وجوه فنية راسخة في القلوب والذاكرة -الحلقة 5-

يضرب المغاربة منذ سنوات طويلة، موعدا خاصا واستثنائيا خلال شهر رمضان الأبرك، مع وجوه فنية مميزة ومتألقة تضفي طابعا خاصا على مائدة الإفطار العائلي، وتزيد من قوة الطابع الاستثنائي لهذا الشهر الفضيل، سواء عبر الشاشة من خلال الوصلات الفنية المتنوعة طيلة اليوم، أو عبر المواعيد المباشرة مع جمهور الركح أو السينما أو الحفلات…
وتتميز الساحة الفنية المغربية بصعود أسماء جديدة بشكل متواصل، إلا أن هناك وجوها فنية خاصة ألفها المغاربة وأصبح غيابها عن الساحة بشكل عام وخلال الشهر الفضيل بشكل خاص، يشعرهم بفجوة في أجواء رمضان.
ورغم أن الأسماء الجديدة منها ما تميز وأبدع ووصل إلى قلوب المغاربة، إلا أنه من الصعب جدا تعويض الوجوه التي كبر وترعرع معها جيل من المغاربة وشكلت جزءا كبيرا من ذكرياتهم، حيث إنه في الأخير يبقى للجيل الجديد دوره ومكانته في إغناء الساحة، لكن ما من أحدهم قد يعوض آخر أو يحتل مكانته، خاصة في الذاكرة والقلوب.
وحيث إننا نضرب موعدا خلال هذا الشهر الكريم مع إبداعات فنية متنوعة سواء عبر الشاشة أو المسرح والسينما وغيرهما، يساهم فيها خليط من أجيال متعددة، سنستغل هذه المناسبة بجريدة بيان اليوم، لنستحضر عددا من الوجوه الفنية المغربية التي غادرتنا إلى دار البقاء في مجالات التمثيل والغناء التمثيل والإخراج، التي بصمت الساحة الفنية الوطنية بعطاءات ظلت شاهدة على تفرد موهبتها، التي رسختها في سجل تاريخ الفن بالمغرب والعالم بمداد من ذهب.

الراحلة الحاجة الحمداوية.. سجينة الاستعمار وأيقونة العيطة

 نستضيف في حلقة اليوم، فنانة الملوك وأيقونة العيطة في المغرب، الراحلة عملاقة الفن الشعبي المغربي الحاجة الحمداوية، التي ودعت جمهورها في الأسبوع الأول من أبريل 2021، الذي تعود على إطلالتها بلباسها المغربي البهي وبين يديها دفها الشهير الذي لم يفارقها طيلة مشوارها الفني على مدى أزيد من 7 عقود، والذي أبدعت فيه أغاني خالدة في فن العيطة المغربي.

وشهدت الحاجة الحمداوية المجد الذهبي للأغنية المغربية، وصدح صوتها عاليا قبل الاستقلال وبعده، وعاصرت الملوك الراحلين محمد الخامس والحسن الثاني طيب الله ثراهما، ومحمد السادس أطال الله عمره، وغنت أمام ملوك وأميرات في مسارح وقصور.

ورحلت فقيدة الفن الشعبي المغربي، عن عمر ناهز الواحد والتسعين سنة، بعد صراع طويل مع المرض أدخلها قسم العناية المركزة بأحد مستشفيات العاصمة الرباط.

وولدت الراحلة واسمها الحقيقي الحجاجية الحمداوية سنة 1930 وترعرعت بمدينة الدار البيضاء، وكان والدها من عشاق فن العيطة، ودأب على استدعاء فرق الشيخات والشيوخ (فنانو العيطة) في المناسبات العائلية والأفراح في بيتهم بالحي الشعبي مرس السلطان.

ورثت هذا العشق وحملته معها عاليا، من الهواية إلى الاحتراف. عن عمر 19 سنة، انطلقت الحاجة الحمداوية لتدخل عالم الفن من خلال المسرح أولا. كانت من أعضاء فرقة الفنان المغربي الشهير بوشعيب البيضاوي، وهو ممثل كوميدي ومغن شعبي، أحد أبرز رموز فن العيطة في المغرب.

أحب البيضاوي صوتها ولفت نظره إلى بحته الفريدة، فتحولت من المسرح إلى غناء العيطة – مع كلّ التحديات التي واجهتها وقتئذ – حيث لمع نجمها حتى صارت أغنياتها على كل لسان، تاركة بصمتها الخاصة على تراث مغربي عمره قرون.

ووفقا لمصادر متعددة، كانت الحاجة الحمداوية ضيفة دائمة على مخافر الأمن الفرنسي في مرحلة الاستعمار، وقد عُرفت بمقاومتها للتواجد الأجنبي في المغرب من خلال الصوت والكلمة واللحن.

كانت أغنياتها تحمل رسائل مشفرة ضد الاستعمار الفرنسي، الأمر الذي لم يعجب سلطة الحماية الفرنسية حينها. فقد كان يتم استدعاؤها واستنطاقها، بعد كل أغنية تصدرها، للتأكد من كلمات الأغنية ومعانيها والتلميحات خلفها.

تعتبر أغنية “حاضيا البحر ليرحل” من أشهر أغنياتها، التي ما زالت حاضرة في مختلف المناسبات. لكن العلامة الفارقة في تاريخها الفني كانت حين غنّت “آش جاب لينا حتى بليتينا آ الشيباني، آش جاب لينا حتى كويتينا آ الشيباني، فمو مهدوم فيه خدمة يوم، مقدم الكرعة مات بالخلعة”.

لم تكن تعلم أن هذه الكلمات ستكون سبباً لاعتقالها، بعدما اعتبرت سلطات الحماية الفرنسية في الدار البيضاء أن مضمونها موجه إلى بن عرفة، الذي كان عين سلطاناً على المغرب، بعد نفي السلطان الشرعي آنذاك محمد الخامس.

وبعد خروجها من السجن، وبسبب التضييق الذي مارسته سلطة الاستعمار عليها خلال فترة الخمسينيات، هربت الحاجة الحمداوية إلى فرنسا قبل أن تعود إلى المغرب بعد الاستقلال.

في فرنسا، تألقت الحاجة الحمداوية وقدمت أغنيات ناجحة في مشوارها الفني، لكن المضايقات والاستجوابات لم تتوقف من قِبل السلطات، فقررت الرجوع إلى المغرب بعد عودة السلطان محمد الخامس من المنفى.

حافظت الحاجة الحمداوية على التراث، لكنها أعطته طابعاً عصرياً؛ وفي حديثه عن تجربتها، يقول الباحث المتخصّص في فن العيطة حسن نجمي في أحد استجواباته الصحفية: إن “كلمات أغانيها مأخوذة من معجم العيطة بتوزيعٍ موسيقي عصري، أي أنها أخضعت العيطة لمقتضيات التوزيع الموسيقي الأوركسترالي، مما جعل فنّها سريع الانتشار ويلامس العمق والوجدان المغربي العام”.

ويوضح أن هذا التجديد لم يكن “تجديدا كاملا مبنيا على القطيعة مع أشكال الموسيقى التقليدية، بل بقي مرتبطاً بالشكل التقليدي، ولكن في الوقت ذاته دخله نفس مختلف ونوع من التطوير الداخلي”.

في وقت كانت الخطوط الحمراء كثيرة أمام النساء، فكيف في زمن الاستعمار الفرنسي، أصرت الحاجة الحمداوية على ممارسة شغفها وتحقيق حلمها، متحدية كل الحواجز الشخصية والسياسية.

تمكنت الحاجة الحمداوية من أن تكون فنانة الشعب، وقد نجحت في إيصال العيطة إلى كل العالم العربي، حيث كان سلاحها في وجه الاستعمار الفرنسي هو صوتها. صدحت بصوتها كلاماً يعبّر عن الناس وقضاياهم اليومية، فغنّت “منين أنا ومنين أنت”، “هزو بينا العلام”، “أنا حاضية البحر ليرحل”، “دابا يجي يا الحبيبة”، “مشا سيدي مول التاج وجا بنعرفة مول العكاز”، و”آويلي الشيباني دابا يعفو يتوب”.

لن ينسى المغاربة مغنيتهم التي لطالما حرصت على ارتداء القفطان المغربي الأنيق، وحمل دفها الشهير الذي لم يفارقها خلال كل حفلاتها، على مدى أكثر من سبعة عقود.

عبد الصمد ادنيدن

Related posts

Top