الانتحار عند الأطفال والمراهقين بين عمليتي التفكير والتنفيذ

الحقيقة الصادمة والمشكلة الحساسة المعقدة، هي لا يكاد يمر يوم إلا ونسمع عن حالات انتحار بين فئة الأطفال والمراهقين، وهي ظاهرة جديدة على مجتمعاتنا العربية. وتشير الأبحاث والدراسات الحديثة إلى أن ظاهرة انتحار الصغار على مستوى العالم قليلة لكنها تشهد تزايدا ملحوظا في الآونة الأخيرة.
فمفهوم الانتحار هو عملية ناتجة عن فعل واع ومحرر لقتل النفس ويصدر من نفس الشخص، أي كل فعل يقوم صاحبه بقتل نفسه مع نية مقصودة وتصرف متعمد، ويأتي نتيجة سلوك انتحاري سابق متصل بسلسلة من المحاولات التي يقوم بها الفرد محاولا وضع حد لحياته، وله عدة دوافع وعوامل تحفز عملية التفكير في الانتحار إلى تكرار المحاولة والفشل وأخيرا التنفيذ، منها عوامل نفسية عقلية على رأسها الاكتئاب، الهلاوس، الصرع، المخدرات والكحول، اضطرابات الشخصية، التحرش الجنسي الذي يعد أيضا أحد الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى الانتحار بين الأطفال، حيث يكون داخل الأسرة من الأب، الأخ، أو أقرب الأقرباء، الإدمان على مواقع الأنترنت أو ما يطلق عليه بالترهيب العنكبوتي والألعاب الإلكترونية الموهمة للطفل بأن العملية مجرد تسلية، أو أنه بطل الأبطال إذا نجح في استكمال لعبة المصير.
هناك أيضا عوامل اجتماعية منها العزلة الاجتماعية حيث ينطوي الفرد على نفسه ولا يتفاعل مع أفراد أسرته ولا مجتمعه، حتى يصبح عرضة للتفكير في الانتحار والإقدام عليه بسبب عطشه الوجداني وجوعه الاجتماعي. وهنا نلمس أهمية العلاقات الاجتماعية وما تقدمه من تغذية طبيعية لإرواء الذات الإنسانية لتخفيف ضغوطات الحياة العامة، وهنا نجد أنفسنا ملزمين لاستحضار ما ورد عند دوركايم، حيث أكد أن عملية الانتحار تختلف وقوة النسق العلائقي الذي ينتمي إليه، فكلما كان الفرد متشبثا ملتصقا به، ابتعد عن الانتحار، وكلما ابتعد عنه وانفصل عن روابطه اقترب من حالة ارتكاب الانتحار. وهذا يجرنا إلى الحديث عن العوامل الأسرية باعتبارها من أبرز أسباب الانتحار، فالأسرة مؤسسة اجتماعية ومدرسة أولى للأبناء، لكن للأسف الشديد في أحايين عدة قد تكون مصدرا لانحراف سلوك الأفراد، فالتربية غير السوية للأسرة قد تسبب سلوكا غير سوي، فغياب أحد الوالدين الوجودي (الوفاة، الطلاق)، أو الغياب المعنوي والحضور الشكلي… أو المشاحنات بين الوالدين وما يتخللها من عنف جسدي ومعنوي قد يثير الفزع والخوف عند الأبناء مما يعرضهم إلى إيجاد حلول بديلة للهروب من هذا الوضع بالانتحار، وهذا ما أثبت في الإحصائيات الأخيرة أن نسبة 84% من المنتحرين لدى فئة المراهقين تكون أغلبها للأسباب السابقة.
هناك أيضا عوامل فردية يمكن تلخيصها في ضعف الثقة بالنفس، الفشل العاطفي الذي يصيبه باضطرابات نفسية تدفعه إلى الإحباط وبالتالي السير الإرادي إلى عالم البرزخ، الفشل الدراسي والإخفاق وما قد يتعرض له المنتحر من لوم وسخرية من طرف المقربين….
وظاهرة انتحار الأطفال خطيرة جدا ومقلقة لكل المجتمعات البشرية سواء العربية أو الغربية، وهي في المجتمعات الغربية أكثر حدة منها في العربية. هذه الظاهرة لم تكن موجودة أصلا بين الأطفال، بل إنه في بعض الدول العربية مازال من المحرمات والعار الحديث عن انتحار الأطفال، فهي مسألة تمس المجتمع وحتى لو انتحر طفل فلن يتم الإعلان عن انتحاره لحساسية الموضوع، يقال إنه مات لسبب ما كالمرض الشديد. ويبلغ عدد الذكور المنتحرين ثلاثة أضعاف الإناث المنتحرات في البلدان الأعلى دخلًا، ويعود ذلك إلى أن الرجال يستخدمون طرقًا عنيفة في الانتحار تؤدي إلى موتهم، مثل إطلاق الرصاص أو القفز من أماكن شاهقة، أو الشنق أو اعتراض سبيل القطار… مما يؤدي إلى زيادة احتمالات نجاحهم في الانتحار، أما الإناث فيستخدمن وسائل قد لا تؤدي إلى الموت، مثل الأدوية واستعمال المبيدات ومواد التنظيف.
من جانب طريقة تعامل الغرب والعرب مع الظاهرة فالفرق شاسع وشتان بين التعاملين. فالغرب يهتم بهذه الظاهرة ويدرسها ويجمع الإحصائيات ويبحث في الأسباب والمسببات ويبرزها للإعلام، بينما في دولنا العربية الأرقام شحيحة والبحوث قليلة وبالتالي وضع الحلول لهذه الظاهرة وتلافيها يعتبر أمرا صعبا لأنها ظاهرة تتفاقم وتزداد بشكل كبير.
أما المشتغلون بالتحليل النفسي فقد استمدوا تفسيرهم للسلوك الانتحاري من تحليل فرويد، الذي أقر أن التكوين النفسي يتضمن غريزتين متصارعتين هما غريزة الحياة، وهي مدار كل فعل لسلوك إنساني طبيعي، وغريزة الموت مدار كل فعل تدميري عدواني، مع التسليم بغلبة الغريزة الأخيرة لدى الشخص المنتحر، حيث الكراهية والعدوان والتدمير للأنا مما يوقعه ضحية لدوافع عدائية نابعة منه انعكست إلى الداخل في اتجاه الذات لتدميرها.
وعصارة القول ضرورة وعي الآباء بخطر عدم حل مشكلات المراهقين النفسية أو التعامل معها باستهانة، وضرورة توفيرهم الجو النفسي الخالي من التوترات للحفاظ على حياة أبنائهم، وكذا مساعدة الأبناء للخروج من العزلة والابتعاد عن الأفكار السوداوية وخلق جو من المرح والطمأنينة، وتحفيز الثقة بالنفس بالاطلاع على نماذج إنسانية واقعية وصلت للقمة بعد سلسلة متواصلة من الإخفاقات.

< بقلم: للا عائشة قاديري

Related posts

Top