الخطوط الحمراء

كلما تناهت إلى سمعي عبارة الخطوط الحمراء، تبادر إلى الذهن تلك الخطوط التي كانت تسطر على هامش دفاترنا المدرسية والتي كانت خاصة بمدرسينا، ينقطون فيها أو يعلقون أو يفعلون فيها ما يشاؤون، وكان محرما علينا الاقتراب منها أو التدخل فيها بأي شكل من الأشكال.
هكذا كانت الخطوط الحمراء تزرع الرهبة في نفوسنا منذ الصغر، وظلت ماثلة في مخيلتنا بأنها مرادف للمحرم والممنوع، ولما كبرنا، انتبهنا إلى أن لهذه الخطوط معنى آخر وشكلا آخر، وأنها يمكن أن تحاصرنا دون أن نراها مرأى العين وأنها قد تفضي بنا إلى ما لا يحمد عقباه.
خلال المدة الأخيرة، تسلطت هذه الخطوط على مجموعة من الأعمال الإبداعية والفنية والفكرية، مذكرة إياها بأنها تخطتها وأن عليها أن تنسحب من الساحة.
تم منع عرض لوحة تشكيلية للفنانة المغربية خديجة طنانة في متحف الفن المعاصر بمدينة تطوان؛ بمبرر أنها تخدش الحياء العام، وأن بلدنا محافظ ولا يقبل مثل هذا النوع من الأعمال، مع أن الأمر يتعلق بعمل إبداعي له خصوصياته الجمالية والفنية.
وحتى عندما تم السماح بعرض عمل فني تشكيلي من هذا المستوى في فضاء ثقافي بالرباط، تم القيام بسلوك مثير للسخرية، حيث قرر محافظ هذا الفضاء ستر اللوحة بواسطة منديل، ومن يود الاطلاع عليها ينبغي له في كل مرة أن يرفع الستار عنها. هذا عذر أقبح من الزلة، إذا صح التعبير.
في وقت واحد، تعرضت العديد من الأعمال الإبداعية والفكرية للمنع، من قبيل الكتاب الذي ألفه صاحبه حول الإمام البخاري، حيث أمرت السلطات بمدينة مراكش بمصادرته؛ بمبرر أنه “يمس بالأمن الروحي للمواطنين ويخالف الثوابت الدينية المتفق عليها”. لكن بصرف النظر عن ما إذا كنا نتفق أو نختلف حول قيمة هذا الكتاب الفكرية؛ فإننا ضد منعه من الوصول إلى القارئ، إيمانا بأن النقد هو الأحق بتقييمه وإقناع القراء بمدى أهميته، وبالتالي فإن التاريخ يظل هو أفضل غربال لما يعرض وينشر، سواء في الفكر أو في الإبداع أو في غيره.
مع التطور الذي لحق بوسائط الاتصال، صارت قرارات المنع تبدو بلا معنى، بل إنها يمكن أن تؤدي إلى نتيجة عكسية؛ فهناك الكثير من الأعمال، لم تكن ذات قيمة، ولم يكن ليعبأ بها أحد، لو لم ينتشر خبر منعها أو محاكمة أصحابها، وبالتالي حظيت بانتشار أكبر، إلا أن هناك من صار يطمح ويسعى إلى أن يتعرض عمله للمنع، ويتعمد القيام بما يمكن أن يفضي إلى ذلك، غير أنه في النهاية، لا يصح إلا الصحيح؛ فهناك الكثير من الأعمال التي تبين أنها لم تكن سوى مجرد زوبعة في فنجان.
هناك بعض الكتاب والفنانين الذين يمارسون الرقابة الذاتية؛ فهم ليسوا بحاجة إلى انتظار من يتخذ قرارا ضد ما ينتجونه، لكن ذلك لا يحط من قيمة هذا الإنتاج في حد ذاته، وفي المقابل هناك من يسيء إلى حرية الإبداع والفكر، عن قصد أو غير قصد، من خلال ما يخلفه من إنتاج عديم القيمة، يصبو إلى إثارة الجدل لا أقل ولا أكثر، وفي كل الأحوال؛ فإن منع حرية الفكر والإبداع، ليس قرارا صائبا، ولن يكون له أي مفعول إيجابي، بل يمكن أن يرجع بنا إلى الوراء.. إلى عصور الظلام.

عبد العالي بركات

[email protected]

Related posts

Top