“…أن تكون مُؤمنًا بقضية لا يعني الكثير، أما أن تقرّر أن تُناضل من أجلها فأنت تُقرّر حينها أن تحيا أسطورتك الذاتية، يعني أن لديك قلبًا ينبض وعقلًا يضيء فتشعر حينها بأنك تحيا إنسانيتك، وتستشعر وجودك، فإذا كان صنع السلام أصعب من خوض الحرب لأن صنعه والمحافظة عليه يتطلبان الشجاعة ويفترضان أحياناً مقاربات جديدة وصعبة، إلا أن ذلك يبقى رهينا بالتمتع بشخصية مدنية مُحببة ورأسمال ضخم من الإرادة والطموح والعمل والمثابرة والعزيمة للوصول إلى الهدف، شعرن دومًا بقلوبهن النابضة وعقولهن المضيئة بذلك الإنسان القابع في نفوسهن برغم القيود التي فرضها عليهن المجتمع لا لشيء إلا لكونهن ملحقات بتاء التأنيث، وبرغم ذلك قررن أن يحملهن تاء التأنيث سلاحا في نضالهن، ينتشرن في التاريخ كالزهرات الجميلات يمنحن الأمل ويتركن حلما لدى الجميع يقول: أنا المرأة، أنا النضال، أنا الحرية، أنا الإنسان دون تمييز… فتدافعن نحو الحرية وحماية حقوق الإنسان بشجاعة ومُثابرة، ناضلن في سبيل الحقيقة والعدالة والأمل والإصلاح والسلام، دافعْن عن القضية الإنسانية وحملن لأجلها راية الحرية والديمقراطية والحفاظ على كرامة الإنسان، حتى كوفئن أخيرا بتسجيل أسمائهن في وصية ألفريد نوبل التي كتبها تكفيراً عن شعوره بالذنب لاختراعه الديناميت القاتل، إنهن مناضلات دافعن عن الحياة وحصلن على نوبل….”.
بيرل باك.. نضال الأرض والثوار
بيت التراب الذي بسط للجميع أحلام البسطاء وآمال المهمشين
“…..حين تُذكَر أدبيات القرن العشرين يَبرُز اسمها ليقف في الطليعة، وتقرأ من سيرتها بأنها قَفزَتْ الولايات المُتحدة إلى أقصى الشرق، واستلهمت منه مُعظم كتاباتها التي لفتت إليها الأنظار وصنفتها كواحدة من أهم أدباء عصرها ورائدة من رواده، تقرأ معها مَقطعا مُفصّلا ومُوجزا لحياتها حيث تقول: عشت في الصين طفولة متوْحدة، نشأت في بلدة تشين كيانغ في منزل محاط بالتلال والأدوية المزروعة، عند سفح التلة كان هناك معبد ورجل عجوز يطاردني دائما بعصاه، فأشعر بالخوف والطمأنينة في آن واحد، ومن هذا الكاهن تعلّمت الصينية بينما اهتمّت والدتي بتعليمي الانجليزية..”، إنها الكاتبة الأمريكية الموطن الصينية المنشأ بيرل. س. باك…”.
تقاليد الصين وسحر بوذا العظيم
ولدت بيرل. س. باك في بلدة ملسبور بولاية فرجينيا الأمريكية يوم السادس والعشرين من يونيو 1892 وانطلقت سريعا من بلاد التلال والغابات الرائعة رفقة والديها المُبشرين إلى الصين ومدينتها العتيدة تشين كيانغ على ضفاف نهر يانغ تسي الشهير، وهناك ستبدأ رفقة مربيتها الصينية بتعلم تقاليد الشعب الصيني واكتشاف السحر البوذي والتاوي، وتبدأ بتتابع نموها الأدبي عند عودتها إلى كلية راندولف ماكون الأمريكية قادمة إليها من مدارس شينغهاي الثانوية وتتحصل سريعاً على البكالوريوس فالماجستير عام 1914 وتعود من جديد إلى مزارع الصين رفقة زوجها جون لوسي الخبير الزراعي للعمل هناك، والإقامة معاً لمدة تجاوزت الخمس سنوات، وأخذت تكتب حينها في سيرتها الذاتية: “…. إنني أشك في أن يستطيع أي خبير زراعي أمريكي أو غيره أن يقدم شيئا هاماً للفلاح الصيني الذي عايش الأرض لآلاف السنين..”، وهي الأرض التي عادت إليها بعد انفصالها عن زوجها وقضاء أربعة سنوات أخرى رفقته للتدريس في جامعة كورنيل الأمريكية، فترة كانت كفيلة بأن تُسجل بيرل أولى محاولاتها الأدبية من خلال مراسلاتها للمجلات الأمريكية تزويدها بقصصها ومقالاتها عن الحياة في الصين ساعية إلى تقريب وجهات النظر بين الشعوب حتى قطفت أولى ثمار عطائها الروائي عبر (ريح الشرق وريح الغرب)، رغم كونها لم تعده الكتاب الأول لها كونه أسبق بكتاب هام عن والدتها لم يعرف مصيرا سوى الرفوف واعتبر السابع على لائحة النشر.
الأرض الطيبة وآداب نوبل.. والبنت التي لا تريد أن تكبر
كان الناج الأدبي الذي أخذت تتذوقه بيرل قد رافقه على الجهة المُقابلة ألم ومعاناة لحياتها الزوجية التي أخذت تسير مُتعثرة، فقد خاب أملها بالزوج الذي لم يكترث لأدبها ولم يحاول فهمها، كما أن ثمرة زواجهما لم تكن سوى إبنة متخلفة عقليا غرست في صدر الأم بذور الحزن التي راحت تنمو بصمت إلى أن تفجّرت عام 1950 في قصة عنوانها (الطفلة التي لم تكبر)، حتى أخذت بيرل تعترف وبحزن صامت في مذكراتها (عوالمي المُتعددة) وتقول: “… أشعر بالراحة لأن أمي توفيت قبل أن تعلم ما كان ينتظرني، إذ لم تكتشف أن ابنتها قد أنجبت فتاة مُتخلفة لا تريد أن تكبر أبداً، ولعلّ هذا ما جعل الكاتبة بيرل تنطلق إلى خانات التنبي أثناء وجودها في الصين في مشروع استطاعت من خلاله أن تُفرغ فيه أمُومتها ومُعطياتها الإنسانية النبيلة، وحققت معها الأرض الطيبة عام 1931 ونالت لأجلها ميدالية وليم دين هويلز الذهبية ثم نوبل للآداب عام 1938 على ثلاثيتها التي ضمت إلى جانب “الأرض الطيبة” روايتي “البنون”، و”البيت المُنقسم” ونُشرت تحت عنوان واحد “بيت من تراب” وعدت أول كاتبة أمريكية تحصل على نوبل وجاء في عريضة براءتها: “من أجل وصفها الرائع والغني لحياة الفلاح الصيني”، وتقول الكاتبة في مقدمتها “..لم تكن هناك حبكة ولا عقدة روائية، كان أمامي رجل وامرأة وأولادهما، وكنت أعرف علاقتهم الأصيلة بالأرض، هؤلاء الناس الطيّبون مهمون، ليس في الصين وحدها، وإنما في العالم كله، وقد أعطيتهم أسماء صينية، إذ لم أكن أعرف سواهم وهم يمثلون ملايين الفلاحين، إن الناس الذين قرؤوا الرواية تجاوزوا كون الأبطال صينيين وصاروا يعرفون فيهم الطيبة والأصالة التي تبدو على وجوههم دائما وأبدا..”.
أولاد للتبني
شكّلت الجائزة العالمية مَحطة انطلاق للأديبة بيرل، وأخذ القرّاء يُتابعون أعمالها المُترجمة بلغات الشرق والغرب حتى استحقت لقب رائدة الحركة الأدبية في أمريكا وأول من بنى جسراً حقيقيا يصل الغرب بالشرق الأقصى عن طريق الفكر والكلمة الصادقة والمحبة، بل أنها مُنحت حياتها تجسيداً للإنسانية يربط بين حضارتي الشرق والغرب بكل قوة ومحبة، تواصلت مع الجميع بلغة بسيطة أنيقة سمحت بترجمة أعمالها حبّاً للناس وللحضارة الصينية التي ومن خلال عيْنَيها تمكّن ملايين البشر من عُبور أعماق الحضارة الصينية دون الذهاب إليها، ونقلت للجميع المناخ الجميل برواياتها (ريح الشرق وريح الغرب، الأرض الطيبة، كل الناس إخوة،
رسالة من بكين، جسر للعبور، أولاد للتبني، من صديق إلى صديق، البعيد والقريب)، وغيرها من الجسور الأدبية التي شيّدتها للعبور الحضاري وغرس التفاهم والمحبة بين الشعبين الصيني والأمريكي، ملامسة بذلك المرأة حيث إثارتها لقضايا التحرّر، والمجتمع حيث التربية والأصالة والارتباط بالعادات والتقاليد الممنوحة من حب الأرض، الأطفال عبر حكاياتها الأسطورية التي أخذت ترويها للأطفال بصور من الصين، دون أن تتناسى ولو للحظة واحدة أن ترسم صورة للصراع الذي يعيشه الفلاح الصيني (وانغ – لونغ) وزوجته (آوـ لآن) من خلال “الأرض الطيبة” الذي يُجّسد تمسكه بالأرض ومحاولة الخلاص من الفقر ومحاربة الاستغلال والعبودية، ومنح الإنسانية والكرامة للإنسان بأسلوب هاديء بعيداً عن التعقيد وصدام العقول بالكلمة والحوار فقط، حتى تمكّنت بحرارة وصفها، وروعة قلمها، أن توصل الإنسان الصيني إلى أعماق الآخرين.
مؤسسة بيرل باك للتبني
في ظلّ اندفاع الكاتبة صعودا لذروة المَجد الأدبي، كانت حياتها الزوجية تنحدر سريعاً إلى الحضيض مع زوجها (لوسي جاك) الذي لم يكترث بها وبأدبها، وانتهت تلك العلاقة بالطلاق عام 1934، وقد عادت مع ابنتها إلى أمريكا وانصرفت إلى التأليف والدراسة لتنال الماجستير الفخرية من جامعة يال التي تعرفت من خلالها على رفيق دربها وزوجها الناشر لكتبها (ريتشارد والش) بعد عام فقط من طلاقها، وقرّرا الارتباط والزواج ربع قرن حتى وفاته 1960، وعُدّت هذه الفترة المرحلة الزاخرة بالعمل والعطاء الفكري بعد أن ساهم زوجها ريتشارد بقسط كبير في نجاحها مُشجعا لها ومُديرا لأعمالها وناشراً لكتبها وراعياً لأبنتها ولأولادهما التسعة المُتبنيين في أعقاب الحرب العالمية الثانية والذين شكلوا معها النواة الأولى لمؤسسة بيرل باك للتبّني التي رصدت لها ثروتها بعد وفاتها عام 1973 بحوالي سبعة ملايين دولار امريكي.
رحلة القمر أم رحلة الفقر
بعد وفاة ريتشارد، قرّرت بيرل التوجه للإقامة في بنسلفانيا في منزل هاديء تُحيط به المناظر الطبيعية التي تفتنها حتما وتغني بوصفها أدبها الجميل، وأخذت تستقبل فيه زوارها ومعجبيها حتى وفاتها وهي في الحادية والثمانين من العمر بعد أن تركت العديد من الخامات الأدبية التي تجاوزت التسعين ما بين رواية وكتاب ومسرحية، مُنقحة بامتياز باللغة العميقة وبلاغة العمق والشمول حتى يكاد القاريء يشعر معها أن الكاتبة تعيش مع كل جيل، دون أن يفوتها أي ابتكار أو جديد على صعيد الاكتشافات العلمية والإنسانية حتى أنها أخذت تكتب مقالاً هزلياً حول رحلة الأمريكيّين إلى القمر “….لماذا ننفق الأموال على الرحلات الفضائية بينما كوكبنا الأرضي غارق في المشاكل حيث الجوع والفقر والبؤس والحرمان، إن هذه الرحلات ليست سوى محاولات للهرب من الأسى وتفريغ الضمير..”، وتتابع بشاعرية “.. ذات يوم سألت إحدى الزوجات الجميلات (وتقصد هنا زوجات رواد الفضاء) هل يتغيّر الأزواج بعد عودتهم من تلك الرحلات الفضائية، فتطلّعتْ إلى رفيقتها ثم قالت: إنهم لا يعودون إلى الأرض، شيء ما هناك، ولا ينسون الفضاء الخارجي مُطلقا….”.
المنفى الأبدي
يروي الأديب دونالد هيني (الأدب الأمريكي المعاصر) “…إن هذه الكاتبة التي وَسّعتْ رقعة اهتماماتها الفكرية والإنسانية من امريكا إلى الصين لم توفر المُقرّبين منها وهي تكتب، فقد راعتها التفرقة العنصرية التي طالعتها في بلادها وكتبت في ذلك مقالات إنسانية هامة، وخصصت بعض رواياتها لسيرة أناس عرفتهم عن كثب وعاشت صراعهم واستلهمت أعمالهم، ففي العام 1936 كتبت سيرة والدها (ابسالوم) وجعلت عنوانه الملاك المُحارب، وفي السنة ذاتها صدر كتابها عن والدتها كارولين تحت عنوان المنفى، دون أن تنسى ابنتها المُتخلفة عقلياً التي اختارت لها الطفلة التي لم تكبر، حتى كتبتك عن نفسها عام 1945 مذكراتها تحت عنوان (عوالمي المتعددة) التي يكتشف فيها القارئ الشخصية التي وقفت وراء النجاح العظيم بعدما واجهته في الحياة الكثير من المتاعب والمصاعب والخيبات والمخاطر، وحوْلت لحظة وفاتها عام 1973 كل تجربة مُفرحة كانت أم محزنة إلى قناة من الإيجابية الحقة، وزخرفتها بالعديد من الجوائز وشهادات التقدير حيث نوبل 1938 وبولتيزر 1932 ووليم دين هويلز الأمريكية 1935 وشهادة الدكتوراة الفخرية من الجامعة الأمريكة، وتكون رفقة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام 1972 في زيارته إلى الصين بهدف إخماد الحرب الاقتصادية والسياسية، الباردة والخفية الدائرة بين الولايات المتحدة الأمريكة والتنين الصيني لمرجعيتها الوافية بالثقافة الصينية ولغتها ومزاجها وفكرها، حتى سمحوا لأنفسهم بأن يُشيّدوا لها تمثالا عملاقا في ساحة جامعة نان ـ دينغ الصينية بمدينة شنغهاي.
< سلسلة من إعداد وتقديم: معادي أسعد صوالحة