الأوبئة والتاريخ، القوة والامبريالية -الحلقة 5

يفتح هذا الكتاب القيم عين القارئ على بعض من تاريخ الطب وعلم الأوبئة، وعلاقة الانتشار الوبائي بجشع الإمبريالية والحركة الاستعمارية. ويبين شلدون واتس مؤلف الكتاب، كيف استخدمت قوى الاستعمار مفهوم “مقاومة الأمراض الوبائية” ليسهل أمامها اختراق دول أفريقيا وآسيا والأميركيتين. ولم تكن نشأة المؤسسات الطبية الغربية خارجة عن هذا السياق العام الذي يحكمه منطق القوة وسيطرة القوى الاستعمارية على شعوب العالم. يجد قارئ بيان اليوم في هذا الكتاب تفاصيل مذهلة تؤكد في مجملها ارتباط مفهوم “مقاومة الأوبئة” بغايات استعمارية.

الغزو الاستعماري أداة جبارة في إصابة شعوب الأمريكتين بأمراض لم تكن تعرفها من قبل وهو ما أدى إلى إبادتها

كانت النقطة الثانية المهمة في هذا الكتاب هي إلقاء الضوء على العلاقة بين ظاهرة الاستعمار والإمبريالية وأدواتها الاقتصادية والقمعية وانتشار الأوبئة.
فقد قامت الإمبريالية في صراعها الدولي للسيطرة على ثروات إفريقيا وآسيا والأمريكتين بنقل أمراض جديدة انتشرت في صورة أوبئة إلى شعوب القارات تلك سواء مباشرة عن طريق الغزو العسكري أو تجارة العبيد، أم غير مباشرة عن طريق ما يدعيه الأوربيون بالتنمية”، أي تنمية هذه الشعوب، والتي كانت في الحقيقة غطاء من أجل تبرير تفكيك التركيب القبلي ونظم الأسرة ونمط العادات والتقاليد، والتي كانت تشكل خط دفاع قوی ضد انتشار الأوبئة والتحكم فيها بين هذه الشعوب، ومن هذا المنظور كان الكتاب جريئا في الكشف عن هذا الجانب من جوانب الاستعمار والإمبريالية، فقد تعرضت هذه الشعوب لهجوم مزدوج أداته القوة العسكرية للإمبريالية من جانب، وتعرض سكانها إلى الإبادة نتيجة لانتشار أمراض معدية لم تكن تملك المناعة الكافية لمقاومتها.
ويتعرض هذا الكتاب لسبعة من الأمراض المعدية التي ظهرت بصورة وبائية، سواء بين الشعوب الجديدة التي استعمرتها أوربا مثل إفريقيا والأمريكتين، أم الشعوب القديمة التي استعمرتها أوربا أيضا مثل الهند والصين ومصر. هذه الأمراض الوبائية السبعة تسببها الكائنات الحية الدقيقة، مثل البكتريا كما في حالة الطاعون والجذام والكوليرا والزهري، أو الفيروسات كما في حالة الجدري والحمى الصفراء، أو الأوليات (برتوزوا) كما في حالة الملاريا.
وتنتقل هذه الأمراض إما عن طريق الحشرات كما في حالة الطاعون الذي ينتقل عن طريق البراغيث، والملاريا والحمى الصفراء التي تنتقل عن طريق البعوض، وإما عن طريق العدوى المباشرة كما في حالة الجذام والجدري، وإما عن طريق الجهاز الهضمي بتناول الطعام والشراب الملوث كما في حالة الكوليرا، وإما عن طريق الاتصال الجنسي المباشر كما في حالة الزهری.
وكان من أهم العوامل في انتشار الأوبئة السالفة الذكر هو انتقال البشر وانتشارهم السلمي والتلقائي وكذلك انتقالهم العمدي والقهري.
وقد بدأت علاقة انتقال البشر السلمية بانتشار الأوبئة في وباء الطاعون كما ذكرنا. فقد انتقل الطاعون إلى مدن الشمال الإيطالي عام 1397 م من خلال حركة التجار والتجارة من موانئ البحر الأسود، ثم انتقل من إيطاليا إلى داخل القارة ومنها إلى إنجلترا، وامتد أيضا إلى دول جنوب المتوسط ومنها مصر. وكان انتقال وباء الكوليرا إلى إنجلترا من خلال التجارة وتأسيس شركة الهند الشرقية بالهند. وقد ظهرت الكوليرا بشكل وبائي في الهند عام 1817 م وهو ما أدى إلى وفاة 35 مليون فرد، ووصلت إلى إنجلترا عام 1821 وهو ما أدى إلى وفاة 130 ألف شخص. وقد تعرضت إنجلترا إلى خمسة أوبئة للكوليرا في فترة القرن التاسع عشر عن طريق موظفي إدارة الاحتلال الإنجليزي والقوات العسكرية.
ويبدو انتشار الأوبئة عن طريق حركة البشر العمدية والقهرية من خلال ظاهرتين: الغزو الاستعماری وتجارة العبيد. فقد كان الغزو الاستعماري أداة جبارة في إصابة شعوب الأمريكتين بأمراض لم تكن تعرفها من قبل وهو ما أدى إلى إبادتها، حيث لم تكن هذه الشعوب تملك مناعة فعالة لمقاومة هذه الأمراض، فبعد وصول كولومبوس إلى أمريكا وخلال عقدين من الزمان تدفق الآلاف من شعوب شبه جزيرة إيبيريا الحاملين لفيروس الجدري إلى هذه الأراضي البكر. وبذلك فقد وصل وياء الجدري إلى أمريكا الوسطى عام 1018، وإلى المكسيك عام 1021، وإلى شعوب الأنكا شمالا في عام 1027م. وحيث إن هذه الشعوب لم تكن تملك مناعة فعالة ضد هذه الأمراض الوافدة الجديدة مع الغزاة فقد وقعت صرعی شدة المرض، وهو ما أدى إلى إبادة شعوب بأكملها وهجرة العديد من القبائل إلى أماكن أخرى وإصابة قبائل وسكان آخرين، وقد أدى هذا إلى انقراض 90 في المائة من شعوب الأمريكتين. ففي عام 1930 م كان عدد سكان الأمريكتين 7 في المائة فقط من عدد السكان الذين كانوا موجودين قبل عام 1024 م.

> إعداد: سعيد ايت اومزيد

Related posts

Top