يمكن الإلماع بداية إلى أن الأكاديمية والروائية الدكتورة زهور كرام قد التفتت في أبحاثها الأخيرة إلى علاقة الفكر بالمستقبل موازاة مع انشغالها المتوهج بأسئلة النقد الروائي وإبداعها المتواصل في كتابة الرواية، فبعد روايتها “غيثة تقطف القمر” وإفرادها دراسة عميقة لفكر المستقبلي المغربي المهدي المنجرة أصدرته في كتاب، حاولت الدكتورة زهور كرام أن تتنبه إلى أهمية الرقميات ودورها في بناء أسئلة الإنسان الجديدة للعالم والزمن والمكان وكل أنشطة الكائن البشري. بدأ هذا الاهتمام مع إصدراها لعددين من سلسلة “روابط رقمية” والتي تفردت موادهما بمقاربة قضايا لها علاقة بالأدب الرقمي أو التفاعلي من منظور ينهل من آخر التنظيرات التي فككت أشكال الخطاب التي تخلقت في الفضاءات الرقمية، في هذا السياق يأتي كتابها “الإنسانيات والرقميات وعصر ما بعد كورونا”، الصادر حديثا عن منشورات فضاءات في الأردن، ضمن مشروع متواصل أومأنا إلى حدوده سالفا.
في هذا الكتاب الذي يتوزع فضاؤه النصي على مائة وثمان وثلاثين صفحة، عمقت الدكتورة كرام الحديث، من منطلقات فكرية متشعبة، في قضايا وأسيقة جديدة من خلال محاور كبرى، وهي: حتى لا يتجاوزنا المستقبل، مداخل مفاهيمية، الخطاب الاجتماعي عبر التكنولوجي، التدبير الإداري والتكنولوجيا: الإدارة الإلكترونية والتدبير الديموقراطي، الأدب/القراءة والتكنولوجيا، التكنولوجيا بين خدمة الإنسان وضياعه، وأخيرا حتى نكون في المستقبل.
ينهض الجهد المعرفي الذي تقدمه الدكتورة زهور كرام في هذا الكتاب على إضاءة العلاقة بين الإنسانيات بوصفها حقلا معرفيا جديدا وبين الرقميات باعتبارها آخر التطورات التقنية التي أحدثت ثورة في مجال المعرفة والأعمال والاقتصاد والإدارة والابتكار والتنمية، بل جددت منظور الإنسان للعالم وتفكيره، وفرضت في مقابل ذلك تغييرا في مناهج العلوم الإنسانية وغيرها من العلوم الأخرى، خصوصا وأن التقدم الذي تعرفه الإنسانية سيطرح الآن ومستقبلا تحديات كبيرة لا تخلو من تخوف يهدد الإنسانية في مساق ما عبر عنه أمين معلوف ب”غرق الحضارات”، إذ يقول: “إذا كانت دروب الغد مزروعة بالفخاخ، فأسوأ سلوك هو التقدم بعيون مغمضة متمتمين بأن كل شيء سيكون على ما يرام” ص 12. يدافع الكتاب عن إمكانية تأمين وجود الإنسان في المستقبل وعن القدرة الكبيرة التي أبانت عليها الرقميات في مواجهة كوفيد19.
يتوقف الباحث عند إلماع اتسياقية عميقة من الكاتبة إلى تصورات مفكرين من أمثال: “أمين معلوف” و”المهدي المنجرة” و”كيكو” وكاترين هايلز”و” وجون سيرل” -صاحب مقولة “الغرفة الصينية” التي عالجها في ورقته “العقول والأدمغة- والبرامج- “و”بول فيريليو” و”جون مكارثي”” وجويل دي غوسناي” و”ستيفان فيال” صاحب كتاب “الكائن والشاشة: كيف تغير الرقميات إدراكنا”… وغيرها من التصورات التي رأت الدكتورة كرام أنها تتميز بجدتها في تناول تأثير الرقميات في الإنسان والاقتصاد والسياسة في المجتمعات الحديثة.
وتتكشف جدة هذا المنجز النقدي والمعرفي من خلال الأبعاد الاستشرافية التي يلامسها، وطبيعة الأسئلة المحفوفة بالقلق المعرفي والوجودي تجاه العالم الافتراضي الجديدة وما يفرخ داخله من قيم وأفكار وسلوكات وتجليات رقمية. لم يكتف الكتاب بالنظر إلى التكنولوجيا بوصفها تقنية، بل يقاربها باعتبارها تصورا ورؤية تتخلق في دائرتها عدة مفاهيم مشكلة نسقا رقميا، من هذه المفاهيم نذكر: المعلومة والتدفق المعلوماتي، الذكاء الاصطناعي والافتراضي، البيئة الافتراضية، الوجود الشبكي، التفاعل والتقاسم، برونتاريا، انتوغرافيا، إنترنيت الأشياء..
تبدو قوة الكتاب واضحة أيضا من خلال معجم رقمي جديد وطريقة صوغ الأسئلة وطبيعة التفكير في “الافتراضي ” الذي يلخص التحول في حياة الإنسان وسلوكاته، وفي سياق هذه الأهمية تدعو الكاتبة إلى ضرورة تطوير المقاربات السوسوسيولجية والنفسية والسياسية لفهم الفضاء الافتراضي والدفع بالكائن نحو ترتيب علاقته من جديد بالتكنولوجيا، واللافت للنظر أن التفكير في الواقع الافتراضي تترتب عنه قضايا فلسفية كبرى في الإدراك والتأويل والمعنى، كما تخصص الكاتبة تحليلا لخطاب “الشعب يريد” والسياق الزماني والمكاني والسياسي الذي خرج منه والتراجع الذي ستعرفه المؤسسات التمثيلية التقليدية بظهور وسائط جديدة، ألغت الوساطة بين الملك والشعب وعززت سلوك المقاطعة الاجتماعية ووسعت الحراك التكنولوجي. وأمام هذا الواقع ظهرت “برونوتانيا” كطبقة جديدة من مستعملي الشبكات الرقمية، تمارس فعل التعبير كتابة أو صوتا أوحركة أو صورة، تبيع وتشتري وتتواصل وتتقاسم وتتفاعل..
أمام كل الممارسات الرقمية التي تتقدم من خلالها الشخصية داخل المساحة الافتراضية عبر الوات ساب أو تويتر أو سناب شات أو الفيسبوك…تحاول الكاتبة د كرام تحليل الحالة النفسية والاجتماعية لشخصية الكائن الافتراضي، وتفرد للخطاب الاجتماعي الذي واكب الربيع العربي حيزا هاما من الدراسة، تقف فيه عند التحول الذي واكب الممارسة الاحتجاجية والخطاب المجتمعي الجديد الذي لخص كل مطالبه وآفاقه باستخدام السوشل ميديا في مساق شعار” الشعب يريد”الذي تحول إلى إرادة تاريخية وقرار مجتمعي، ساعد على تعزيز مقاطعة بعض المنتوجات وتكسير الوساطات التقليدية كالأحزاب والنقابات والمؤسسات التقليدية.
تعبر الكاتبة عن الحاجة الماسة إلى سوسيولوجيا التكنولوجيا لتحليل وضعية المجتمع وفهم سلوك الأفراد و”علاقتهم بالتكنولوجيا وتأثير هذه العلاقة في مفهوم الحياة والقيم والفرد والأسرة” ص67. بالإضافة إلى الأثر الإيجابي للتدبير الإلكتروني للإدارة وما يتصل بهذا التدبير من خدمات تجعل الكل سواسية أمام المسؤولية والمحاسبة والشفافية، والمخاوف التي تعترض أغلب الدول العربية في تطبيق نطام الإدارة الإلكترونية، وقضايا أخرى ترتبط بالأدب الرقمي وتحول مفهوم الكتابة وموقع المؤلف ووضعيته ووظيفته والتمثلات الجديدة لمفهوم النص، معززة ذلك بأمثلة تاريخية وتجارب أدبية. ولئن كانت الكاتبة تناقش علاقة الإعلام والتنمية بالتكنولوجيا واقتصاد المعرفة، فإنها تقدم حلولا ومقترحات لتفعيل علاقة الثقافة بالتنمية لجعل التكنولوجيا سلاحا ووسيطا دفاعيا ضد كورونا بدل تحويل الفضاء الافتراضي إلى مساحة لتعميق خطاب العنف وتشييد قلاع لمتاهة الإنسان، وقد وجدت الكاتبة في تجربة شارلي شابلان نموذجا لتوضيح هذه المتاهة ومفتاحا لتجاوزها بوصفها تجربة تشخص البطولة الإشكالية للإنسان في الأزمنة الحديثة، وتمدنا بإمكانيات جديدة كي نحيا مستقبلا مغايرا يستغل فيه الإنسان منجزات الثورة الرقمية الرابعة ويواكب فيه تحولات الثورة الرقمية الخامسة وظهور جيل جديد من الهواتف والتطبيقات المدهشة التي تجعلنا” نسافربدون جواز سفرأوتذكرة،خارج المسافة والمساحة، بعيدا عن لعبة المكان والزمن،وأبعد عن التعاقدات الاجتماعية والثقافية التي تقيد الحركة، وتمنع الكلمة.. وتقمع التعبير.. ص 121، هذه التحديات تفرض إعادة بناء رؤية جديدة تمكننا من الوجود في المستقبل الذي لا يقبل الفراغ أو الحياة بدون دليل.
د.عبد العزيز بنار
كاتب وناقد أدبي من المغرب