الثقافة والمجتمع المدني

للوصول إلى فهم عميق لآلية ترابط الثقافة والمجتمع المدني، علينا أولا الغوص في العلاقة الشكلية والمضمونية التي تربطهما، فالثقافة تمثل مرآة عاكسة لحياة المجتمع بكل تفاصيلها، فهي نتاج تفاعلاته وتجاربه عبر أدوات ومرافق مختلفة، بينما يشكل المجتمع المدني حاضنة غنية للتعبير الثقافي، حيث يتيح مساحة حرة للأفراد والجماعات للتواصل، ومشاركة أفكارهم، وإبداعاتهم، وتعزيز القيم والممارسات الثقافية. إن علاقة الثقافة بالمجتمع المدني ليست أحادية الاتجاه، بل هي ترابط جدلي يتغذى من بعضه البعض، حيث تشكل الثقافة الأساس الفكري والروحي للمجتمع المدني، بينما يساهم هذا الأخير في نشر وتطوير الثقافة من خلال أنشطته ومبادراته.

من ينبوع التجارب المتراكمة، ينبثق ينبوع الفكر والمعرفة. فالإنتاج ليس مجرد مخرجات جامدة، بل هو مادة حية تتفاعل مع ذاتها، وتعيد تشكيلها لتُفصح عن جوهرها. إنها رحلة استكشاف لا تنتهي، حيث يتحول الفكر اليومي إلى تأمل عميق في الشأن العام، يندمج معه العمل والممارسة في نسيج واحد. عندما تتوفر شروط إنتاج مختلف الأنشطة المجتمعية، تنشأ أرضية خصبة لنمو “العلاقة الحميمية” بين العمل اليدوي والفكري. فهذه العلاقة لا تقتصر على مجرد تفاعل بينهما، بل هي اندماج عميق يوحد بين أشكالهما التعبيرية، ويخلق نسيجًا مترابطًا من الإبداع والإنجاز. من خلال هذا التصور، تتجلى الثقافة كمرآة تعكس جوهر المجتمع الذي أنتجها. فتصبح العلاقة بينهما نسيجًا مترابطًا من الانسجام والتطابق، حيث تتناغم جميع أوجه التعبير المجتمعي في وئام تام.

وتمثل هذه الرؤية الشمولية نقلة نوعية عن أدبيات مختلف الإيديولوجيات التي سادت القرن الماضي وماتزال، والتي سعت جاهدة إلى بسط هيمنة الدولة على كافة جوانب الحياة المجتمعية. فالثقافة، في هذا الإطار، ليست مجرد أداة في يد الدولة، بل هي روح المجتمع وكيانه، وهي التي تشكل هويته وتحدد مساره، وعليه، تصبح العلاقة بين الثقافة والمجتمع علاقة تكاملية قائمة على التعاون والتناغم، بعيدا عن سيطرة أي طرف على الآخر.

من رحم التجارب، سواء الشيوعية أو الليبرالية، نتعلم درسًا قاسيًا: حينما تتحول الأفكار والممارسات السياسية إلى عقائد جامدة، لا ينتج عن ذلك سوى سلطة قهرية تخنق الحياة المدنية وتقيم دولة عسكرية. يتناقض هذا النهج مع جوهر المجتمع المدني ويعيق التغيير المنشود الذي نسعى إليه لنيل كرامة الإنسان وحقه في العيش بحرية بعيدًا عن الخوف والسيطرة.

بدلاً من أن تصبح الأيديولوجيات قيودا تكبلنا، يجب أن نستفيد من التجارب ونبحر نحو آفاق جديدة ترسي قواعد العدل والمساواة، وتتيح للإنسان العيش بكرامة وحرية، وكل تغيير يتخذ العنف وسيلة له لا يمكن له أن ينتج سوى عنف مضاد، كيفما كانت مبرراته وحيثياته، وأهدافه الإيديولوجية. لا ينبت التغيير من فراغ، بل يتجذر في أعماق المجتمع، متشربا عصارة مكوناته السياسية والثقافية والتاريخية، ناهلا من ينابيع لغته هوية وروحا. لا ينبت التغيير من فراغ، بل يتجذر في أعماق المجتمع، متشربًا عصارة مكوناته السياسية والثقافية والتاريخية، ناهلاً من ينابيع لغته هوية وروحا. ولكي يثمر هذا التغيير، لا بد من مراعاة طموحات أفراد المجتمع، سعيًا لتحقيق تطلعاتهم الذاتية والموضوعية.

ووسط بوتقة الثقافة الجامعة، التي تذيب الفوارق وتنصهر فيها القلوب، ينبثق التغيير تدريجيًا، حاملاً معه بذور الوعي المجتمعي. مع كل لحظة تمر، ينمو هذا الوعي، متغذيا من رحلة التغيير الطويلة، ليصبح رافعة له، ودافعًا نحو آفاقٍ رحبة من التقدم والازدهار. فالتغيير رحلة لا سباق، تتطلب صبرا ومثابرة، وإيمانا راسخا بقدرة المجتمع على تجاوز التحديات وتحقيق طموحاته.

يتطور المجتمع المدني عبر تراكم الخبرات المكتسبة من مسيرته الطويلة، وتجاربه اليومية المتكررة. ويكون هذا المجتمع المدني بمثابة الدرع الحامي لجميع فئات المجتمع، حافظًا على التوازنات التي تفرضها النشأة والتاريخ، ونوعية المشاكل التي يعاني منها. وتشير هذه الديناميكية إلى عملية نموٍ داخليّ للمجتمع المدني، تغذيها تجاربه المتراكمة وتفاعلاته المستمرة مع محيطه. وتجسد هذه العملية قدرة المجتمع المدني على التكيف والتطور، مُواجها التحديات والمشاكل التي تفرضها البيئة المحيطة. وعليه، يمكن القول إن المجتمع المدني كيان حيوي يتفاعل مع محيطه، ويُساهم في إحداث التغيير والتطوير.

في سياق مجتمع متخلف يتسم بتنوع النوازع وتعرضه للانقسامات الإثنية واللغوية، ووجود تفاوت في تركيباته الاجتماعية مع انعدام التكافؤ، تفرض الضرورة التاريخية والظرفية التعاطي بوعي وحذر مع مجمل مشاكله. فلا توجد وصفة سحرية آلية لحل معضلات أفراد هذا المجتمع. وتتفاقم صعوبة معالجة مشكلات مجتمع كهذا بسبب تعقيد ديناميته الداخلية وتداخل العوامل المؤثرة عليه. فكل عامل من هذه العوامل يتفاعل مع الآخرين، مشكلًا شبكة من العلاقات المعقدة التي يصعب فكها وفهمها. وعليه، يتطلب التعامل مع مشكلات هذا المجتمع نهجًا علميًا نقديًا يأخذ بعين الاعتبار جميع العوامل المؤثرة، ويُراعي خصوصية سياقه التاريخي والثقافي. ويجب أن يبنى هذا النهج على أسس البحث العلمي الدقيق وفهم عميق لديناميات المجتمع.

تواجه الرؤية الساعية إلى تغيير طبيعة المجتمع تحديًا أساسيًا، يتمثل في فهم واقع المواطن ورؤيته لواقع الأمور. فبدون هذا الفهم العميق، لا يمكن رسم خطة عملية توضح البعد المستقبلي للمجتمع المنشود، حيث تسود الحقوق المدنية. وذلك بهدف إحداث حركة ديناميكية تنطلق من داخل المجتمع لا من خارجه، بعيدا عن كل التصورات الفكرية المجردة. وتكمن أهمية فهم واقع المواطن في كونه الفاعل الرئيس في عملية التغيير. فمن خلال فهم احتياجاته وتطلعاته، يمكن تصميم خطة عملية تلبي هذه الاحتياجات وتحقق هذه التطلعات. كما أن فهم رؤيته لواقع الأمور يساعد على تحديد العقبات التي قد تواجه عملية التغيير، وبالتالي وضع استراتيجيات مناسبة للتغلب عليها. وعلاوة على ذلك، فإن انطلاق حركة التغيير من داخل المجتمع يعزز استدامتها ويقلل من احتمالية فشلها. فالمجتمع الذي يقود نفسه أكثر التزامًا بالتغيير وأكثر قدرة على الحفاظ على مكتسباته. كما أن الابتعاد عن التصورات الفكرية المجردة يضفي طابعا واقعيا على خطة التغيير ويزيد من فرص نجاحها. فالتغيير الحقيقي لا يبنى على أفكار مجردة، بل على فهم عميق لواقع المجتمع واحتياجات أفراده.

يشدد هذا البعد على ضرورة تحديد الأولويات في النضال المجتمعي قبل الخوض في النضال السياسي. بمعنى آخر، يشير إلى أن النضال المجتمعي بمنظور ثقافي متطور قادر على توحيد العلاقة الجدلية بين البنية التحتية والبنية الفوقية. وتكمن أهمية تحديد الأولويات في النضال المجتمعي في كونه يساعد على تركيز الجهود على القضايا الأكثر إلحاحا، ويتيح إمكانية تحقيق نتائج ملموسة تساهم في تحسين حياة أفراد المجتمع. كما أن تحديد الأولويات يساعد على بناء قاعدة جماهيرية عريضة تدعم النضال المجتمعي. وعلى صعيد آخر، فإن النضال السياسي يمثل أداة أساسية لتحقيق التغيير الاجتماعي. فمن خلال النضال السياسي، يمكن التأثير على السياسات الحكومية وإصدار القوانين التي تلبي احتياجات أفراد المجتمع. ولكن فعالية النضال السياسي تعتمد إلى حد كبير على قوة النضال المجتمعي.

وإلى ذلك، يساهم النضال المجتمعي بمنظور ثقافي متطور في توحيد العلاقة الجدلية بين البنية التحتية والبنية الفوقية. فمن خلال هذا المنظور، يمكن فهم العلاقة المعقدة بين الثقافة والمجتمع، والتأثير المتبادل بينهما. كما أن هذا المنظور يساعد على تطوير استراتيجيات فعالة للنضال المجتمعي تهدف إلى إحداث تغيير إيجابي شامل.

يمكن للنضال الثقافي، كسلطة فوقية وكواجهة غير عنيفة، أن يساهم في بلورة وعي الفرد لمنافسة سلطة الدولة عبر مؤسسات المجتمع المدني. ولكن لكي يتحول إلى أداة فاعلة من خلال النضال المجتمعي، فإنه يجب أن يرتقي إلى مستوى النضال السياسي. ويكمن مفتاح هذا التحول في تحويل النضال الثقافي إلى وظيفة إيديولوجية متفتحة على مختلف التوجهات الفكرية. فمن خلال هذا الانفتاح، يمكن للنضال الثقافي أن يوحد الجهود من أجل تحقيق التغيير. وذلك لأن التغيير الحقيقي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال مشاركة واسعة من جميع أفراد المجتمع. وعندما يكون النضال الثقافي مفتوحا ومتنوعا، فإنه يصبح أكثر جاذبية ويشجع المزيد من الناس على المشاركة فيه. على ذلك، فإن النضال الثقافي المتفتح يساعد على تجاوز الانقسامات الأيديولوجية. فمن خلال الحوار والنقاش، يمكن للأفراد من مختلف التوجهات أن يتوصلوا إلى تفاهم مشترك ويبنوا أرضية مشتركة للعمل من أجل التغيير. وهكذا فإن النضال الثقافي المتفتح يساهم في خلق مجتمع أكثر ديمقراطية. فمن خلال تعزيز حرية الفكر والتعبير، يمكن هذا النضال الأفراد من المشاركة بشكل فعال في الحياة العامة.

تشير تركيبة المجتمع المتنوعة إلى عدم قدرته على تحمل أي نوع من الهيمنة أو السيطرة. وتتيح هذه الاختلافات إمكانية توحيد الرؤى حول مفاهيم أساسية مثل التعاقد الاجتماعي، والمشروعية، والديمقراطية، وحقوق المواطنة. وذلك بهدف وضع هذه المفاهيم كأولويات في عملية بناء مجتمع جديد. ويعد تحويل الشعب إلى مصدر السيادة خطوة أساسية في هذا الاتجاه. فمن خلال سيادة دولة الحق والقانون، يصبح جميع المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. وهذا ما يساهم في خلق مجتمع عادل ومستقر..

على هذا المنظور، يتحول المجتمع من مجرد خاضع للدولة إلى فاعلٍ أساسي في تأسيسها. وتصبح الدولة تعبر عن بناء طموحات مواطنيها، ولا تقتصر وظيفتها على التحكم في شؤونهم. بل تصبح الدولة أداة لإدارة الاختلافات ورعاية المصالح المشتركة. كما تؤمن هذه الدولة حق الأفراد في التعبير عن مصالحهم وأذواقهم وإنتاجهم وتعددهم الفكري. وتشير هذه الرؤية إلى نموذج جديد للدولة، يعرف باسم الدولة الديمقراطية التشاركية. في هذا النموذج، يشارك المواطنون بشكل فعال في صنع القرارات التي تؤثر على حياتهم. وتصبح الدولة مسؤولة أمام مواطنيها وتخضع لمساءلتهم. وتوفر هذه الدولة بيئة مواتية للتنمية والتقدم. فمن خلال مشاركة جميع أفراد المجتمع، يمكن تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة. كما تساهم هذه الدولة في تعزيز التسامح والاحترام المتبادل بين مختلف مكونات المجتمع.

أفرزت النضالات ضد الهيمنة الأجنبية وعيا عميقا بحق الاختلاف وضرورة وجود مؤسسات قائمة على التعددية الحزبية والنقابية والفكرية. فلم يعد الفرد يقبل باستمرار أي شكل من أشكال الهيمنة أو الطغيان. ويكمن أساس هذا الوعي في إدراك قيمة الذات والحق في مواطنة بعيدة عن شوائب الماضي. وهذا ما أدى إلى بروز طموح مشروع يتمثل في بناء دولة ديمقراطية حقيقية. ولترسيخ هذا الوعي الجنيني الذي نما في ظل شروط تاريخية مجتمعية، فإنه بحاجة إلى دعائم يرتكز عليها في نهضته الحديثة. وتتمثل بعض هذه الدعائم في:

  • العمل الثقافي المرتبط بمشروع الديمقراطية على صعيد الواقع المعيش والممارسة الفعلية، والواقع الاجتماعي.
  • التعامل مع الشروط التاريخية للانتقال إلى مرحلة الفعل دون تجاوز ما هو موضوعي في طبيعة التشكيلات المجتمعية.

وتتطلب عملية ترسيخ هذا الوعي نهجا علميا تحليليا نقديا. فمن خلال تحليل الظروف التاريخية والمجتمعية، يمكن تحديد العوامل التي ساهمت في نشأة هذا الوعي. كما يمكن من خلال النقد البناء تحديد التحديات التي تواجه عملية ترسيخ هذا الوعي.

وعلى ضوء هذا التحليل والنقد، يمكن وضع خطة عمل فعالة لترسيخ هذا الوعي وتعزيزه. وتتضمن هذه الخطة العمل على:

  • نشر الوعي بأهمية الديمقراطية وقيمها.
  • تعزيز المشاركة السياسية للمواطنين.
  • دعم مؤسسات المجتمع المدني.
  • خلق بيئة ثقافية داعمة للديمقراطية.

وهكذا فإن ترسيخ الوعي بحق الاختلاف والديمقراطية يمثل خطوة أساسية على طريق بناء مجتمع عادل ومزدهر. وتتطلب هذه المهمة جهدا مشتركا من جميع أفراد المجتمع، من خلال العمل الثقافي والسياسي والاجتماعي.

يكتسب العمل الثقافي أهمية قصوى في مرحلة الانتقال من مرحلة إلى أخرى أعلى. وذلك لِما يفرضه هذا الانتقال من ضرورة امتلاك وعي ثقافي لفهم إشكالية المرحلة. فمن خلال هذا الوعي، يمكن للعمل الثقافي أن يقدم عطاء هادفا وينسجم مع محيطه. وذلك بهدف المساهمة في تشييد صرح المجتمع ويتيح هذا التوجه للعمل الثقافي أن ينمو في ظل التعددية والتنافس الطبيعي للأفراد في ظل الاختلاف. وهذا ما يساعد على إيجاد أرضية مشتركة للتوحيد. كما يتيح هذا التوجه ممارسة صريحة لتداول السلطة.

ويؤدي العمل الثقافي الذي يهيئ مشروعه انسجاما مع معطيات التحديث في المجال الاجتماعي والاقتصادي والسياسي إلى تحقيق جملة من الفوائد، منها:

  • تعزيز اللحمة الوطنية والوحدة المجتمعية.
  • دعم التطور والتقدم في مختلف المجالات.
  • خلق بيئة ثقافية إيجابية تحفز على الإبداع والابتكار.

يمثل العمل الثقافي الذي يراعي التباينات والاختلافات أداة فعالة للتخفيف من حدة الانقسامات المجتمعية. فمن خلال البحث عن القواسم المشتركة، يمكن لهذا العمل الثقافي أن يساهم في تعزيز الوحدة الوطنية. وهذا ما يعد ضروريا لضمان نجاح مشروع الديمقراطية، ويمكن للعمل الثقافي الذي يحقق الانسجام بين مختلف الشرائح الاجتماعية أن يساهم في صهرها في بوتقة التوحيد والتضامن. وهذا ما يساعد على بناء مجتمع قوي ومتماسك..

عمل ثقافي غير خاضع لسياسة السلطة، موجه لها، ويجعلها تعي أن الأنماط الثقافية بكل تشكيلاتها دعامة لفعلها السياسي، ومنبع لكل مشاريعها في مختلف المجالات، شريطة أن تلتزم بحدود مشروعيتها، وتسعى بدورها لتفهم أن الانسجام الحقيقي داخل المجتمع ومؤسساته المدنية لن يتحقق إلا بمراعاة القانون في ظل نظام ديمقراطي.

وصفوة القول: إن الثقافة تشكل عنصرًا أساسيا في بناء المجتمع، ولعبت دورا محوريا في مسيرة النضال من أجل الديمقراطية. فمن خلال العمل الثقافي، يمكن نشر الوعي بأهمية القيم الديمقراطية وتعزيز المشاركة السياسية للمواطنين. كما يمكن للعمل الثقافي أن يساهم في صهر مختلف الشرائح الاجتماعية في بوتقة التوحيد والتضامن. ولذلك، فإن الاستثمار في العمل الثقافي يعد استثمارا في مستقبل أفضل للمجتمع.

بقلم: حسن لمين

Top