الاعتقال الاحتياطي …

يبدأ التحليل في كتاب” قرينة البراءة وشرعية الاعتقال الاحتياطي”، من مسلمة مفادها، أن الاعتقال الاحتياطي إجراء ماس بحرية المتهم، لأنه يؤدي إلى إهدار مبدأ قرينة البراءة، ويتعارض مع بقاء الإنسان حرا طليقا، لا تقيد حريته، إلا بناء على مقرر قضائي بالإدانة مكتسب لقوة الشيء المقضي به، بل أكثر من ذلك اعتبر التدبير الاستثنائي عقوبة صادرة عن جهة قضائية، النيابة العامة وقضاء التحقيق، غير مختصة أصلا بإصدار العقوبة.
إلا أن تحقيق المصلحة العامة يقتضي جعل المتهم رهن إشارة القاضي للتحقيق معه أو المحكمة لمحاكمته، وبالتالي يمكن استنطاقه في أي وقت، ومواجهته بمختلف أدلة الإثبات بما في ذلك الشهود، مما يساعد معه إنهاء البت في الدعوى العمومية الموصلة إلى الحقيقة بدون تأخير.
وفضلا عن ذلك، فإن المتهم الذي يوجد في حاله سراح، قد يتخلف عن الحضور وتتأخر معه إجراءات التحقيق والبت في الدعوى العمومية، كما قد يعمد إلى إخفاء الأدلة، وقد يؤثر على شهود الإثبات، بل قد يصطنع شاهدا زورا لنفي الاتهام عنه. لكن هذه الأسباب وغيرها، ورغم حصول الاعتقال ورغم خطورة الاعتقال الاحتياطي على الحرية الشخصية، فقد عملت غالبية التشريعات الجنائية على إقراره ضمن بنود قانون المسطرة الجنائية، ومن أجل ضبطه وتطبيقه عند اللجوء إليه، وضعت مقتضيات موضوعية وأخرى مسطرية.
1 – الأخذ بسد الذرائع

الاعتقال الاحتياطي إجراء استثنائي عرفته التشريعات العقابية القديمة، نذكر منها تشريعات قدماء المصريين والقانون الروماني والشريعة الإسلامية، التي أجازته عملا بقاعدة الأخذ بسد الذرائع وإزالة الضرر من أجل حماية المجتمع التي تقتضي الحد من حرية المتهم من أجل المصلحة العليا وهي حماية المجتمع.
وعرف فقهاء المسلمين الاعتقال الاحتياطي بأنه: ” تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه حيث شاء سواء كان ذلك في بيت أو مسجد أو كان بتوكيل نفس الغريم أو بتوكيله عليه أو ملازمته”.
ويكون الاعتقال الاحتياطي في الشريعة الإسلامية في بعض الجرائم وفي حالات خاصة، يستدل عليها عند توقيع العقوبة، حيث لا يوجد نص صريح يوجب الاعتقال الاحتياطي، إذ من شروط استيفاء القصاص أن يكون المستحق له عاقلا بالغا، فإن كان مستحقه صبيا أو مجنونا، لم ينب عنهما أحد في استيفائه لا أب ولا وصي ولا حاكم إنما يحبس الجاني حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون. فقد حبس معاوية هدية بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل، والحبس هنا عبارة عن توقيف وليس عقوبة. ومن شروطه ألا يتعدى الجاني إلى غيره، فإذا كان القصاص قد وجب على امرأة حامل فإنها لا تقتل حتى تضع حملها وتسقيه الحليب لأن قتلها يتعدى إلى الجنين وقتلها قبل سقيه الحليب، مضر به، وإن لم يوجد من يرضعه ويقوم على حضانته تركت حتى تفطمه ليتم تنفيذ الحكم وتعتقل الأم.
2 – خطورة تدبير استثنائي

المعتقلون احتياطيا هم أشخاص لم تثبت إدانتهم وقد تظهر براءتهم، والغرض من توقيفهم هو مجرد تقييد حريتهم لمنعهم من الهروب أومن التأثير على مجرى التحقيق ولحماية المجتمع، ولهذا فإن هناك عدة مبررات للاعتقال الاحتياطي، يمكن إجمالها في تهدئة الرأي العام، ومنع هروب المتهم والمحافظة على أدلة وحماية المتهم وقتيا وضمان تنفيذ العقوبة.
وأمام خطورة هذا التدبير الاستثنائي الذي تحول وللأسف إلى قاعدة مع الإفراط في اللجوء إليه، بداعي ضرورة تحقيق الردع الآني وتوفير الأمن والطمأنينة والاستقرار أمام تزايد الظاهرة الإجرامية، فإنه يتعين تقييده وضبطه بأكبر قدر من الضمانات التي تكفل وضعه في النطاق السليم لتأكيد براءة المتهم الذي يتعرض له.
ولا قيمة للضمانات دون وجود آليات منصوص عليها في التشريع المغربي، كما هو الحال بالنسبة إلى الوضع تحت المراقبة القضائية، وحظر الاعتقال الاحتياطي في جرائم الصحافة، وتحديد مدة الوضع تحت الإجراء المذكور، بالإضافة إلى آليات أخرى غير منصوص عليها، كما هو الحال بالنسبة إلى الطعن ضد الأمر بالإيداع في السجن، وإنهاء المحاكمة داخل الأجل المعقول، والتعويض عن الاعتقال الاحتياطي.
3 – قرينة “الإذناب”

رغم أن مبدأ قرينة البراءة يحتل تلك المكانة البارزة في المنظومة القانونية باعتباره حقا من حقوق الإنسان التي صانتها المواثيق الدولية والإقليمية والدساتير والقوانين الوطنية، بالنظر إلى ما تفترض من براءة المتهم في جميع مراحل الدعوى العمومية، إلى حين صدور حكم نهائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به، إلا أن التنصيص على إمكانية اعتقال المتهم بصفة مؤقتة، بواسطة آلية الاعتقال الاحتياطي، يجعل من المبدأ المذكور مجرد تنظير قانوني يبقى حبيس النصوص والحلقات الدراسية والندوات العلمية، ولا يجد له صدى أو أثر من الناحية العملية، ذلك أن إصدار الأمر باعتقال متهم احتياطيا وإيداعه السجن فيه مساس بقرينة البراءة ويحوله إلى قرينة الإذناب، لأنه تم قبل ثبوت التهمة المنسوبة إليه.
ومن جهة أخرى، فإن الاعتقال الاحتياطي يجعل إمكانية التحضير الجيد لدفاع المتهم أمرا غير ميسر، لأنه سيصعب عليه البحث شخصيا عن الأدلة التي من شأنها أن تعزز موقفه، وتنفي التهمة عنه للوصول إلى نهاية المطاف إلى إثبات براءته، ما سيحدث عدم تكافؤ في الفرص بين أطراف الدوى العمومية (النيابة العامة والمتهم).
كما أن للاعتقال الاحتياطي تأثيرا بشكل أو بآخر على العقوبة المزمع الحكم بها من قبل المحكمة، ذلك أن الأمر بالاعتقال الاحتياطي في حق المتهم يعطي الانطباع بأن هذا الأخير مجرم، وبرجحان ثبوت الفعل المنسوب إليه، ويرفع من درجة احتمال صدور حكم الإدانة ضده، بل أكثر من ذلك، فإن بعض المحاكم، وفي بعض الحالات لا ترغب في تبني موقف مخالف للموقف الذي اتخذته الجهة القضائية المصدرة للأمر بالاعتقال، فتسير على الأقل في اتجاه إصدار حكم بالإدانة على المتهم بمدة تغطي تلك التي قضاها كمعتقل احتياطي، ما لم يتم إصدار عقوبة بمدة أطول.
4 – الردع الآني

يلحق الاعتقال الاحتياطي ضررا بالغا بالمتهم الخاضع له، سيما من الناحية النفسية، إذ يتم إيداعه بأحد المؤسسات السجنية، ما سينتج عنه تأثير سلبي على صحته ومعنوياته وحالته النفسية ومساره المهني، ولن يتجاوز تداعيات الضرر بسهولة رغم حصوله على حكم البراءة في نهاية المطاف.
ولا شك أن الاعتقال الاحتياطي يساهم في تنامي ظاهرة الاكتظاظ بالمؤسسات السجنية، والذي يؤدي إلى وقوع انتهاكات تطول حقوق السجناء، والتأثير سلبا على ظروف إيوائهم وتحمل الموظفين سواء المكلفين بالجانب التربوي أو الحراسة، ناهيك عن أنه يشكل أهم المعيقات التي تواجه المجهودات المبذولة من قبل الإدارة المكلفة بالسجون، من أجل تحسين أوضاع وظروف عيش السجناء، وذلك عبر الاهتمام بالرفع من الطاقة الإيوائية، ويحول دون قيام السجن بالوظيفة الأساسية المنوطة به والمتمثلة أساسا في إعادة إدماج السجناء داخل المجتمع ومحاربة حالات العود إلى الجريمة. وإذا كنا لا ننكر أن الاعتقال الاحتياطي “شر لابد منه”، واللجوء إليها ضرورة لتحقيق الردع الآني في مواجهة بعض الظواهر الإجرامية الخطيرة التي تمس بشكل صارخ أمن واستقرار المجتمع، فإن الحكمة والبعد الإنساني والحقوقي ينبغي أن تكون حاضرة لدى القضاة عن الأمر به، حتى يبقى حقا إجراء استثنائيا ولا يتحول إلى قاعدة أو عقوبة مسبقة.

بقلم: عبد الرحيم فلاح

وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بتطوان

Related posts

Top