تحل يوم 7 يوليوز الجاري، الذكرى الأولى لرحيل  سفير الثقافة المغربية، الأديب المرحوم إبراهيم الحجري، رحيل ما فتئ يقلب كل المواجع، ويجعل القلب يعتصر دما، والفؤاد يشتاق ويتذكر بمرارة جلسات أبي هديل، ذلك المتيم بحب قريته المنسية وأمه المسنة وفلذات أكباده المنشطرة قلوبهم بين قساوة الغياب الأبدي وألم الفراق المباغت.

 صحيح أن لا أحد يعلم المصير، فلكل كتاب أجل محتوم، لكن ما استوقفني واندهشت له، هو أن الراحل الحجري، تنبأ برحيله أياما قبل أن يلبي نداء ربه، حين أومأ في الفصل الأخير من  مخطوط روايته الأخيرة “طريق الجماجم ” التي كان لي شرف قراءتها، إلى قرب رحيله من هذه الدنيا الفانية، وتنبأ لسقوطه 

المفاجئ ورحيله المباغت، حين قال إن (بطل الرواية سيسقط بسبب مرض مفاجئ وسيحتار الأطباء في تحديد نوعيته، وأنه سيغادر دون أن ترى روايته “طريق  الجماجم” النور).

وفعلا غادر رحمه الله دنيانا دون أن تطبع آخر أعماله، والتي كان ينوي المشاركة بها في جائزة البوكر العالمية للأدب.

 رحل ابن” كاطرينا” تلك القرية المنسية والمهمشة على ضفاف النهر، والتي لم يبارحها يوما ما، بل ظل متعلقا بها، يحبها حبا جنونيا، وطالما شرفها في محافل وطنية ودولية، رحل ابن قرية أولاد افرج العالمة، والتي أنجبت البررة من رحم المعاناة.

 أحقا كانت معاناتك في الحياة جارحة للأفئدة تثير الشفقة أحيانا، فأنت الذي تحديت كل الصعاب والمطبات، تحديت حاجز الفقر المدقع، وامتهنت مكرها حرفا عديدة في الأسواق وأنت في مقتبل العمر، لإتمام مهام جسيمة تركها لك الوالد سي مسعود، الذي غادر هو الآخر الحياة دون أن يرى فلذة كبده يحقق الإنجازات تلو الأخرى، وكنت أهلا للمهمة حين أخذت على عاتقك وأنت لا زلت طفلا، مسؤولية رعاية الإخوة الصغار بعد وفاة الأب سي مسعود تغمده الله بواسع رحمته، امتهنت مكرها حمال الأثقال (طالب معاشو) وكنت تنقل بضائع المتسوقين عبر عربة مدفوعة من هنا وهناك، حملت أكياس القمح على  ظهرك إلى رحبة الحبوب، وأتذكر قبل وفاتك بأسبوع أنك أحسست بألم على مستوى الظهر  وقلت لي: “صديقي مرجان، إن سبب هذا الألم راجع إلى كوني حملت كيس قمح على ظهري وأنا صغير، امتهنت  أيضا بائعا متجولا لمياه الشرب(كراب)

في السوق الأسبوعي، وتارة بائع (الطون والحرور، كنت تفتخر بذلك ولم تتنكر يوما ما لطفولتك المغتصبة، وكنت تفتخر بها وبتلك المعاناة القاسية، لأنها هي من جعلت منك رجلا شهما وصنديدا لا ينهزم في معارك الحياة، وعشت كذلك إلى أن  هزمك مرض مفاجئ عجز الطب عن تشخيصه.

 وما لا يعرفه الكثيرون عن إبراهيم الطفل هو أنه كان شديد الولع والتعلق بفن الحلقة، وكنا ونحن صغارا في الصفوف الإعدادية وبمجرد ما تنتهي الحصة الدراسية الأخيرة مساء كل سبت، نهرول بسرعة إلى ضريح سيدي مسعود بن احسين لنحجز لنا مكانا قرب الحكواتي، كان إبراهيم رحمه الله ولكثرة الزوار الذين يؤمون الضريح من كل أنحاء المغرب يوم السبت، كان غالبا ما يتيه عني وسط الزحام وحين أسأل عنه صديقا من الأصدقاء يخبرني بأن ابرهيم جالس في الصفوف الأمامية بالقرب من الحكواتي ينصت بإمعان للحكاية، وحين ينفض جمع المتحلقين حول سارد الحكاية، يشرع  إبراهيم في إعادة سرد ما خزنته ذاكرته من  فصول مشوقة ومضحكة.

 ولما كنت أرافقه في زيارة خاطفة ونحن أساتذة، لدوار البيادرة مسقط رأسه لصلة الرحم بأمه الحاجة يامنة، وبمجرد ما ننهي جلسة حميمية رفقة الوالدة أطال الله عمرها، يأخذني سي إبراهيم في جولة قصيرة لبساتين وحقول التين بحثا عن أصدقاء الطفولة، كان رحمه الله تستهويه البادية بطقوسها وشخوصها وطرائفها، وكم يكون في قمة فرحه حين يقوده بحثه المضني إلى العثور عن أصدقاء الأمس، حيث يفترش الرجل التراب ويشرع في استرجاع طرائف الماضي، وفي يده المذكرة والقلم، وكلما راقه مشهد أو مقطع مثير من أحداث الطفولة ينخرط في ضحك هستيري، ويدون أدق التفاصيل في مذكرته، ولعل أبرز شخوص روايته

الأولى “صابون تازة ” حافلة بهذا النوع من الطرائف وبهذه الشخوص التي أغلبها واقعية من صميم طفولة مغتصبة.

 وما يميز الحجري  إبراهيم عن باقي الأصدقاء وما يزيده غبطة وحبورا هو حين يصادف أصدقاء الأمس الذين انقطعت الأخبار عنهم لمدة طويلة، وأشهد أن الحجري ومع ظهور شبكة التواصل الاجتماعي وخاصة الفايسبوك، وحين كنت أجلس معه في المقهى، وكلما تذكر اسما سواء من الأساتذة الذين تتلمذنا على أيديهم في المراحل الدراسية أو بعض الأصدقاء الذين انقطعت صلتنا بهم، يسجل أسماءهم في مدونة البحث الفايسبوكي آملا في العثور على كل من له حساب باسمه الحقيقي، وكم من صديق أو رجل تعليم قاده الفايس للتواصل معه سواء بالمغرب أو خارجه.

 وهكذا أتذكر بمرارة صفحة مشرقة ومؤثرة من حياة كاتب ومبدع متعدد المواهب جاء من الهامش، لكنه ترك عملا يشهد له بالمروءة والتواضع والأصالة،  سيظل أصدقاؤه  وقراءه يتذكرون عبر أدبه وكلماته روحا طيبة  أخلصت لقيم الفن والجمال والعطاء الإنساني.

 أقولها وللمليون مرة أن الحجري إبراهيم باق لم يمت، لا زال طيفه وروحه حاضرة بين ظهرانينا، لقد رحل جسدا، ولا زال روحا تحيا بعمله الطيب وعلمه الذي ستنتفع به الأجيال وذريته الصالحة التي ستحمل المشعل، قال الرسول: “إذا مات  ابن آدم  انقطع عمله  إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له” رواه مسلم.

  إبراهيم الحجـري من مواليد بلدة أولاد أفرج شمال مدينة الجديدة عام 1972، حيث تلقى تعليمه الأولي والثانوي، والعالي بين مدينتي الجديدة والرباط إلى حين حصوله على الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من

جامعة محمد الخامس بالرباط عام 2013. عمل أستاذا للغة العربية بالتعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي بين أعوام 1997 و2011، ثم مفتشا تربويا في مادة اللغة العربية بعد تخرجه في مركز تكوين مفتشي التعليم، بالرباط، عام 2011م. وهو أب لثلاثة أطفال (أسعد، هديل، اعتماد).

 ترك إنتاجا إبداعيا متعدد الأوجه والمسارات، فراكم تجربة علمية وإبداعية تحتذى، وأنجز عددا من البحوث والمؤلفات السردية الروائية والنقدية الرائدة، بعضها ترجم إلى لغات أجنبية، وبعضها توج بجوائز دولية مرموقة، زكت موقعه العلمي، وشرف المغرب في مختلف المحافل الثقافية والعلمية في الخارج.

كان رحمه الله  نموذجا للشاب المغربي الخلوق، المثقف الباحث الكفء، الذي ظل ينحت مشروعه الإبداعي بكفاءة وثقة وتمكن.

****

شهادات في ذكرى الرحيل

القاص شكيب عبد الحميد: كان الحجري يعطي وقته كله للكتابة

ماذا عساني أقول عن الحجري إبراهيم المبدع والصديق، إنه من طينة المبدعين الغزيري الإنتاج والدؤوب على الكتابة. يكتب بانتظام يعطي وقته كله للكتابة.

 مثل ثلة من المبدعين المغاربة الذين يتخذون الجلوس على المكاتب عادة، يدبجون في شتى الأجناس ويعطون كل جهدهم ووقتهم لهذا الجنس أو ذاك، حتى تجتمع لديهم كتب من كل صنف. والحجري رحمه الله الصديق المتواضع في أخلاقه.

 المثابر في عمله سواء في التدريس أو حينما التحق بسلك التفتيش، كتب في مجالات عدة أدبية وفنية وتربوية. ونال عدة جوائز خليجية. وكون له ريبيرتوارا من القص والحكي والنقد. لقد كتب في كل شيء رحمة الله عليه.

 أول ما عرفته كان يدرس في كلية الآداب بالجديدة وقد شرفني بتدبيج تقديم  لأول باكورة أعماله. الكتاب المشترك بينه وبين اسماعيل بنهنية وهو مجموعة قصصية أبواب موصدة.

 كان رحمه الله متواضعا في كل شيء، في أخلاقه في سلوكه في تعامله مع الأصدقاء، لا يدعي أنه أنجز كذا وكذا. منزه عن التوترات التي تكون غالبا بين المثقفين.

 لا يسعني في هذه العجالة سوى أن أترحم عليه. لقد ظلت ذكراه عالقة في القلوب. غادرنا إلى دار البقاء دون أن يترك لنا فرصة لوداعه.

***

القاص محمد غزلي: الحجري.. مثقف يمتد خارج أسوار الثقافة 

 ما يعنيني من إبراهيم الحجري هو الإنسان.

علاقتنا الثقافية ابتدأت افتراضية، حينما كنت أتابعه من بعيد، كأي كاتب مشهور له معجبون وامتدت خارج أسوار الثقافة في إحدى صباحات يناير 2017، حين استيقظت المدينة على أرطال قوات شفط الشوارع من الباعة المغلوب على أمرهم، وكنت واحدا منهم. لقد شفطت الكل دون تقديم بدائل. وكبائع متجول،  لم تهتم القوات إن كان خلفي أطفال ينتظرون عودتي بقطعة حلوى، بينما كان على الطرف الآخر رجل إسمه الحَجْري يسعى بكل علاقاته الإنسانية في البحث عن بديل.

 في غيبوبته ويوم رحيله، تمنيت لو كان بوسعي، أن أنتزع روحي لساعات وأمنحها له ليودعنا على الأقل.

إنني لا أتحدث عن ملك من ملائكة الله، لكنه سيد.

 سأتذكر إلى الحد الذي تنهك فيه الذاكرة يوم قال لي:  يا غزلي، نصوصك عالمية لو صادفت من يترجمها.  تلك كانت بمثابة دفعة قوية نحو الاستمرار أطاحت بكل ما ينتاب نفسيتي المتشككة بقدرتي ككاتب محلي هاو.

 لقد كان يفكر ويشتغل عالميا وينطلق محليا، يمد جسور التشجيع للمبدع المحلي رغم صيته العالمي.

 الآن، ما قيمة ما أكتبه إذا لم أعترف. لن أكتفي

بتذكر موته المفاجئ فأي شيء يتبادر إلى الذهن بعد رحيله يثير الشجن وقسوة الغياب، لكنه وإن توارى عنا، فقد قدم لنا صورة المثقف الجدير بالمحبة.

***

الشاعر عدنان مشهي: الحجري.. قامة ابداعية سامقة

  أستحضر بحزن وبألم، وأنا أكتب هذه المرثية في حق فقيد الأدب العربي والمغربي الصديق إبراهيم الحجري، حضوره القوي والمؤثر في كل المنتديات واللقاءات والندوات التي جمعتنا معا، أو التي وصلتني أصداؤها من خلال الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي. يصعب حقا كتابة شهادة في حق قامة سامقة وبإشعاع واسع.

كيف لا والأمر هنا يتعلق بشهادة في حق رجل خلوق وشهم وزاخر بالإنسانية والروح الطيبة. إنه أديب متميز واستثنائي حفر اسمه عميقا في مجال النقد والكتابة الإبداعية، وأي شهادة تكتب في حقه، ستكون قاصرة وغير قادرة على أن تستوفيه حقه وما حققه بالكامل.  إنني أتذكر بنوستالجيا كئيبة، ولكن باعتزاز أيضا، كل اللحظات التي جمعتنا، يمكنني اعتبار إبراهيم الحجري المعلم الأول لي، إنه الشخص الذي أنار لي دروب المطالعة والكتابة، والأهم انتقاء الكتب التي تميزت في عمومها بكونها شكلت إضافة لتجربتي ولمساري في مجال الكتابة والإبداع. وما دام الشيء بالشيء يذكر، أستحضر معرض الدار البيضاء سنة 2016 عندما كان لي شرف مرافقته واكتشاف هذا المعرض بعيون وحس الراحل إبراهيم الحجري. أذكر كيف أنه جعلني أتعرف على نخبة من الكتاب والأدباء، وكيف وجّهني لكُتُب بعينها، كتب تنسجم مع ذوقي والقيمة التي تحتوي عليها هذه الكتب.

ماذا عساني أقول الآن في حق رجل عظيم، ناقد كبير ومبدع كبير، نقش اسمه بحروف من ذهب، وترك أثرا لا يمحي من قاموس الكتاب والأدباء العرب الكبار. لقد اجتهد إبراهيم الحجري للوصول إلى ما وصل إليه، وبذل جهدا جبارا، وفي المقابل كانت النتائج مبهرة. لقد حصد جوائز عربية كثيرة، ونشر كتبا متنوعة، كما لم تخل دورية أو مجلة من نشر مقالاته العميقة. يحق لنا أن نحتفي بكاتب متميز، وبتجربة متميزة، وبأديب يعد النموذج في الإنتاج والأخلاق وفي كل ما منحه للكتابة والإبداع. ورغم كل شيء، ظل المرحوم إبراهيم الحجري إنسانا متواضعا كريما وخلوقا. لقد كان قليل الكلام، صموتا لا يتحدث إلا فيما ندر، وعندما كان يتحدث، كان يقول ما يفيد وما يثري النقاش والحوار. ذكرياتي مع المرحوم إبراهيم الحجري كثيرة ومتعددة، ولكنني سأقتصر هنا على ذكرى واحدة لأنها الأكثر تعبيرا عن روح الكاتب فيه. وكان لي شرف اختياري لأرتب معه مكتبته المنزلية الخاصة عندما استضافني بكرمه المغربي الأصيل، وبحفاوته المعهودة. اندهشت وأنا أجد أمامي مكتبة عامرة وكبيرة، وفي حضوره رتبت برفقته الكتب في رفوف المكتبة بحسب جنس الكِتاب ونوعيته واسم المؤلف بحيث يسهل الوصول إلى أي كتاب بدون عناء.

 لتنم روحك في سلام، أيها الصديق الدائم، في حياتك

الدنيا وفي حياتك الآخرة، وكما يقال: “الأصدقاء وطن.. إن غابوا عنا شعرنا بالغربة”، لكنني أقول إن إبراهيم الحجري لم يمت! ستظل، كما كنت دائما، معلمي الأبدي.. وداعا..

وداعاً… يا إبراهيم الحجري.

 إعداد: عبد الله مرجان