يحتفل الشعب المغربي هذه السنة بإيض اناير، وقد تحقق مطلب طالما طالب به نشطاء ومناضلون في الحركة الثقافية الأمازيغية من أجل جعل يوم الرابع عشر يوم عطلة مؤدى عنها وهو ما تأكد منذ السنة الماضية، وهي مطالب تتماشى مع دينامية المجتمع المغربي، والذي يدبر اختلافاته بشكل عقلاني مما يجعله بلدا كان دائما منفتحا على النقاش وعلى تدبير الاختلاف وترسيخ قيم العيش المشترك.
ايض اناير طقس احتفالي قديم قدم هذه الأرض وهو يدخل ضمن احتفالات الأمازيغ المرتبطة بالفلاحة وبحياة المزارعين.
فقبل أن يتحول الاحتفال إلى احتفالات كبيرة داخل القاعات العمومية والفضاءات المستقطبة للآلاف، كان الاحتفال لا يتعدى البيوت، حيث كانت الأسر تستعد لهذا الحدث بتزيين المنزل (الجير) وإخراج الأفرشة من زرابي وتهيئي أواني الشاي لجعل تمصريت، وهي الغرفة المعدة للضيوف والاحتفال، تكتسي حلة قشيبة تليق بالحدث، والمعروف أن طقوس الضيافة تقتضي توفر(تمكيلين) وهي أواني بنفس الحجم والشكل تتضمن العسل والزيت (خصوصا زيت الأركان) والسمن التقليدي المنتج في البيت إضافة إلى أملو الذي تتفرد به هذه الربوع.
كل هذه الأطباق هي إنتاج محلي تدخل ضمن نمط زراعي تتكامل فيه تربية الماشية وزراعة الحبوب والأشجار المثمرة خصوصا اللوز، إضافة إلى تربية النحل لإنتاج العسل، هذا النمط الفلاحي الرعوي تعتبر فيه الأرض مركز الثروة والحياة. لذلك لابد من الاحتفال بها سنويا عبر طبق شهير يسمى (اورکیمن)، وهو طبق غریب لا يهيأ إلا مرة في السنة يتضمن سبعة أنواع من الحبوب مثل الذرة – الفول – الجلبان – القمح – العدس… الخ.
تنضاف إلى الحبوب السبع، قوائم الماعز أو الغنم (الكرعين)، فيبدأ إعداد الطبق منذ الصباح على نار هادئة، بطبيعة الحال مع إضافة الزيت والبهارات التي لا يحلو الطعام إلا بها، دون إضافة الملح، وبعد أن تصبح الأكلة جاهزة يتم أخذ جزء منها في طبق صغير ويرش في أماكن خاصة مثل أنوال وبعض الممرات اعتقادا بأن ساكني المنزل من الكائنات الأخرى تشارك الناس طعامهم دون إذايتهم (المسوس)، بعد ذلك يضاف الملح ويقدم الطعام عشاء لكل أفراد العائلة.
والغريب أن كل الأبناء الذين هاجروا للاشتغال في المدن الكبرى بالشمال أو بخارج المعرب، يعودون لتناول نفس الطبق لأن عدم أكله خلال السنة الجارية معناه أنهم لن يأكلوه قبل السنة المقبلة، لأنه طبق يهيأ مرة واحدة في السنة، كما سبقت الإشارة.. للطبق رمزیات عديدة: أولها أن المهاجرين يعودون إلى القرية حتى لا ينسلخوا عن ثقافة الأصل والأرض “تمازيرت”، هذا الاسم السحري الذي يعني الوطن الصغير الذي يبدأ من القرية، وهي فرصة للقاء ولتدبير أمور العائلة الممتدة والانتباه إلى أحوال القرية التي تعيش على وقع المطر والهجرة. ثم رمزية ثانية تتجلى في الدعوة إلى العمل، فاستعمال سبعة أنواع من الحبوب تعني أن المخزون قارب على الانتهاء وبالتالي فهي دعوة للزراعة، من أجل ملء المخازن للسنة الموالية.
والجميل في هذه الأجواء أن الجدة تكون هي صاحبة الأمر والنهي، ومعلوم أن المجتمعات الأمازيغية هي مجتمعات أميسية تحتل فيها المرأة مكانة خاصة، فهي المسؤولة عن الخزائن (أكنار) حيث توضع المواد الغذائية للسنة، وتكون الجدة حاملة المفاتيح التي تتمنطق بها. وإذا بحثنا في الأصول سنجد أن الجدة تحرص على حياة أبنائها وحفدتها، وبما أن المنطقة عاشت مجاعات كثيرة فتقنية تدبير النذرة حاضرة بقوة، ومن تم وجود المخازن داخل البيوت وخارجها أي ما يعرف بإيكيدار التي تدخل ضمن الاقتصاد الفلاحي الرعوي الذي طور تقنيات كثيرة في مجال تدبير النذرة.
طبق ثان يحضر ضمن هذه الاحتفالات هو (تاكلا) العصيدة وهي في الأصل من الذرة والتي تحتاج وقتا طويلا لكي تطبخ على نارهادئة توضع وسطها زيت الزيتون او العسل أو الزبدة والعسل وهي طبق عادة يقدم في نهاية الأكل وداخله توضع نوى ثمر من عثر عليها يصبح أسعد شخص في السنة وغالبا ما تقدم له هدية تعد للمناسبة تسمى تسمغورت.
كل هذه الأجواء تمر في طابع احتفالي تحضره الأسرة الممتدة من جد وجدة وأعمام وأخوال وهو ما جعل التشبث بالعائلة والتضامن معها شيئا واجبا اتجاه الأسرة الكبيرة وتمازيرت.
ولعل مرجعية هذه الاحتفالية قوامها بناء شخصية مواطن يقبل التحدي رغم الصعوبة وضنك العيش، ويتمسك بمرجعية قوية ومتينة على شاكلة الأركان٬ مرجعية الأرض والإنسان٬ مرجعية الأصول والجذور العصية على المحو والزوال، تلك التي تأبى النسيان وتصر على أن تتجدد وتزهر وتينع وتثمر من جديد.
وهذا الارتباط بالأرض ليس شوفينيا أوعنصريا٬ بل هو جزء من الهوية التي تعني التضامن والعمل مع الآخر، وتقدم نسيجا لمجتمع مغربي متماسك، حيث تعد القرية بمثابة الحلقة الصغيرة في السلسلة الكبيرة التي هي الوطن٬ وإذا كان هناك خلل في تلك الحلقات فلا يمكن أن ننسج سلسلة متماسكة.
كل هذه الطقوس صمدت كما صمدت شجرة الأركان، وكما صمدت اللغة الأمازيغية من خلال حرف “تيفيناغ”٬ وأن الاحتفال برأس السنة الأمازيغية هو٬ وإن كان احتفاء بنهاية موسم فلاحي لاستقبال موسم آخر٬ فإنه أضحى يمثل مناسبة للتذكير بالهوية المغربية المتنوعة في إطار التعدد والاختلاف.
الكثير من الاحتفالات بطابعها التقليدي توارى أمام احتفالات جديدة تأثرت بالمدينة وبالاحتفالات داخل القاعات الكبرى.. وللتذكير فإن الحركة الثقافية الأمازيغية كانت دائما تحتفل بمقراتها أو ببعض المنازل إلى حدود سنة 1999 عندما قامت جمعية تامونت افوس بأول احتفال رسمي بأحد الفنادق الكبيرة بأكادير لتتوالى الاحتفالات الكبرى، بل من الجمعيات ما جعلت من هذا الاحتفال فرصة للتضامن مع الفنانين الأمازيغ الذين يعيشون وضعية الهشاشة وأخص بالذكر جمعية تاليلت للمساعدة الطبية للفنانين، والتي استطاعت أن تعمل على تعميم التغطية الصحية للفنانين بأداء واجب الاشتراك في التعاضدية الوطنية للفنانين نيابة عنهم سنويا لأزيد من 120 فنان وفنانة.
ختاما عام 2025 الموافق لـ 2975 بالتقويم الأمازيغي، وبعد إقرار14 يناير يوم عطلة مؤدى عنها، سيحتفل الشعب المغربي قاطبة وبكل مكوناته، هذه السنة كما السنة الماضية، بهذا الحدث الهام.
بقلم، د. خالد ألعيوض
باحث في الثراث والثقافة الشعبية
مدير مركز تاوسنا