الرواية في الوطن العربي بين الخصوصية والتلقي

 أسدل الستار مؤخّرا على فعاليات ملتقى وجدة الروائي الثاني الذي نظمته جمعية المقهى الأدبي، تحت عنوان: “الرواية في الوطن العربي.. الخصوصية والتلقي”. وقد سجّل برنامج الملتقى مشاركة مجموعة من الأسماء الأدبية الوطنية والعربية، أسهمت في تداول المعارف بخصوص محاور الندوة ومناقشتها، وهو ما حوّل القاعة الرئيسة في “مركز الموسيقى والرقص” الرحب إلى فضاء أكاديميّ لتداول قضايا الرواية العربية المختلفة والسجال بخصوصها.
   سجّل افتتاح الملتقى توهّج أجواء خاشعة بفعل ترتيل قرآنيّ، تلاه إلقاء النشيد الوطنيّ من قبل الحاضرين، ثم الانتقال إلى كلمة جمعية المقهى الأدبي بوجدة، ألقاها رئيس الجمعية ومدير الملتقى الباحث والناقد الدكتور عبد السلام بوسنينة، ثمّ  كلمات الجهات الرسمية ممثلة من قبل المجلس الإقليمي ومديرية الثقافة بالجهة الشرقية.
  انطلقت الجلسة الأولى في حوالي الساعة الخامسة مساء، وقد ترأسها الباحث والناقد السوري الدكتور محمد قرقزان، وشارك في أشغالها كلّ من الباحث البيبليوغرافي والناقد الدكتور محمد يحيى قاسمي بعرض شفويّ وبصريّ حول الرواية بالمغرب، النسائية منها على وجه الخصوصّ، وقد تميّز هذا العرض بوضع الحاضرين أمام الخريطة الحقيقية للرواية النسائية، وكشف كثير من التفاصيل المهمّة التي توضّح بجلاء مكانة هذه الرواية، وظروف إنتاجها، وبعض سماتها العامة. وتناول الكلمة، بعد ذلك، الباحث والناقد الدكتور مصطفى سلوي ليتحدّث عن المتوازيات السردية التعاقبية في الرواية العربية المعاصرة، وقد أذهل الحاضرين بعرضه المرتجل الفصيح لسياقات نصية روائية، متنقّلا بين مسالكها الوعرة بخبرته المنهجية المتينة التي كتمت أنفاس الحاضرين بالقاعة إلى آخر كلمة في هذا العرض، منطلقة في تصفيق أوشك ألاّ يتوقّف. واختتمت هذه الجلسة بمداخلة متينة متماسكة للباحث والناقد الدكتور أحمد زنيبر عرض فيها لموضوع السيرة باعتبارها مدخلا لسؤال الهوية، وذلك من خلال قراءته في رواية “المناضلة سعيدة المنبهي”. تلتها مناقشة حامية الوطيس بخصوص بعض القضايا المرتبطة بقضايا النصّ والنقد والمنهج.
 وفي اليوم الثاني كان الحاضرون أمام جلستين نقديتين اثنتين: انعقدت الأولى صباحا برئاسة الباحث والناقد الدكتور بدر المقري، وشارك فيها كلّ من الباحث والناقد عبد الرحيم الشاهد بقراءة مقارنة في روايتين مغربيتين مركّزا على رصد خصوصيات اللغة السردية في هذين النموذجين. وإذا كان الباحث والناقد الدكتور سعيد شقروني اختار رواية “اهبطوا مصر” متنا لمساءلة خصوصية الفضاء الروائيّ، ووضعه ما بين الواقع والتخييل، فإن مداخلة الباحث والناقد الدكتور محمد انوالي تمحورت حول إشكالات البحث عن خصوصية الرواية العربية، وما يعتري هذا البحث من عوائق تاريخية ومعرفية وجمالية. أما الجلسة المسائية فقد ترأستها الروائية الإماراتية الأستاذة فتحيّة النّمر، وشارك فيها كلّ من الباحث والناقد الدكتور نور الدين الفيلالي ببحث في البنيات الثنائية لخصائص الكتابة السردية  في رواية “الأفيون والذاكرة”،  والباحث والناقد الدكتور خالد أقلعي بقراءة مخصوصة في متاهة “الخبز الحافي” لمحمد شكري. وكان مسك الختام مع الناقد والباحث الدكتور بوزيد لغلى بقراءة حول بلاغة السرد، وتسريد ثقافة الصحراء في رواية كولومينا”. ليتوّج اللّقاء بمناقشة مثمرة للأعمال المقدمة.
  وعرف اليوم الثالث انعقاد الجلسة النقدية الأخيرة التي ترأسها الباحث بوبكر الفيلالي، وشارك فيها كلّ من الباحث والناقد الدكتور محمد جلاوي عميد كلية الآداب واللغات بجامعة البويرة بالجزائر بموضوع حول الرواية الأمازيغية في منطقة القبائل من إرهاصات التأسيس إلى مستويات النضج الفني، وقد تعرّف الحضور من خلالها على معطيات مهمة تتعلّق بظروف تطوّر هذه الرواية وببعض سماتها الفنية المختلفة. وتطرّق الباحث والناقد الدكتور مصطفى رمضاني لتيمة الاغتراب في سرديات الروائي مصطفى شعبان، مركّزا على مأزق الخصوصية في الرواية المغربية. أما الباحث والناقد الجزائري الدكتور علي حمودين من جامعة وركلة فقد تمحورت مداخلته حول سؤال الزمن في الرواية الفلسطينية. وتناول الكلمة بعد ذلك الباحث السوري الدكتور محمد قرقزان ليقدم دراسة في نقد النقد حول منجز الباحث والناقد الأستاذ عبد الرحيم العلام رئيس اتحاد كتاب المغرب. وجاء دور الباحثة والناقدة الدكتورة سعيدة تاقي لتقدم ورقتها النقدية بخصوص تلقّي الرواية العربية من استطراد المتعة إلى تشكيل القارئ. وقد توّجت هذه الجلسة بمناقشة استغرقت نصف ساعة، بالنظر إلى القيمة المعرفية والإشكالات المختلفة التي تضمنتها المداخلات، ليسدل الستار على أعمال الملتقى النظرية.
       إن الملاحظة الأساس التي يمكن للمتتبع أن يخرج بها في ختام هذه الجلسات هو قدر الالتزام العلمي والأخلاقي الذي تحلّى به كلّ من طاقم إدارة الملتقى والمحاضرين والجمهور المثقّف الذي تابع هذه الأشغال، على حدّ سواء. وهو ما جعل أيام الملتقى الثّلاث تسبح في أجواء إنسانية وروحية عزيزة على الوصف، كفيلة بأن تصنّف هذه التجربة الثقافية ضمن أرقى الملتقيات العربية والغربية، على الرغم من الفرق الشاسع ما بين الإمكانات المادية واللّوجيستيكة التي تسخّر لمثل هذه الملتقيات، وبين ميزانية الملتقى المتواضعة التي أسهم فيها أعضاء المكتب الإداري لجمعية المقهى الأدبي بوجدة أنفسهم، نكرانا للذّات، ونضالا ثقافيا من أجل وضع الأساسات الراسخة لهذا الصرح الثقافي الذي تستحقّه عاصمة الشرق البهيّة، بتاريخها النضالي التليد، وبرجالها الأبطال البواسل، وبما أصبحت تشهده من إعمار شمل، بالدرجة الأولى، البنية الثقافية للمدينة من مسارح ومتاحف ومراكز ثقافية وفنية مثل “مركز الموسيقى والرقص” الذي احتضن فعاليات ملتقى الرواية في الوطن العربي.
    وبما أن هذه الدورة حقّقت معظم الأهداف التي سطّرتها إدارة الملتقى، وبلغ إشعاعها مكاتب السلطات الوصية على الشأنين الثقافي والاجتماعي بالمدينة، فقد حملت أمسية الختام وعدا من قبل مسؤول بالمجلس الإقليمي بدعم الدورة الثالثة لهذا الملتقى، وصيانة مكتسباته حفاظا على المكانة الثقافية لمدينة وجدة. وقد شهد فضاء المنزه البهيج حفلا فنيّا أحيته فرقة للطرب الغرناطي، ونسقّت فقراته الفنية والإبداعية، بمهارة مذهلة، الدكتورة إلهام محمد الصنابي. وفيها تمّت أطوار تكريم الروائيين مريم بن بختة ومحمد لهجاجي على منجزهما المعتبر، كما تمّ تتويج أمينة برواضي  بالجائزة الأولى عن روايتها “على ذمّة التحقيق”. ويتبيّن من خلال الأطوار التي عرفتها  عملية التحكيم في هذه الجائزة، والتي بسط خطوطها بتفصيل رئيس لجنة التحكيم الدكتور مصطفى سلوي، بأن السريّة والنزاهة كانتا علامتين على مصداقية الجائزة، وهو ما سوف يؤهلها مستقبلا لتصبح من أبرز الجوائز المحكّمة وطنيا ّوعربيا، وهذه قيمة رمزية خالدة تفوق القيمة المادية التي يتبدد مفعولها مع الزمن. وقد ضمت لجنة التحكيم كلّ من الباحث والناقد جمال بوطيّب، والروائية المتميّزة مريم بن بختة. وكانت آخر فقرة في هذا الحفل البهيج توزيع المؤلف الجماعي الذي يضمّ مداخلات المشاركين في أشغال الملتقى، والذي جاء في طبعة أنيقة بدعم من جامعة محمد الأول بوجدة، تحت عنوان “الرواية في الوطن العربي.. الخصوصيات والتلقي”.
     والحقّ أن العمل الجبّار الذي قام به كلّ من مدير الملتقى الدكتور عبد السلام بوسنينة، وجنود فرقته الأفذاذ الدكاترة: إلهام محمد الصنابي،  فؤاد عناني، محمد ماني، محمد الدخيسي، الأستاذ الفاضل عبد اللطيف بنصالح، وكلّ الملتفين حول جمعية المقهى الأدبي بوجدة، وفي مقدمتهم الدكتور مصطفى سلوي وغيره من أدباء المدينة وفنانيها ومثقفيها وفعالياتها وطلبتها، لا يمكن إلاّ أن يعتبر نموذجا في التدبير الثقافي يحتدى بفعاليته وجديته والتزامه. ولعلّ من أجمل صور التضحية ونكران الذات في هذا الملتقى، وأبهاها، إحجام أعضاء المقهى الأدبي عن المشاركة كمحاضرين في أشغال الجلسات النقدية على الرغم من مكانتهم العلمية المعتبرة كدكاترة باحثين في مجالات الأدب المختلفة، ولعمري هذا أجمل درس في الإيثار والتضحية شاهدته في حياتي الأدبية.
   إن ملتقى وجدة الأدبي الذي يطمح إلى أن يكون ملتقى للرواية، من حيث هي مشترك إنسانيّ ، والذي رسّخ أساساته بمحصّلة الدورة الثانية، المعرفية والإشعاعية، يملك من المقومات البشرية والثقافية وغيرها ما يؤهله ليكون في مقدمة المناسبات الثقافية الوطنية والعربية، إن أوفت الجهات الداعمة بوعودها المعلنة، ولا أظنّها إلاّ فاعلة لما عهد فيها من جديّة والتزام وتقدير للمسؤولية الملقاة على عاتقها.
هنيئا لوجدة، وللرواية المغربية والعربية بهذا الصرح الثقافي الجديد. ولنضرب موعدا مع الدورة الثالثة بحول الله تعالى ومشيئته.

 بقلم: خالد أقلعي

Related posts

Top