رحلة الصيف والشتاء.. رحلة الانتقال في الزمن والمكان. رحلة بين المتحول والمتغير النفسي /الاجتماعي/الثقافي.
أتوقف عند هذه المجموعة قارئا عاشقا لنصوصها، أُوقِد شموعَ النباهة علِّي أبصِر المغزى وأغوص في عمقها لأستجلب دُررَ المعاني من نصوص ذات نمط مختلف في الحكي حافلة بالغرائبي، والخيال، والحلم كوسيلة للإنطلاق إلى الشساعة والحرية قصدَ الانفلات من الضيق والـمُقَيّد… والحلم والخيال ملجأ خصب لقول الواقع وتفكيكه وإعادة دمجه بالشكل الذي يفرضُه الوعي واللَّاوعي : ” قلت: وأجمل منه أن نبني حلما على أرض الواقع..”1
إن هذا الحكي يَشعُ بتقنية الوصف التي أضفت على السرد رونقا وبهاءً، يشد القارئ إليه بنشوة ماتعة تُغريه ليزيد توغُّلا في القراءة، بداية بالنص الأول “هل للفراغ محل من الإعراب؟” ثم قصة “العجين” إلى نصوص أخرى يتعاضد فيها الوصف بالسرد أو كما سماه الناقد ادريس زايدي: “سردية الوصف بحيث يصبح التوصيف الدقيق تقنية شاملة للعمل القصصي”.
القاص والناقد محمد إدارغة يوقد جذوة الجمال من نار السرد، ويُطَوِّعُ بنية اللغة بمهارة فنية لبناء هيكل النص الشامخ، ويُشيِّد صومعة المعنى بتؤدة ورويّة، ويعطي عناية كافية للفظ وللعبارة وما بينهما من إشارات دالة وذات بُعد إيحائي قائمة على التأويل أو على اشراك القارئ ومُصراحته “لأن الكتابة هي فعل مشترك بين المرسل والمرسل إليه” كما أشار إلى ذلك الناقد إدريس زايدي في مقدمة الكتاب. وهذا الإشراك يكون ضمن عملية السرد -أيضا – بُغيَةَ احتواء القارئ داخل لعبة البحث – حتى ولو بعد الانتهاء من قراءة النص- هذا البحث الذي يلح على إيجاد المخرج للإشكالية أو الكشف عن الجواب للسؤال أو الأسئلة التي يمكن أن يقوم النص بإيجادها أو بإحيائها عبر ما يمارسه الكاتب من عملية تأجيج القلق المفترض لدى المتلقي سواء عبر سياق وصف المكان أو سرد الحدث أو حركة ونمط تفكير الشخصيات التي برزت بدورها -هنا- بتركيبة نفسية متناقضة بناءً على ما تعيشه من حالة انفصام أو ما تعانيه من مجابهات في صراع دائري تشكله ثلاثة أشياء: الواقع /الثقافة /الموروث.
إن تجربة القاص محمد إدارغة القصصية في مجموعة “رحلة الصيف والشتاء” تتخذ الكتابة مساحة شاسعة لتأسيس لبنات النقد الاجتماعي والسياسي والأخلاقي، هذا النقد الذي لا يخلو كثيره (في نصوص المجموعة) من عنصر السخرية سواء كانت سخرية ظاهرة أو مضمرة تمَّ التعبير عنها بالتعريض أو بشكل غير مباشر فإنها أتت غالبة على طبيعة النصوص، وكأنها تؤطر رؤية السارد للواقع والمجتمع الذي تفككت وتباعدت علاقة أفراده بالقيم والمفاهيم الجادة، وحلّت السلبية التي أثرت على نسيج المجتمع ثقافيا ونفسيًا وسياسيًا.
والسخرية تقنية تقبلُها القصة القصيرة كوظيفة نقدية يُرتجَى من ورائها طرح المفارقات لإبراز الخلل الذي يعتلي الممارسات الفردية أو المجتمعية، وفضح الظوهر المستترة والسلوكيات السلبية، فهي لا تفرض قوتها في المجموعة قصد الاضحاك أو الإستهزاء بل هي تترك بصمتها الخاصة، كـ” أسلوب يتخذه الكاتب ليتبنى موقفه من الواقع والعالم من حوله، وهي طريق سهل للنقد، والوصول بالقارئ”2، كقصة “لحوم في المزاد العلني” التي تناولت لفظتي الشيوخ والشيخات بشكل ساخر يفضي إلى تأويلات شتى تبني أفقا ساخرا في الواقع على أساس موروث شعبي أُريدَ له الانحراف…
ويلجأ الكاتب – غالبا- إلى السخرية لأنها وبتعبير فولفغانغ: ” ذرة الملح التي تجعل ما يقدم إلينا مستساغا”، خاصة “عندما يواجه (الكاتب) واقعا متصلبا، لا يسمع ولا يفهم ولا يبالي، فيكون مضطرا إلى مواجهته بأساليب مختلفة، …، فهي أفضل أسلوب لانتقاد الواقع”3 ، وكشف مساوئه، ومثل هذا نجده في قصة “رحلة الصيف والشتاء” التي تكشف معاناة رجل التعليم في رحلة أداء الوظيفة داخل بيئة وعرة التضاريس شديدة القسوة… وقصة “زغرودة في كأس” الذي كان بطلها يحاكم واقعه المقهور إلى قواعد الإعراب إنطلاقا مما يراه من تعامل نادل المقهى معه بسبب ظروفه الاجتماعية المهمشة في الوقت الذي يحاكم فيه الأخرون الأشخاص إلى شكلهم ومظهرهم الخارجي ومستواهم الإجتماعي: “ولما يجهدك الفكر ويستعصي الرد تستغيث كعادتك بسيبويه، وأنت المولع بإعراب الأشياء فليأتيك من محفوظ الذاكرة جواب جاهز: ضمير مشتهر في محل رفع فاعل، وتبقى أنت المفعول به على الدوام..” (ص 48).
وللإشارة فعنوان “زغرودة في كأس” يحيلنا على فهمين، الأول: إما أنه استوحاه الكاتب من المثل الدارج “الماء والزّغاريد” الذي يطلق على القهوة أو الشاي السيء، على اعتبار أن نادل المقهى المستفز أحضر له في المرة الأولى ما يشبه البن فقال: ” قد يكون مزيج رواسب كأس بماء ساخن ليس إلا”. والمعنى الثاني أنه قد يكون نوعا من الانتصار الذي حققه بطل القصة في نهايتها حين أحضر له النادل في المرة الثانية بعد اهتمامه بهيئته وهندامه، البن – ماركة مسجلة- وبهذا يُفهم من أن الزغرودة تابعة لموقف مفرح حقق فيه بطل القصة انتصاره النفسي الموهوم ونوعا من التعالي على النادل الذي أشعره قبل بالاحتقار باعتبار أنه يعامل الزبائن بهيئتهم وبنوع من العنصرية الطبقية.
وفي قصة جنون فوق العادة تبرز ملامح السخرية بشكل جد مختلف تتمحور حول الكتابة والمرأة وصفة الجنون التي قد ينعت بها الآخرون من اختارَ الكتابة والتعبير عن هواجسه الكامنة وتسطير ما يختلج في صدره، ولو على سبيل الخيال لا الحقيقة.
كما يشتغل نص “حكاية قصة لا تأتي” على هاجس الكتابة أيضا. فبطلها يطارد خيط البداية لقصة شاردة هاربة: ” قلت: القصة القصيرة كميدان سباق الخيل، أهم ما فيها بدايتها. والبداية لا تريد أن تأتي”.
والسخرية هي محاولة إعادة الحياة المستحقة، الجديرة بأن تعاش إلى سياقها الصحيح. وعلى رأي الأديب الألماني ريلكه “أبذل قصارى جهدك لاستعمال السخرية كأداة إضافية لتملك الحياة”، وأن تملك الحياة يعني أن ترها ذات معنى، لأن حياة بلا معنى لا قيمة لها.
كما تتنوع فضاءات نصوص هذه المجموعة القصصية:
المدينة، البادية، الحي (حي الوفاق)، المنزل، فلسطين، السطح…
لكن القاص ركز أكثر على فضاء المقهى في أغلب قصص المجموعة كمكان شاسع لتأسيس الرؤية، ويتسع لعوالم الذات الساردة ولعوالم اللآخرين من الذين يشتركون مع السارد هذه الحياة.
المقهى هو فضاء ممتد فيه تنكشف أحلام الشخصية المحورية وتتجلى هواجسها وما يؤرق بالها، وعليه فهو يعتبر (أي المقهى) في قصص المجموعة ملجأ خصبا خدم العمل الإبداعي على مستوى الحالة الإجتماعية والنفسية وساهم في تفعيل حركة الصراع البادي ما بين الذات/ الشخصية ومحيطها.
أما القضايا التي عالجها القاص، فمن بينها:
– الصحافة – القضية الفلسطينية وتعلقها بالوجدان العربي…
– الفقر والحاجة – الجهل والتخلف – والتهميش – الجنس – والبكارة والدم بمفهوم اثبات الطهارة أو الدناسة…
– اللغة العربية والتهميش (قصة: الضاد في غرفة الإنعاش) و(قصة: حكاية لا تأتي): ” فالغيرة تخنقني كلما قرأت أو رأيت أو سمعت انتهاكا لحرمة لساننا الجميل”4
– التعليم، ومعاناة المعلم ” إذ طوحت به أقلام التعيين حيث لا محل للإعراب”5، …
– التلفاز وما أحدثه من استيلاب لدى المتلقي فتخلخلت نظم كثيرة واستأثر من الوقت بالنصيب الأوفر..
ومما لا شك فيه أن كل نص خلق رؤية خاصة للحياة بناء على دعامات أساسية ومعطيات متحها القاص من الثقافة الشعبية والدينية ومن الموروث الأدبي، وبهذا أسس الكاتب نصوصا تنفتح على قراءات متنوعة ومتعددة… كما تتخذ الكتابة عند مبدعنا فضاء يمزج فيه بين الواقع والخيال بين الحلم والحقيقة، بين الكلام واللاكلام، أي المسكوت عنه، وبعبارة أخرى فهو يدفع بالمسكوت عنه ليطفو إلى السطح فيعاد فيه النظر دون حرج ولا خجل، لأن القضايا المسكوت عنها في المجتمع كثيرة، لكننا نتعامل معها بمنطق النعامة.
كما أن قارئ هذه المجموعة سيتذكر ما تشترك فيه نصوصها مع فن المقامة التي تعرف بأسلوبها الخاص بما تعتمد عليه من الطباق والجناس، وثنائية اللفظ… وهذا ما نجده عند محمد إدراغة وميز أسلوبه الجذاب، الذي يحدث إيقاعا موسيقيا متموجا، فحقق بهذا عنصر المتعة والإمتاع اللغوي، وجمالية اللفظ وسحر البيان، بالتوازي مع إيصال الفكرة والرسالة الإنسانية الحقيقية عبر الإرتكاز على السخرية كنقد وانتقاد بَنَّاء، وهكذ أزعم أن هذا التوازي حقق شرط الكتابة الأدبية عامة والقصصية خاصة.
تقع المجموعة في 108 صفحة من القطع المتوسط، وتتضمن 21 قصة قصيرة. من تقديم الشاعر والناقد ادريس زايدي. منشورات اتحاد كتاب المغرب. لكاتبها محمد إدارغة.
الهوامش
1- قصة حلم ص:18.
2 عبد اللطيف خروبة مقالة بعنوان: وظيفة الحلم والسخرية في القصة العربية القصيرة
3 السابق
4 حكاية قصة لا تأت ص77
5- رحلة الصيف والشتاء ص 60
بقلم: رشيد أمديون