البقالي الذي يخفي الغابة…

لم يخيب بطلنا العالمي والأولمبي، سفيان البقالي ظن ملايين المغاربة، وكل من راهن عليه بقوة، على أمل تجديد العهد مرة أخرى، بمنصة التتويج الأولمبي…
بالفعل كان ابننا البار في الموعد الكبير، أهدانا مرة أخرى أغلى الألقاب، وأثمن التتويجات، ليزين أعناقنا بالذهب، رافعا رايتنا عاليا، ودعيا العالم للاستماع إلى النشيد الوطني: «عشت في الأوطان.. للعلا عنوان.. ملء كل جنان.. ذكر كل لسان…».
الأكيد أن الانتظار كان جد قاس، بعد أن لازمت الأصفار حصيلتنا بسبورة الميداليات طيلة 13 يوما، في وقت كانت الأمم تتسابق أقوى، لتدوين اسمها بمداد الفخر والإبهار، وتأكيد التفوق…
إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة، تلك التي راهنا عليها جميعا، الساعة العاشرة وخمسة وأربعون دقيقة بالتوقيت المحلي، الموعد المحدد لانطلاق نهاية سباق 3000 متر موانع، بمشاركة البطل الفذ، في موقعة مفتوحة على كل الاحتمالات، لكننا لم نشكك ولو لجزء من الثانية في أن ابن فاس، مدينة العلم والحضارة وموطن الرياضيين المتألقين، قادر على كتابة التاريخ، وتدوين اسم المغرب، بمداد الفخر والاعتزاز.
عاش بطلنا فترات عصيبة، وهو بعيد عن الأضواء، منعزلا صحبة مدربه الإطار الوطني الكفء كريم التلمساني، متفرغا كليا، لخوض تداريب مكثفة وشاقة، مع كامل المتمنيات بالتعافي من الإصابة البليغة التي لحقت به منذ بداية السنة، تحمل العودة للتداريب شهر أبريل، إلا أن إصابة التي وصفت بـ «كسر العياء» تجددت، خلال مشاركته بملتقى مراكش شهر ماي…
وتحت ضغط الانتظارات، وحجم الأماني والآمال الكبيرة، تسلح بالصبر متحملا كل مشاق التداريب تحت إشراف طبي وتقني وذهني بأدق التفاصيل والمعطيات العلمية، مر بفترة صعبة، تطلبت الاختفاء عن الأنظار، والانزواء بعيدا عن فضول رجال الإعلام، وجواسيس الخصوم، تحصن بمنطقة خاصة بواحة إفران المدينة الجميلة والهادئة، والتي ارتبطت بها الإنجازات التاريخية لأم الرياضات، بذاكرتنا الجماعية.
ففي كل التعاليق والتحليلات، كان هناك تخوف كبير من كوكبة الخصوم المتحمسين من جنسيات متعددة، إثيوبيون وكينيون وتوانسة، انضاف لهم عداء أمريكي اختبر قوته في مسابقة، لا تعتبر تقليدية بالنسبة للمدرسة الأمريكية المعطاءة، في سباقات السرعة والتخصصات التقنية…
ويمكن القول إن السباق النهائي تميز بحدثين مؤثرين، أولهما تطوع العداء محمد تيندوفت بتقديم تضحية، غير معمول بها في سباقات بطولات العالم والدورات الأولمبية، حيث أخذ المبادرة مربكا حسابات، وخطط من راهنوا على عدم جاهزية ابن الأطلس الشامخ…
ما قام به تيندوفت يعد تكرار لما سبق أن قام العداء المغربي السابق عادل الكوش، خلال بطولة العالم لألعاب القوى بإشبيلية الإسبانية، يومها تمكن البطل الفذ هشام الكروج من هزم الإسبان والكينيين، وأيضا الجزائريين، يقودهم نور الدين المرسلي الذي عجز عن إكمال السباق…
وحين نتذكر هذه النسخة من بطولة العالم، نتذكر أيضا أن المغرب احتل الصف الخامس في الترتيب العالم، وهي المرتبة التي لم تتكرر، بل أضحت صعبة المنال، في ظل التراجع الخطير التي تعرفه ألعاب القوى الوطنية…
الحدث الثاني الذي عرفه سباق أول أمس الأربعاء، سقوط حامل الرقم القياسي العالمي لاميشا جيرما، بعد اصطدام غريب بسفيان البقالي، أدى إلى تهاوي العداء الإثيوبي، ومن حسن الحظ تمكن عداؤنا من الصمود، والتمكن من مواصلة السابق بنفس الإيقاع، وتفادي سد الممرات الممكنة، والعمل على تجاوز الاستسلام لوضع «الكماشة»…
وفي لحظة حاسمة، صعد البقالي للمقدمة، متأكدا من أخذ زمام المبادرة، وقطع الطريق أمام المتربصين، وفي توقيت مناسب، تقدم بسرعة فائقة صعبة على المجاراة، بالرغم من المجهود الملحوظ الذي بذله الأمريكي كينيث روكس والكيني أبراهام كيبيوت، صاحبا الرتبتين الثانية والثالثة…
ولكم أن تتصوروا تلك اللحظة الاستثنائية التي عبر فيها سفيان خط النهاية، بكثير من التفوق والابتسامة العريضة، راسما علامة النصر، والأكيد أن الملايين عبر كل بقاع العالم، تقاسموا تفاصيل هذا المشهد الجميل، يعيدون ترديد مفردات بحمولة وطنية ومعاني الاعتزاز: «منبث الأحرار.. مشرق الأنوار…»

باريس – مبعوث بيان اليوم:
محمد الروحلي

Top