا من التراث اليوناني ونظريته في المعرفة خاصة عند أفلاطون الذي يعلى من قيمة الأفكار المجردة التي يمكن تصورها بالذهن لا عن طريق التجربة والمشاهدة . فالحقيقة طبقا لهذه النظرية تكمن في عالم المثل، عالم الخير وهو عالم الحقائق الثابتة، أما عالم المحسوسات فهو عالم التغير والفساد. فقد أخذت أوربا المنهج التجريبي وما أنجزه العلم العربي من خلال هذا المنهج، واستفادت أيضا من تراثها القديم في المعرفة وفي المناهج، وقد كان هذا سبب نهضتها منذ القرن السادس عشر، فلم تنيذ أوربا التراث اليوناني كله بل زاوجت بين القديم وهو إرثها الخاص ، والجديد وهو ما نقلته من العلم العربي. ومن هنا جاءت قدرتها على اعتبار الكيانات القائمة على الأفكار المجردة والفروض العلمية والتعامل معها كإمكانية لها صفة الوجود. وهو ما يفسر كيف أقام البريطانيون شبكات الصرف الصحى حتى قبل اكتشاف أن البكتريا الواوية المسببة للكوليرا تنتقل عن طريق المياه الملوثة، فقد تم الافتراض بوجود صلة ما بين مسببات المرض التي كانت مجهولة عندئذ وانتقالها عن طريق براز المرضى، ومن ثم إلى مياه الشرب، وكان لهذا الافتراض من القوة ما جعله وراء مطلب أدوين تشادويك رئيس المجلس الصحي العام في لندن بعد وباء عام 1892 م بضرورة مد شبكات المجاري لصرف الفضلات البشرية بعيدا عن المناطق المأهولة، وبعيدا عن مصادر مياه الشرب.
> إعداد: سعيد ايت اومزيد