الحوار.. الفضيلة الغائبة

حضرت مؤخرا، بإحدى المدن المغربية، ندوة عن التعديلات المرتقبة لمدونة الأسرة، وعرضت خلالها وجهات النظر حول هذا التعديل وسقفه، لكن للأسف لم يكن لما جرى بالندوة كبير فائدة، كان النقاش حادا ارتفعت فيه الأصوات ورميت فيه التهم من كل جانب، بين من يرفع قيم الحداثة والتقدمية، لكنه يرى ضرورة إلزام الجميع بها، وألا يكون لغيره متنفس أو خيار، وطرف يدعي الدفاع عن الدين، ويزايد بإسلامه على الآخرين، الخلاصة حضر كل شيء في الندوة إلا غائب أكبر، تخلف عن الحضور، وهو الحوار.

ولد التضارب الشديد في فهم الدولة واختصاصاتها، وعلاقة الدين بالمجال العام استقطابا حادا في المجتمع  الذي لا زال يبني هويته الدينية والحداثية ببطء، ولا يعرف تماما أي وجهة يريد، على أن السبب واضح للغاية، إذ يكمن في غياب فضيلة الحوار.

في المغرب طائفتان تشكلان خطرا على مستقبل الديمقراطية:

علمانيون يعتقدون أن لا حرية لأعداء الحرية، وإسلاميون يعتقدون أن كل رأي مخالف يستحق العقوبات القاسية.

الأولون يستلهمون النموذج الفرنسي الصلب للعلمانية، وهو نموذج متطرف بكل الأحوال، ولا يتناسب والسياق التاريخي والسياسي المغربي المعاصر.

والآخرون يتصورون الإسلام دينا شموليا، لا يقبل بالاختلاف إلا في حدود ضيقة لا تتجاوز الخلاف في سدل اليدين بعد الركوع، ولا يقبلون إطلاقا أي اختلاف بشأن تصور الدولة والحياة المعاصرين، بل يرونها أمورا تستوجب أقسى العقوبات.

يبدو واضحا التصور السلفي لحرية الرأي، كما يتضح المنطق الإقصائي الذي يستدعي العقوبة دائما، لا يستطيع السلفيون أن يفكروا خارج إطار العقوبات أصلا .

لقد عرف التاريخ الإسلامي فترات من التضييق على حرية التعبير، واضطهاد المخالفين، لكن الأمر لم يكن مستمرا، ليس لأجل أن الفقهاء متسامحون وأنتجوا فقها متعايشا مع الآخر، بل لأن الخلفاء لم يستمعوا للفقهاء في أغلب الأحوال!، وإلا فغالب الفقه عبارة عن تفكير عميق في سبل إقصاء المخالف ومنعه من ترويج آرائه!

كل من خرج عن المذاهب الأربعة – كالظاهرية مثلا – فهو منحرف عن الجادة، ما تعرض له إمام كبير كابن حزم، على سعة علمه ووجاهته في قومه، من نفي ومحنة لم يكن لها من سبب إلا خروجه عن المذاهب الأربعة، ألم تر كيف يصفون تفرده بالشذوذ تنفيرا وتشويها؟ حتى ابن تيمية نفسه، على غزارة معارفه وشهادة المعاصرين له بقوة الحجة وبلاغة البيان، عاش فترات طويلة من عمره خلف قضبان السجون، لم يكن معارضا سياسيا ولا خارجا على نظام الحكم، قصارى ما فعله واستحق بسببه السجن حتى وافته المنية به، أنه خالف المذاهب الأربعة في طلاق الثلاث واليمين بالطلاق وغيرها، مما يحتمل الخلاف ويسع فيه التنوع.

 أما المخالف في العقيدة عندهم فأمره أشد وأفظع، ألم يقل الشافعي، وقد كان من أخفهم حدة، على المخالف:  حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.

  الفلاسفة كان أمرهم أكثر صعوبة، فالملاحقات التي طالت أسماء لامعة في سماء الفلسفة الإسلامية غير خافية على أحد، وبتحريض من الفقهاء الذين كانوا يعتبرونهم ضلالا أو كفارا.

كل تلك الأسماء الكبيرة التي نفخر بها في مجالات العلم وكانت لها المساهمات الحضارية الكبرى التي يعترف بها العالم قاطبة نالتها سهام الفقهاء، الفارابي زنديق ضال، والرازي ملحد، والكندي منجم ضال، وابن سينا إمام الملاحدة، وابن طفيل مجرم، وابن الهيثم مارق عن الإسلام، وابن رشد الحفيد بكل جبروته العلمي باطني ملحد، فمن بقي بعد هؤلاء؟

يقرأ السلفيون تاريخ القمع هذا بالكثير من الإجلال، ويتطلعون إلى اليوم الذي يعود فيه هذا الأمر، يعرفون أن سحر الدين على نفوس الناس قوي للغاية، وكل من تكلم باسم الدين فهو محل احترام وقوله محل قبول، وهو الأمر الذي بدأ ينتج نوعا من الخصومة المستحكمة بين الدولة وبين فئات عريضة من أفراد الشعب العاديين، الذين يثقون في هؤلاء الذين يتكلمون باسم الإسلام، ويتهمون الدولة “من وراء حجاب” بمعاداة الدين… الأمر خطير للغاية على المدى البعيد، وله أسوأ الآثار على النموذج المغربي الذي يشارك الجميع في بنائه ببطء.

ينبغي بذل مجهودات أكثر لتكريس الحوار كقيمة عليا، والتأكيد على أنها لا تخالف الإسلام في شيء، خلافا لما يتخيله الفاعلون السلفيون دون أي دليل معتبر وسليم على ما يقولون، إلا ما كان من المزاج المتعكر والمتخاصم مع كل ما سواه.

المؤسسات الرسمية الدينية تتحمل قدرا كبيرا من المسؤولية في وضع برنامج عمل واضح الأركان والمعالم، يسعى إلى بناء قيم الحوار والاعتدال، ويقدر قيم التقدم والتحديث، وبناء المشترك مع الآخرين، لكنها لا تقوم بذلك على الوجه المطلوب.

برامج التعليم تتحمل مسؤولية أخرى لا تقل أهمية كذلك، فقد أوضح تقرير للأمم المتحدة سنة 2003، أن برامج التعليم العربية جميعها لا تساعد على بناء فكر حر وناقد، بل لا زالت تكرس قيم الاتباع والتلقين، وهو الأمر الذي يخدم التطرف خدمة كبرى، حيث لا يحتاج التطرف سوى أدمغة مستعدة للملء دون تفكير، وأوضاعا اقتصادية صعبة ليؤثر تأثيرا بالغا في البنية الفكرية المجتمعية.

بقلم: د. محمد عبد الوهاب رفيقي

Related posts

Top