منذ أكثر من ثلاثة أيام ، لم يتوقف الأستاذ عن النظر إلى المزرعة بإمعان شديد، وفي كل مرة كان ينظر إليها، كانت تبدو له أشجار الكروم والمانجو ومحاصيل الخضرة غير طبيعية، أضحت الأشياء حوله فيما يعتقد قاتمة ومريبة، شبابيك البيت، عربات النبيذ، كلاب الحراسة، حتى الخيول العربية الأصيلة التي كان يتباهى أمام الأصدقاء بصهيلها وقوة حيويتها باتت هي أيضا غير طبيعية، الشيء الوحيد الذي لم يتغير في ذلك الصباح هو مظهر جارته ( سعلاة ) ، التي كانت تطلق على نفسها ( سعاد ). كانت السيدة سعلاة تملك إلى جانب عجيزة مدورة، قامة نحيلة ، ونهدين صغيرين، وكانت كلما ترفع شعرها الأسود الطويل وتلفه على شكل كعكة وراء عنقها، وهي تمشي في الطريق المؤدي إلى السوق العام، يخيل إلى المرء بأن وقائع الزمن كلها متناغمة على نسق واحد كما لو أنها رقاص ساعة قديم، وعندما تقترب من أي أحد من القرية تبتسم له ابتسامة جريئة ممزوجة بلذة آثمة، طالما كانت تطلب الرجال وتطاردهم أينما وجدوا سواء أكانوا من أهل القرية أم من القرى المجاورة،لم تفوت فرصة واحدة مع أحد منهم باستثناء جارها القديم الأستاذ، فهي تكرهه إلى درجة يصعب على ( ماركيز ) وصفها .. خطر على الأستاذ في تلك اللحظات الصباحية أن يناديها كي يتجاذب معها أطراف الحديث ، وما إن وصلت أمامه حتى قال لها :
– صباحك سكر يا سعلاة ؟
– قالت له: ماذا تريد في هذه الساعة؟
أشعل سيجارة بعود ثقاب يظهر عليه غبار الثورة الصناعية، وقال بصوت رخيم لماذا العالم حولي تغير كله في غضون ثلاثة أيام؟ وأنت كما عرفتك لم يتغير فيك شيء؟
قالت له: أين هو ذلك التغيير؟
أجاب بإيجاز يخلو من التصوير، كل شيء في المزرعة من شكل محاصيل الخضرة إلى صوت صهيل الخيول.
قالت: قد يكون هذا صحيحا، لكن نحن البشر قد نكتشف أشياء في سن الشيخوخة تكمن بداخلنا منذ الطفولة .. لكن لا يمكن أن يتغير أي شيء في هذا الكون في لمح البصر، لا بد له من أن يمر بمراحل معينة، هذه هي سنة الحياة ! حمل / ولادة ، إرهاصة / ثورة ، تشقق / انهيار ، مرض / موت .. لا بد من أعراض لأي حادث، فليس هنالك ما هو غريب ..
هز رأسه وطفق قائلا :
-نعم لكل حادث على هذا الكوكب علة نستطيع توصيف أية حالة من خلالها. هذا ما صرح به ( ابن خلدون ) وهو يكتب عن سبب ازدهار الحضارة وانحطاطها..
يظن كل من يسمع الأستاذ وهو يتحدث عن ابن خلدون والفلاسفة المسلمين بأنه شخص مثقف، وعلى درجة عالية من الذكاء وسعة الاطلاع، لكن الحقيقة عكس ذلك ، فالأستاذ لم يتعلم القراءة قط، بل لا يستطيع أن يميز بين الحروف التي تتغير من خلال النقط كحرفي الجيم والخاء، وقد لقب بالأستاذ لأنه كان ماهرا على أيام المعتقل في لعب الورق، حيث سجن عاما كاملا بتهمة الاستيلاء على مركز شرطة في الأرياف وتحويله إلى مخزن لحبوب القمح، وكعادة بنات الليل، كانت سعلاة تعرف كل صغيرة وكبيرة عن جميع سكان القرية بما فيهم الأستاذ، فهي تعرف إلى جانب قصة السجن بأن الأستاذ لا يجيد الحديث بشكل لائق ومحترم مع النساء، هذا ما فهمته على الأقل بحكم الجوار واللقاءات المتقاطعة معه في الأماكن العامة، لكنها هذه المرة أرادت أن تستغل الموقف وتسأله وجها لوجه عما تسمع من الناس، فقالت له لماذا يقال عنك في القرية بأنك لا تحب النساء وتكره رائحة عطورهن؟
قهقه! ثم أخبرها بأنه يعشق كل نساء القرية، المتزوجة والمطلقة والأرملة والفتيات المراهقات، ويعشق أيضا روائح البخور والعطور بجميع أشكالها وأنواعها، لكنه لا يصرح بذلك لأحد، فهو يظهر العفاف والمروة أمام العائلة والجيران، أما رأيه في اللذة فما هي سوى لحظة عابرة تنتهي ريثما يضع الشارب كأسه على الطاولة، مثلها مثل الخمر واللحم المشوي، ومع هذا فإن الرجال لا يستطيعون الاستغناء عنها، وكذلك النساء، فلا يمكن أن نجد في أي مكان أنثى ( ولو كانت قطة ) لا تحب الذكور، ثم اقترب نحوها وهمس في أذنها قائلا: إن “اللذة أساس السعادة” يا سعاد، بدونها يصبح الإنسان لا معنى له، يصبح كالنفايات الملقاة أمام البيوت.