الدكتور أحمد بورة.. من ذاكرة مناضل تقدمي

الحلقة20

شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي  قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء  مرتعا خصبا  لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب  ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن  تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.

مبلغ المستحقات عن الشهور الأولى للخدمة تخصص لإيفاد الوالد إلى الحج

عاد أحمد بورة إلى فرنسا إلى أن حان موعد فترته التدريبية الثانية بالسنة الموالية، وخلالها وجد أن الوزارة في إطار تطوير وتحسين قطاع الصحة ورفع مستوى الخدمات بالعالم القروي قد أنجزت مستوصفا من عشرة أسرة، ولعدم تطوع أي طبيب للالتحاق بواويزغت، فقد ظل هذا الفضاء فارغا كما في السابق، لذا قرر أحمد معاودة التجربة مرة ثانية. واشتغل أثنائها بكل تخصصات الطب العام وطب النساء والتوليد والمستعجلات.. ومدد الخدمات الصحية إلى البلدات والقرى المجاورة كأفورار وأولاد عياد وآيت عتاب وبزو وفم الجمعة وأزيلال وآيت امحمد حتى لآيت بوكماز.
وبعد سبعة أعوام قضاها بعيدا عن وطه، صار يجهد نفسه على الرحيل أيما إجهاد كلما قصد مطار الدار البيضاء قاصدا فرنسا. وما إن تحط الطائرة بأرض الغربة حتى ترتفع في داخله أصوات حنين لا تعرف الصمت. ضاقت عليه فرنسا بما رحبت، صحيح أنها البلاد التي قضى بها بواكير شبابه، والأرض التي أكسبته مؤهلا أكاديميا صلبا وتكوينا علميا وثيقا.. لكنه، وبعد أن فكر مليا في هذا الأمر، هدته بوصلة الشوق إلى مرفأ الأهل والأحباب، وصحا ذات يوم راكنا إلى ما يركن إليه عاشق وطنه، إنه الاختيار الوحيد الذي يرضيه ويرضي طموحه.
فحياة الطبيب العملية ترفعها ثلاث دعامات كبرى، أولاها السهر على إسعاف وخدمة مرضاه، وثانيها نقل الخبرات التي اكتسبها إلى غيره من طلاب العلم، وثالثها مواصلة أبحاثه العلمية التي تخص حقول تخصصه والتي تعود بالمنفعة على المجتمع، فكان أن وضع نصب عينيه أولوية خدمة وطنه الأم الذي له عليه أفضال.
وفر بعض المال الذي حصل عليه عن طريق إلقاء محاضرات تحسيس وتوعية الجالية المغاربية بالأمراض التناسلية والوقاية منها عبر مدن ليل و فالنسيان ودوري لافانتين وروبي Roubaix. واقتنى ثاني سيارة مستعملة في حياته وكانت من نوع رونو 16 بعد استغنائه عن سابقتها من نوع سيمكا 1000..
وذات صيف، عقد العزم على العودة وقد احتل الوطن والأهل كل تفكيره. كان المغرب تائها آنذاك في زحام تجاذبات القوى المتلاطم، وتحكمه أوضاع عامة شديدة الاحتقان، تمخضت عنها واقعة تورط بعض قيادات الجيش في المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصخيرات.
في خضم تلك الظروف العصيبة قرر أحمد بورة  ركوب طريق العودة إلى بلاده. خلال شهر واحد تسلم وثيقة تعيينه من وزير الصحة الأسبق بالماحي وبناء عليها قضى سنتين من خدمته المدنية بقسم الأمراض الجلدية والتناسلية بمستشفى ابن رشد بالدار البيضاء.
وبمجرد ما تسلم مستحقاته عن الشهور الأولى للخدمة والتي بلغت حينها 9000 درهما، خصص المبلغ لإيفاد أبيه إلى بيت الله الحرام لتأدية فريضة الحج، وكذلك كان .. فقد غمره شعور بالفخر والاعتزاز وهو يرى تعابير الفرحة على وجه الوالدين لم يشهد لها مثيلا وكأن نور الإيمان انبعث من ثنايا محياهما فجلست الأم على عادتها مسترجعة أنفاسها قائلة : “الله يشربك من حوض الجنة وينعم عليك قد ما نعمتيه على والديك”. كان أحمد بورة يظن السعادة كلمة صغيرة، لكنه، بعد تقديم المساعدة لوالده على أداء مناسك الحج، صار يشعر بالكلمة  عميقة المعاني عظيمة الأثر في شتى مناحي حياته. إن الشعور بالبهجة كان بالنسبة له  أمرا صعب المنال في ظل ظروف الحياة القاسية وصراع البحث عن مكان تحت شمس الأزمنة المتقلبةِ. كان الفتى، وسط ضجيج الحياة وآلامها التي تعتريه بين الحين والآخر ، يفكر دوما بوالديه وبالوقت المناسب الذي سيحل من أجل رد جزي ضئيل من جميلهما عليه. كان هذا الهدف هو الوحيد الذي يمكنه من التحليق في أجواء السعادة والترويح عن نفسه وتعزيز انطلاقتها بحثا عن مرافئ الآمال والتطلعات. حب الوالدين والرغبة في إسعادهما والبر لهما كان وراء صمود أحمد بورة  أمام مختلف المواقف الحياتية مهما كانت على درجة كبيرة من الصعوبةِ. وبفضل ما قدمه لوالديه، وبفضل من الله ورضا منهما، اعتبر أحمد بورة  الفترة مرحلة رسوخ نشاطه المهني فكرا وعملا، حاز خلالها شهرة واسعة، وحظي بصيت ذائع، إلى جانب أطباء فضلاء جاورهم بمستشفى ابن رشد وهم :
أخصائي أمراض القلب والشرايين الدكتور حميد الرفاعي.
أخصائي العظام والمفاصل الدكتور لحبابي سعيد.
أخصائي الأمراض العصبية الدكتور إدريس بوشارب.
أخصائي أمراض العيون الدكتور اليعقوبي.
وكان أحمد بورة، وهذه النخبة التي معه، مرخصا للعمل بالعيادة الخاصة بالمكتب الوطني للماء والكهرباء.. ما شجعه على مواصلة خدمة وحمل راية هذه المهنة الشريفة ببلده حتى يتمتع بمكانة عالية بين باقي الدول الطموحة إلى التقدم في كافة مجالات العيش والحياة.

Related posts

Top