عاشت إسبانيا في الأيام الأخيرة سجالا سياسيا وطنيا كبيرا في إطار الحملات الانتخابية المرتبطة بالاقتراع التشريعي الذي جرى أمس الأحد، واعتبر محطة فاصلة، توقعت معظم استطلاعات الرأي أن تؤول نتيجته لصالح اليمين، وخصوصا الحزب الشعبي، مع احتمال أن يساهم ذلك، لو حدث، في إيصال تنظيم يميني متطرف إلى الحكومة، لأول مرة منذ زمن فرانكو. وبغض النظر عما ستكون قد أفرزته صناديق الاقتراع أمس، فإن الحملة الانتخابية كشفت عن صراع سياسي قوي حول قضايا رئيسية تعني الداخل الإسباني وتعقيداته، علاوة على تبادل الاتهامات بين قائدي الفريقين المتنافسين، ثم طبعا الخلاف حول العلاقة مع المغرب والموقف من قضية وحدته الترابية. وكشفت الجدالات الانتخابية عن استقطاب حاد وسط المشهد السياسي والمجتمعي الإسباني، وحضر فيها السجال حول الهوية والقيم وما يتصل بذلك، ويتوقع أن تأتي النتائج متقاربة بين اليمين واليسار، ما سيجعل اللجوء إلى التحالفات محتوما، دون استبعاد احتمال دخول البلاد في أزمة حكومية بسبب نتيجة الاقتراع. وبغض النظر عن التوقعات، فإن قرار الحزب الاشتراكي الإسباني الحاكم اللجوء إلى خيار انتخابات تشريعية سابقة لأوانها كان خطوة شجاعة، ووصفها البعض بالمغامرة حتى، ويعتقد المراقبون أن إسبانيا ستعيش مرحلة سياسية تختلف عما سبقها. في العلاقة مع المغرب، من المؤكد أن الجميع يتطلع إلى الموقف من الوحدة الترابية للمملكة، وخصوصا بعد إقدام الحكومة الاشتراكية على الخطوة التاريخية بتغيير الموقف التقليدي لمدريد من مغربية الصحراء، ولكن العلاقات التاريخية بين البلدين تحكمها أيضا ملفات اقتصادية واجتماعية وثقافية واستراتيجية وأمنية متنوعة ومعقدة. وهي، بدورها، ستكون على جدول أعمال الصلات الثنائية والإقليمية بين الرباط ومدريد، وبالتالي تجعل نتيجة هذه الانتخابات موجهة لطبيعة العلاقات المستقبلية بين المغرب وإسبانيا. في مقابل ما سلف، يفيد عدد من المحللين أنه حتى في حال فوز الحزب الشعبي اليميني، فالراجح أن الموقف غير المسبوق الذي اتخذه الحزب الاشتراكي بشأن الوحدة الترابية للمغرب لن يشهد تغييرا كبيرا أو، على الأصح، تراجعا، وذلك بالنظر للتطورات والتبدلات التي يعيشها عالم اليوم، وأيضا المد العالمي المتنامي للمواقف الداعمة لمخطط الحكم الذاتي وللحق الوطني المغربي، علاوة على صرامة الموقف الديبلوماسي المغربي القائم على النظر للعلاقة مع الدول بمنظار الموقف من مغربية الصحراء. في الأيام الأخيرة من الحملات الانتخابية أبدى الحزب الشعبي بعض المرونة في مواقفه من المغرب، وهو ما استندت إليه كتابات عديدة للتأكيد على أنه، حتى مع وجود حكومة يمينية في الجارة الإيبيرية، فإن الحزب الشعبي سيستحضر مصالح إسبانيا أولا وأهدافها الإستراتيجية في الأمن والاقتصاد والهجرة، في قطاعات الاستثمار والصيد البحري، أو في المجال الأمني أو السياسي أو الديبلوماسي، ومن ثم سيكون من الواجب عليه تقوية العلاقات مع المغرب، وتمتين العلاقات الثنائية والإقليمية، وبناء أفق مشترك يحقق مصالح الطرفين. ولكل هذا، يعتقد مراقبون أن خلاف الحزب الشعبي مع غريمه الاشتراكي العمالي حول الموقف من مغربية الصحراء لن يرقى إلى مستوى إحداث تراجع جدري أو تغيير راديكالي من طرفه على هذا الموقف، كما أنه لا توجد مؤشرات حقيقية على عزم اليمين الإسباني صياغة أسلوب تعامل يتناقض مع مقومات المرحلة الجديدة في العلاقات بين الرباط ومدريد. أما الاستحقاق الانتخابي في حد ذاته، فيجدر أن نتمعن في مجرياته، ذلك أن اهتمام الناخبين وإقبالهم، برغم ارتفاع درجات الحرارة في معظم المدن وفترة العطل الصيفية، يبرز أهمية انخراط الشعب ووعي الناخبين والرهان على المواطنات والمواطنين أولا. وقد نقلت بعض وسائل الإعلام هناك في اليومين الأخيرين كيف أن الناس يتبادلون فيما بينهم الرسائل الهاتفية يدعون بعضهم البعض إلى التصويت والذهاب إلى صناديق الاقتراع أمس الأحد. كما نقل المتابعون أجواء الحملات الانتخابية والمستوى الرفيع للتدخلات السياسية من معظم الأطراف الحزبية المتنافسة، بما في ذلك بعض الأحزاب الصغيرة، وسجلوا كذلك أن البلاد تخوض استحقاقا انتخابيا حاسما سابقا لأوانه، وذلك بالرغم من عدم وجود أزمة اقتصادية أو اجتماعية خطيرة على غرار ما يحدث في بعض دول الجوار الأوروبي أو لدى بلدان أخرى في المتوسط أو بعيدا عنه، وهذا درس مهم للجميع ينتصر لاحترام الخيار الديمقراطي، والدفاع عن دولة المؤسسات واستقرارها وتقدمها، ويؤمن بالمثول أمام إرادة الناخبات والناخبين دائما، ويقتنع بأن المصداقية والثقة تكتسبان من تصويت الشعب أولا.
<محتات الرقاص