تغمرني سعادة عارمة، وأنا أشارك في هذه الندوة الدولية الكبرى، حول “التخييل الذاتي: منزلته الأدبية ورهاناته العبر ثقافية”، التي تنظمها الكلية متعددة التخصصات بأسفي، تكريما لباحثَين مرموقين، يتقاطعان في أفكارهما ويتكاملان في تصوراتهما؛ يتعلق الأمر بكل من الباحث الفرنسي الراحل سيرج دوبروفسكي، والباحث المغربي عمر حلي، وهو ما أعتبره شخصيا التفاتة نبيلة من أصدقاء خلص، أكن لهم الكثير من التقدير والامتنان.
واحتفاؤنا، اليوم، بالدكتور عمر حلي، وبتجربته الأكاديمية والإنسانية والرمزية، إنما هو احتفاء بأحد رموز البحث والنقد والترجمة والعمل الأكاديمي والتسيير الإداري والتدبير الجمعوي والثقافي ببلادنا. لذا، يسرني، ونحن في حضرة المحتفى به، وفي حضرة أصدقائه وطلبته ومحبيه، أن أتقدم بتحية خاصة لهذا الرجل الاستثنائي، الذي جسد دوما نموذجا يقتدى به، بمثل ما شكل باستمرار طاقة للحلم، بالنسبة لنا وللمحيطين به وللعاملين معه، ومرجعا في عدم ترك أي شيء للمصادفة أو للارتجال.. ففي تكريمه، تكريم لباحث رصين، ظل يغمرنا بحضوره الإنساني والأكاديمي والرمزي المضيء، وبعمله المضيء، وتكريم، أيضا، لمسؤول إداري ملتزم، حرص دوما على أن يتقن كل ما يقوم به من أعمال، وما ينهض به من مشاريع بنيات وأقطاب جامعية، وما يشرف عليه من مهرجانات، وغيرها؛ إذ لا يمكن لأي واحد منا كُتب له أن يحتك بالسي عمر ويتابع تحركاته المكوكية، هنا وهناك، سوى أن يزداد إعجابا به، واحتراما له ولأفقه الإنساني الرحب.
فالحديث عن الصديق العزيز عمر حلي، خلافا لأحاديث أخرى عن أشخاص عابرين، هو حديث بالجمع عن رجل مفرد، وعن تجارب ذاتية ومجتمعية، عمل عمر حلي على الخوض فيها، بكل تفان ونكران ذات، وهو ما يجعلنا أمام شخصية متعددة الصور والوجوه والحضور. فكثيرون هم الذين يعبرون أفقنا الجماعي دون أن يتركوا أثرا يذكر، وقليلون هم من ينغرسون في وجداننا وذاكرتنا، فتجدنا حريصين على صداقتهم، وعلى محبتهم، متشبثين بالرغبة في الانخراط في أفقهم ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. فالأستاذ عمر حلي هو من طينة أولئك الرجال الذين تجدهم دائما مقبلين على الحياة، بأسلوب حضاري وكرم نادر، كما نجده هو في انتصار متواصل لكل ما هو جميل وأصيل ومفيد ومنتج لمؤسسته ولمدينته ووطنه، بمثل ما تجده كلي الحضور في كل المواقع المزهرة، وكلي التواصل مع الطلبة والأساتذة والمثقفين والمسؤولين والمنتخبين ورجال الدولة وعموم الناس، يساعده في ذلك، ما يمتلكه من قدرات خارقة على العمل، وما يتحلى به من روح دبلوماسية، ومن ذكاء خاص في نسج العلاقات الصافية والصادقة والمؤثرة، ومرونة في الحوار، في سعيه الدؤوب إلى كسب مزيد من رضى الناس، موسعا بعمله ذاك من فضائه الإنساني الرحب.
وتلك خصال، تولد لنا نحن نوعا من الإشباع والامتلاء، قد لا يكلفك كثيرا من الوقت لكي تستشعره وتنتشي بتوهجه، سواء في مجالسه، أو في مواقفه وعلاقاته وإنجازاته وكتاباته ومداخلاته وحواراته، وفي مشاريعه وأوراشه الجامعية وغيرها، تلك التي كان دائم الحرص على الإشراف عليها بنفسه، هنا أو هناك، ليل نهار، دون كلل أو ملل، بما في ذلك دفاعه المستميت على ضمان تموقع إيجابي للجامعة بالأقاليم الصحراوية، وانفتاحها على محيطها الجهوي، عبر استحداث أقطاب وتخصصات وتكوينات جديدة…
كل هذا وغيره، يجعل من الرئيس عمر حلي، مؤسسة قائمة الذات، وضميرا جمعيا للإصلاح والتحديث، بمفهوميهما الإنساني والمؤسساتي الرحب، وليس بالمفهوم الإداري الضيق، مساهما، بكل فعالية ومردودية، في بناء المغرب الأكاديمي والبيئي والفني وتطويره، وفي إقامة بنياته وتدبير إمكانياته المادية، وترسيخ مهرجاناته وملتقياته وظواهره، وأيضا في إشعاع جامعتنا المغربية، وإدماجها في فضائها الدولي، عبر إقامة عديد من الاتفاقيات والشراكات مع أمهات الجامعات في العالم، وهو ما جعل من جامعة ابن زهر، اليوم، نموذجا يقتدى به، على مستوى تجويد الحياة الجامعية وتجديد طرق العمل بها، وتنزيل أوراش الإصلاح، وتقوية الثقة بين الجامعة ومحيطها السوسيو اقتصادي والاجتماعي والبيئي، واستدامة التكوين وربطه بالتنمية، وتأهيل الطالب للاندماج في الحياة وسوق الشغل، والاعتماد على طلاب المنطقة من أجل التنمية الجهوية، ودعم البحث العلمي وتطويره، وتأسيس المراكز والمعاهد العليا، والقضاء على الاكتظاظ، وتشجيع الإنتاج الفكري، وصيانة الذاكرة الوطنية، وحفظ الموروث التاريخي والثقافي، وتحسين الأداء الطاقي، وإحداث استراتيجية لنشر البحوث العلمية والدراسات والكتب والدوريات، وإدراج التكوين الفني وفتح نوادي مسرحية وسينمائية وتشكيلية في الجامعة، وخلق إجازة مهنية للتنشيط الثقافي والمسرحي، وغيرها، وذلك بشكل أضحت معه جامعة ابن زهر، على مستوى دعم برامج النشر والندوات واللقاءات العلمية الدولية، تتصدر الجامعات الوطنية، وتصنف، مقارنة بجامعات مغربية أخرى، ضمن مراتب متقدمة دوليا.
وإذا كان الدستور يضمن عن حق وإنصاف المساواة بين سائر المواطنين في الحقوق والواجبات، فإن قوانين الحياة ونواميس الطبيعة البشرية، تميز بعضهم عن بعض، وترتبهم في درجات، لا بصورة اعتباطية، ولكن باعتبار عطاء كل واحد منهم وخدماته المقدمة للوطن، وتقدير شخصيته وعطائه. وفي هذا السياق، يشهد لعمر حلي بجرأته النادرة، ويحسب له أنه، في بدايات الحراك الاجتماعي، كان قد لجأ إلى فتح أبواب الجامعة في وجه المجتمع المدني، كما فتحها أمام السياسيين، فكانت جامعة ابن زهر في مقدمة الجامعات التي فتحت نقاشا عموميا حول الدستور والحراك الاجتماعي، وحلي بذلك إنما كان يسعى إلى إدماج الجامعة في محيطها الشعبي، دون أن يخشى في ذلك لومة لائم، رغم ما ظهر من ضغائن وما خفي منها.
وعلى مستوى البحث والدراسات النظرية والنقدية، نشير إلى أن سيرج دوبروفسكي، قد انتبه إلى وجود خانة فارغة في العلاقات الممكنة بين دعائم تحقق ميثاق سيرذاتي كما بلوره فيليب لوجون، مشترطا أن تتطابق في هذا الميثاق دعائم السارد والشخصية الرئيسة والكاتب، فاكتشف جنسا فرعيا سماه “التخييل الذاتي”، أي تلك الكتابة التي تنكتب في برزخ نوعي، لا هي بالسيرة الذاتية ولا هي بالرواية؛ كتابة البين بين، ومنتصف الطريق، وتخوم النوعين. لم يمنحنا دوبروفسكي نوعا جديدا، بل أزاح الحجاب عن خاصية متأصلة في الكتابة من الناحية الفينومونولوجية، وهي أن الذات في المتخيل هي أصل كل شيء، وأن التخييل الذاتي يعمل عمله في كل ما نقوم به، حتى ونحن في مختبر علمي، تتسلل إلينا، في علاقتنا مع المادة، أحلام ومتخيل العناصر الأربعة: النار والهواء والتراب والماء، الأمر الذي جعل غاستون باشلار الذي نظر للمعرفة العلمية الحديثة، ينظر أيضا لحضور هذه العناصر في متخيلاتنا. إن أعظم ما يهبنا المتخيل هو طاقة التجاوز، هو أنه يفتح أمامنا إمكانيات ودروبا، ويجعل الحياة احتمالا كبيرا…
أما الباحث عمر حلي، فكان سباقا إلى الالتفات إلى مناطق بحثية كانت غير مطروقة، وقتئذ، بما فيه الكفاية النظرية والمنهجية والتحليلية، والاهتمام بها في الدرس الجامعي والبحث الأكاديمي، مقتحما مجاهلها في وقت مبكر؛ أقصد، هنا، اشتغال الدكتور عمر حلي المبكر على “السيرة الذاتية”، متوسلا في ذلك بمرجعيات نظرية وتحليلية جديدة، بعيدا عن الطروحات النقدية التقليدية، ما جعل من عمر حلي أحد الباحثين العرب القلائل السباقين إلى التفاعل مع نظرية الأتوبيوغرافيا، كما صاغها المنظر الفرنسي فليب لوجون وآخرون؛ إذ لايزال بحثه الجامعي، المنشور في كتاب، بعنوان “البوح والكتابة، دراسة في السيرة الذاتية في الأدب العربي”، وكتابه “السيرة الذاتية، الميثاق والتاريخ الأدبي” المترجم عن فصل من كتاب “الميثاق الأتوبيوغرافي” لفليب لوجون، إلى اليوم، مرجعين لا مناص منهما لكل باحث في خطاب السيرة الذاتية في عالمنا العربي. وهي الفترة نفسها التي برز فيها الاهتمام النقدي المغربي بنظرية الأتوبيوغرافيا، وهنا نستحضر مواكبة اتحاد كتاب المغرب لمستجدات الحقول الفكرية والنظرية والنقدية، من قبيل اهتمامه الرائد بسؤال السيرة الذاتية، سواء في ندوات سابقة، أو في مجلته “آفاق”، بل إن طروحات فيليب لوجون النظرية والنقدية حول السيرة الذاتية، عرفت طريقها إلينا، في بداية الأمر، مع بداية ثمانينيات القرن الماضي، عبر مجلة “آفاق”، فكان المغرب النقدي سباقا إلى التفاعل مع نظرية الأتوبيوغرافيا، كما صاغها لوجون تحديدا وطورها في كتبه الشهيرة الأولى: “الأتوبيوغرافيا في فرنسا”، و”الميثاق الأتوبيوغرافي”، و”أنا هي شخص آخر”، وهو ما ساهم، بشكل أو بآخر، في انتشار الاهتمام النظري والنقدي بالسيرة الذاتية في المغرب، وفي العالم العربي، من منطلقات نظرية وتحليلية جديدة ومغايرة…
وفي هذا الإطار، لن يفوتني أن أعرج على محطة أخرى مشرقة في مسار الرجل، لكونها تشكل بالنسبة لنا جميعا عنوان فخر واعتزاز، وأفقا رمزيا مضيئا، يفوق بكثير مستوى إسهام كثيرين في حركية هذا الأفق نفسه. فالأستاذ عمر حلي، كما هو معروف، هو من بين الأعضاء الأوفياء والخلص لمنظمة اتحاد كتاب المغرب، كان دائما ولايزال داعما لها، بحضوره النوعي، وبانخراطه الواعي والمفتوح في أفقها الرمزي والنضالي والثقافي، بشكل يقوي من حضوره المتوهج في هذه المنظمة الثقافية الوطنية، وفي غيرها من المؤسسات الدستورية، والمنظمات العربية، والمجتمع المدني، والمهرجانات الوطنية والدولية، والأندية السينمائية، ومجموعات البحث، واللجان الوطنية، وغيرها، مساهما بذلك، رغم انشغالاته العديدة، في خدمة الإنسان والثقافة والمجال، في المدينة والجهة، وعلى امتداد البلد والعالم العربي والإسلامي، وفي نشر المعرفة وزرع الآمال، وصناعة الفرجة والجمال.
وبذلك، بقي الدكتور عمر حلي، على مدى رحلته الممتدة والمضيئة، الطافحة بالإنجازات والعطاء، موفقا بموضوعية نادرة، بين مهامه الجامعية وانشغالاته واهتماماته الفكرية والثقافية والسياسية والجمعوية، بشكل يبدو معه عمر حلي شخصية مشعة ومتعددة الأبعاد، قادها مناخها الثقافي والأكاديمي والمهني والاستشاري والجمعوي العام، إلى حب المعرفة والثقافة والأدب وخدمة الجامعة والناس والوطن، وإلى تحمل المسؤولية في جسامتها وإكراهاتها، يدعمه في ذلك ما يتوفر عليه حلي من مصداقية مشهود له بها، مكونا أساسيا في شخصيته، وفي تكوينه الأكاديمي، وفي مواقفه المتأصلة، ما يجعل منه نموذجا للإنسان الناجح، الذي حقق حوله الإجماع، بشكل قل نظيره، بحضوره الوازن، وبعمله الدؤوب، وبتفكيره واجتهاده الدائم، ومبادراته وابتكاراته الإشعاعية المتجددة، وصيته الثقافي الوطني الواسع، وبمواقفه الإنسانية والمؤسساتية المشرفة، وأيضا بخفة دمه وأريحيته ورحابة صدره وهدوئه وحكمته ومرونته وكرمه، وبقدرته على إقناع شركائه ومسؤوليه بجدوى مشاريعه وبرامجه، وبمدى نجاعتها، بعيدا عن الحروب الصغيرة وعن دسائس خفافيش الظلام.. فعمر حلي، هو باختصار شديد، وبتعبير أكثر صدقا “ولد الناس” و”ولد الخير”، فشكرا لك السي عمر على شموخك ونخوتك، وعلى كل هذه المحبة التي ما فتئت تغمرنا بها، في مسارك الإنساني السامي وفي صعودك نحو الأعالي…
بقلم: د. عبد الرحيم العلام