الباعة الجائلون: البشر قبل المساطر

عاد الحديث عن قطاع الباعة الجائلين للواجهة، وذلك إثر صدور توصيات بهذا الشأن تضمنها الرأي الاستشاري الذي أصدره المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، ويمثل الموضوع معضلة حقيقية في المنظومة الاقتصادية الوطنية، كما أنه يساهم في تفاقم واقع الهشاشة وضعف الإنتاجية.
القصص العديدة التي تروى من مختلف مناطق البلاد حول هذه التجارة غير المنظمة، تكشف حجم ما تحتضنه من أسر ومستفيدين، وتفضح أيضا العديد من الممارسات الفوضوية المحيطة بها، كما تبين ضعف استفادة الاقتصاد الوطني من كل ذلك، وهو ما لا شك يعرضه المختصون بالكثير من التفاصيل التقنية والتحليلية منذ سنين.
المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أوصى بالسعي لتقنين أنشطة الباعة الجائلين، واعتبر أن «من شروط انتقال الباعة الجائلين إلى القطاع المنظم، ومن شروط تحرير الطاقات من أجل اقتصاد نشيط ومنتج، وجود بيئة قانونية متكاملة تؤطر أنشطة التجارة الجائلة».
من المؤكد أن هذا المدخل التقنيني والتأطيري والتنظيمي يعتبر من دون شك ضروريا، وشرطا للانتقال بهذا القطاع لكي يندرج ضمن الدورة الاقتصادية الوطنية، ومن ثم هناك حاجة فعلا لتحيين القوانين والمساطر وتطويرها، وتحديد الشروط والالتزامات، وتبسيط الإجراءات، ولكن كل هذا يعني أولا ميكانيزمات البيع والشراء، ومنظومات التجارة والبضائع والمساطر والعلاقات، ويبقى الإنسان، أي هؤلاء الآلاف من المغربيات والمغاربة المرتبطين بهذه التجارة والممارسين لها بمختلف الصيغ، وهذه الموارد البشرية الهائلة تستحق، بدورها، أن تكون في صدارة الاهتمام.
يمكننا توفير القوانين والمساطر، وفرض إنجاز بطاقة المقاول الذاتي، وجر الناس نحو المعاملات البنكية ونظام الفوترة وغير ذلك، ولكن لا بد كذلك من إعداد هؤلاء الباعة الجائلين أنفسهم لتملك كامل هذا التحول وإدراكه والوعي به وقبوله، وهنا توجد من ضمن توصيات المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، بعضها تتحدث عن «الدعم التقني والاستشارة» لمواكبة المستفيدين، وتوصي أيضا بتوفير «تكوين مهني للتجار الجائلين في مختلف المهن والحرف»، علاوة على «إحداث برامج تكوينية مرنة لفائدتهم في مجالات محاربة الأمية والرقميات والصحة والسلامة وخدمة الزبناء والتسويق والتدبير…»، وتدعو إلى تمكينهم من «الاستفادة من دعم مالي للانخراط في برامج التكوين…».
هذا الجانب من التوصيات يمتلك أهمية محورية، ذلك أن النجاح فيه هو المحدد للنجاح في باقي التوصيات الأخرى ذات الصلة بالقوانين والمساطر وإجراءات التمويل والتنظيم والتأهيل، حيث أنه بدون الارتقاء بالبشر، وجعل الباعة الجائلين أنفسهم يتملكون ورش التأهيل، ويسعون إليه، ويكتسبون سلوكات مواطنة وحرص على التقيد بالقانون والشفافية، سيكون صعبا النجاح في هيكلة القطاع والحد من مخاطره وتداعياته السلبية.
الأمر لا يتعلق إذن بعمل بسيط، وإنما يتعلق بورش وطني تنموي حقيقي، ويهم معالجة واقع تفشت فيه كثير ممارسات تكاد تكون مافيوزية في عدد من المناطق، وبات يجسد الريع بشكل فاضح، علاوة على أنه يحتضن آلاف الناس الذين يقتاتون منه ويطعمون أسرهم وذويهم.
ولكل هذا ، لا بد أن نستحضر واقع هؤلاء الفقراء الذي أجبرتهم الحاجة على ممارسة مثل هذه الأعمال غير المنظمة، وأيضا ظروفهم الاجتماعية ومستوياتهم المادية والتعليمية والثقافية، وأن نستحضر ضرورة مقاربة المعضلة عبر مختلف هذه المداخل، بما في ذلك مدخل التكوين والتعليم ومحاربة الأمية وتنمية الوعي العام، والارتقاء بالمهارات الحرفية والمهنية، وهذه المقاربة هي الكفيلة بتعبئة المستفيدين للانخراط في هذا الورش التأهيلي، وجعل العملية بكاملها بمثابة «أشغال كبرى» للبناء والتنمية، تنخرط فيها قطاعات وأوساط متنوعة، وذلك بغاية كسب الرهان، ولجعل الحلول مستدامة.
من الإيجابي أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي انتبه فعلا إلى هذا الجانب التكويني والتثقيفي في توصياته، وتوقف عند أهميته، وعرض اقتراحات ذات صلة، كما أنه من الإيجابي كذلك الإشارة إلى اعتماد منهجية تدريجية تستحضر إكراهات الواقع العملي وظروف المستفيدين، ولكن لكي لا تتحول التوصيات إلى أدبيات يتم ركنها في الرفوف، يجب الإنكباب على أجرأتها، وتحويلها إلى برامج حكومية فعلية وسياسات عمومية دقيقة وذات زمنية تنفيذ واضحة، وتسعى لكي يتحقق من خلالها الأثر الملموس على حياة ومدارك المعنيين بهذه التوصيات.

محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top